يدق الأستاذ “محمد فتح الله كولن” من خلال فكره على أبواب القلب، يَطرق ويديم الطرْق: “افتح يا قلب… دعني ألج بكلماتي إليك، دعني أعالج أغلاق خزائنك، دعني أكشف عن أسرار مداخلك… دعني أطلق قواك الخفية وأدير مفتاح الفهم عن الله في روحك… دعني أبتعث فيك مواجيد الحنين، دعني أنفض عن أهداب روحك نعاسَ السنين… دعني أشق أكفان الموت عنك، دعني أبدّد ضبابيات الأرض التي تغشى وجودك… دعني أنقش صورة الآخرة على صفحة الشغاف منك، دعني أعرف ذاتك بذات الكون… دعني أعقد معرفة بينك وبين الطبيعة، وصلحًا بينك وبين شقيقك الإنسان”.
تلحظهم جيدًا؛ كنتَ قد سمعتَ عنهم كثيرًا، ولكنك الآن تراهم معك وقبالتك… هذا العشق المتفرّد للكلمة، للإبحار اليومي في أوقيانوس الفكر والثقافة… هذا التوق لجعل كل الأشياء والمفردات والظواهر والموجودات، تتشكل وتبدأ رحلتها في عالم التنامي والصيرورة والإبداع تحت مظلة الله… إنهم يعرفون جيدًا -ربما أكثر من غيرهم- أنه ما من شيء في هذه الدنيا إلا وقد قال فيه هذا الدين المدهش كلمته، أو بعبارة أخرى، إنه ما من ظاهرة أو شبكة من المعطيات إلا وهي مخترقة بقوة الإيمان الإسلامي المتعقّل حتى النخاع… مكشوف عنها النقاب لكي ما تلبث أن تصير تحت الضوء، تحت الضوء تمامًا. ومن ثم فإن أي قدر من العتمة أو الضباب، قد يكون دافعه وجود خلل ما في العين البشرية، أو في نسيج الظاهرة نفسها… أما في الجانب الآخر، فإن الإسلام قادر في أي لحظة -إذا أُحسن التعامل معه- على أن يعيد الأشياء إلى مكانها الحق، وأن يضعها في محلّها تمامًا…
في الكيمياء، في الفيزياء، في الطب، في الهندسة، في النفس، في المجتمع، في السياسة، في الاقتصاد، في القانون وفي الإدارة… كل كتل هذا الكون ونظمه، كل صلابته المدمكة وخفقانه المدهش… في مجاري الأفلاك والسدم والمجرات والشموس والأقمار، في منسربات البروتونات والنيوترونات… هنالك دائمًا كلمة الله الآمرة التي تشكل الأشياء والظواهر والموجودات وتقول لها “كوني” فتكون.
هم يعرفون هذا جيدًا… وأنت تلمح في عيونهم هذا التوق المكافح للالتحام الذي ضيعته العلمانية الملحدة… وها هم الآن (تلامذة كولن) يسعون بدءًا من أعلى الهرم الذي يتصاعد بنيانه بـ”اسم الله”، وصولاً إلى قواعده السفلى التي تجاهد لإرسائه على بركة الله.
وفي كل مرة يجد الإنسان نفسه قبالة العيون المعلقة بالكلمة، تحاول بعشق وشغف أن تخترق قشرتها الخارجية لكي تمضي إلى الجوهر والمغزى فتعانق الحقيقة في أقصى حالات ألقها وتكشفها.
يجعلونك تنغمر معهم في العشق المتفرّد… أن تفرد شراعك وتبحر معهم بما وسعك ووسعهم من جهدٍ في دنيا الله، التي يلتقي فيها العلم في أقصى حالات تعقلنه بالإيمان في أشد لحظات توهجه… هناك حيث يصير الفعل المعرفي صلاةً وصيامًا وحجًا.
وفي كل مرة يجد الإنسان نفسه قبالة العيون المعلقة بالكلمة، تحاول بعشق وشغف أن تخترق قشرتها الخارجية لكي تمضي إلى الجوهر والمغزى فتعانق الحقيقة في أقصى حالات ألقها وتكشفها.
يومًا بعد يوم تزداد الحاجة الأكاديمية والثقافية إلى التحقّق بمبدأ التكامل المعرفي الذي يدعو إليه ويتحقق به “فتح الله كولن” في كل أعماله… وبخاصة بعد ذلك الاندفاع المرتجل وغير المدروس باتجاه الاكتفاء بالمعرفة التخصصية في هذا العلم الإنساني أو الإسلامي أو ذاك، بل والذهاب أبعد باتجاه ما أطلق عليه التخصّص الدقيق الذي يعني الإلمام بهذه الحلقة أو المفردة أو تلك من حلقات ومفردات هذا العلم أو ذاك. وهي مسألة ضرورية -بكل تأكيد- من أجل إتاحة الفرص المعمقة للكشف والإضافة والإبداع في ذلك المجال. ولكن هذا لا يبّرر -بحال من الأحوال- الاعتقال في خانة التخصص الدقيق الذي لا يملك معه أصحابه فضاءً معرفيًّا واسعًا، ولا خزينًا ثقافيًّا خصبًا يمكّنهم، ليس فقط من المزيد من الإبداع في مجال تخصصهم الدقيق، بل والحضور المؤكد في ساحات الثقافة، والقدرة على إرفادها بالمزيد.
إننا نتذكر هنا علماء الرياضيات والفيزياء والكوزمولوجي الغربيين الكبار؛ “أينشتاين” و”ألفرد نورث وايتهيد” و”برتراند رسل”، كما نتذكر فلاسفة العلم الكبار؛ “ألكسيس كاريل” و”سوليفان” و”أغروس” و”ستانسيو” و”هويْل” وغيرهم كثيرون… كانوا جميعًا يملكون رؤية معرفية متكاملة مكّنتهم، ليس فقط من الإمساك جيدًا بحلقات تخصصهم الدقيق وتقديم الكشوف المدهشة في مجاله، وإنما منحتهم الفرصة للإسهام الفعّال في معترك الحياة العلمية والثقافية على امتدادها.
ونتذكر قبالة هذا، حشدًا هائلاً من المتخصصين في العلوم الإنسانية أو الإسلامية، من حملة الماجستير والدكتوراه، بل وحتى الحاصلين على درجة “الأستاذية”، تسمع لهم جعجعة ولا ترى لهم طحينًا… فهم يعانون من الضمور وعدم القدرة على الاكتشاف والإبداع والإضافة في الإثنين معًا؛ تخصصهم الدقيق وثقافتهم العامة… فهم أشبه بالمنبت الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. وإنك إذا أخرجتهم من دائرة تخصصهم الدقيق باتجاه هذا الحقل المعرفي الموازي أو ذاك، ضاعوا وضلّوا الطريق، لأنهم لا يكادون يملكون من خرائطه شيئًا. بل إنك -حتى في مجال تخصصهم الدقيق هذا- إذا سحبت من بين أيديهم النصوص الحرفية المستمدة من المراجع والمصادر، والتي يتّكؤون عليها في إنجازهم بحوثَهم، فقدوا القدرة على كتابة سطرين.
كَسْر جدران الزنزانة، وتحرير المختصين من الاعتقال في سراديبها الضيقة، تلك هي -أغلب الظن- القيمة الأساسية لمبدأ التكامل المعرفي التي يدعو لها ويشتغل عليها “فتح الله كولن” في كل كتاباته.
ليس هذا فحسب، بل إن التكامل المعرفي يعدّ ضرورة من ضرورات التأصيل الإسلامي للمعرفة، أو أسلمتَها بعبارة أدقّ. إذ كيف تتم إعادة بناء المعرفة الإنسانية في ضوء تصورات وقيم ومبادئ المعرفة الإسلامية، وكيف يتم تحريرها من هيمنة المؤثرات العلمانية -وأحيانًا المادية- التي انحرفت بمعطياتها ونتائجها فيما يتعارض وأسسَ التصوّر الإسلامي للكون والعالم والحياة والإنسان والوجود والمصير، وكيف يعود الالتحام بين الحقائق والتأسيسات المتشكلة بقوة “الوحي”، وبين كشوف العقل البشري وخبراته المتنامية في هذا الحقل أو ذاك؟
إن علمي النفس والاجتماع، وعلوم الإدارة والسياسة والاقتصاد، والتاريخ والحضارة، والآداب والفنون، لَبِأمسّ الحاجة إلى التعامل معها -بدءًا وصيرورة ونتائج ومعطيات- وفق أسس وضوابط المعرفة الإسلامية التي لا تبخل بتقديم تأسيساتها وثوابتها ومعاييرها لأداء هذه المهمة من أجل الوصول -وبالطرائق العلمية الصارمة- إلى نتائج أكثر دقة وإحكامًا. وهكذا يجيء تزويد الطالب بالمعرفتين معًا في ضوء رؤية تكاملية، فرصة ضرورية لتمكينه من هضم وتمثل مفاهيم التأصيل الإسلامي للمعرفة، والإعانة على تحقيق أهدافها، فيما ينقلنا إلى الخطوة التالية وهي البدء بنسج المشروع الحضاري الذي يستهدف انبعاث الحضارة الإسلامية، ومشاركتها الفاعلة في إعادة صياغة المصير البشري وفق معادلتها المتميزة التي يلتقي فيها الوحي بالوجود، والتعليم الديني بالكشف العقلي، ويتحقق التوازن الضائع في الحضارة الغربية الراهنة، فيما نبّه إليه وأكده كبار فلاسفة وعلماء ومؤرخي ومفكري الغرب أنفسهم.
كَسْر جدران الزنزانة، وتحرير المختصين من الاعتقال في سراديبها الضيقة، تلك هي -أغلب الظن- القيمة الأساسية لمبدأ التكامل المعرفي التي يدعو لها ويشتغل عليها “فتح الله كولن” في كل كتاباته.
وهكذا، وحيثما تَلفَّتْنا وجدنا كيف يصير “التكامل المعرفي” ضرورة إسلامية “حضارية” في الوقت نفسه، لا تخص نتائجه عالم الإسلام وحده، بل يمضي لكي يسهم في إعادة بناء العالم الذي جنحت به رياح التشريق والتغريب.
ولطالما أكد “فتح الله كولن” في كتاباته على أنه في التصوّر الإسلامي تحديدًا، لا يكفي أن يعمل العقل -والحواس بطبيعة الحال- الجهد للوصول إلى “الحقيقة”؛ إذ لابد من إعانة أو إضاءة “فوقية” تأخذ بيد العقل وتمكّنه من تحقيق المطلوب. وهكذا يصبح “الوحي” ضرورة ملازمة للعقل إذا أريد اكتناه أسرار الوجود، وإعادة صياغته بما ينسجم ومهمةَ الإنسان الاستخلافية والعمرانية في هذا العالم. وهذا يقودنا بالضرورة إلى التحقق بمفاهيم التأصيل الإسلامي للمعرفة، بمعنى اعتماد ثوابت العلم الديني المتشكل بقوة الوحي، معيارًا لبناء ما يتمخض عن الكشف العقلي الذي طالما انتهى -إذا عمل بمعزل عن ضوابط الوحي- إلى الوصول إلى نتائج احتمالية ظنية بعيدة -بدرجة أو أخرى- عن حافات اليقين، بشهادة كبار فلاسفة العلم وعلماء النفس والفيزياء والكوزمولوجي، وبمتابعة شواهد أخرى من كشوف العقل النسبية والقلقة في علمي النفس والاجتماع وفلسفة التاريخ. وهكذا فإن التأكيد على عمق الظاهرة الغيبية في البنية الكونية والإنسانية، وتغطيتها المساحات الأوسع بالمقارنة مع عالم الشهود، والاهتمام البالغ الذي أولاه التصوّر الإسلامي للغيب، يجيء مطابقًا لاستنتاجات العديد من فلاسفة العلم وعلماء الفيزياء والكوزمولوجي والنفس.
إن هذه الحقيقة تقودنا بالضرورة إلى التحقق بمفاهيم التكامل المعرفي، ليس فقط لخدمة وتأكيد المطالب الدينية والإيمانية عمومًا، وإنما وبموازاتها تمامًا إعانة المطالب العلمية على الوصول إلى أهدافها بأكبر قدر ممكن من الانضباط المنهجي إذا صح التعبير.
إن الأستاذ “فتح الله كولن” ينطلق من هذه الرؤية الصائبة في التعامل المعرفي مع الكون والحياة والإنسان والوجود والمصير… ومن ورائه تلامذته الذين تشرّبوا فكره الشمولي هذا، أولئك التلامذة الذين قدّر لهم -بقوة هذا الفكر- أن ينتشروا في الأرض، وأن يملأوا السهل والجبل، ويقيموا الملتقيات والندوات والمؤتمرات… وينشطوا في المدارس والجامعات، ضاربين في أرض الله الواسعة… إنهم “فتية إيمان… إشعاعات هدى… على كواهلهم أثقال رسالة أشفقت عن حملها جبال الأرض وأطباق السماء… وحملها هؤلاء الفتية أعجوبة الزمان وأبطال الأنام إلى أقاصي الأرض وأدانيها… يمشون… والأرض يخرقون… ووراءهم يمشي التاريخ ويتابع خطاهم ويكتب آثارهم ويترصد جلائل أعمالهم… بواطنهم موّارة بآلام أمة، وأحزان قرون، ودموع أجيال، ومآسي أزمان… لكنهم غير مثبَّطين ولا مُحبَطين ولا يائسين… الآمال من وجوههم طافحة، والبُشريات على ألسنتهم منهالة… يعملون… يجِدّون.
عرقًا يتصببون، لكنهم لا يشتكون… بالغربة يأنسون، وبكلمة الله التي يحملون، قلوبًا يفتحون، وأعلامًا للهدى يركزون، وراية محمد عليه الصلاة السلام على قمم العالم يقيمون… لا ينكصون وعن غاياتهم لا يرجعون”.
هذا ما يريد أن يقوله واحد من أشد المخلصين لفكر “كولن”، المتشربين مفرداته ومقاصده، العاملين بالجدّ المطلوب على التماهي مع فكره ونشره في الأرض… في كتاب يحمل عنوان “الضاربون في الأرض” بكل ما يعنيه من دلالة، محاولاً فيه أن يلقي نظرة مترعة بالشفافية، قديرة على تحقيق المقاربة مع فكر هذا الرجل الكبير ذي العطاء الخصب الذي تشهد به مؤلفاته المتلاحقة تترى على الناس.
ومَن أقدرُ من الأخ الأستاذ “أديب الدباغ” على تحقيق هذا، بلغته الشفافة وقدرته على استنطاق ما وراء الملموس والمنظور، وبإيغاله في عالم الإنسان الذي أراد له الله سبحانه أن يُعمل عقله وروحه وحسّه ووجدانه في الظواهر والأشياء؟
عرقًا يتصببون، لكنهم لا يشتكون… بالغربة يأنسون، وبكلمة الله التي يحملون، قلوبًا يفتحون، وأعلامًا للهدى يركزون، وراية محمد عليه الصلاة السلام على قمم العالم يقيمون… لا ينكصون وعن غاياتهم لا يرجعون”.
إنه يمسك في كتابه هذا بالعديد من نقاط الارتكاز في فكر “كولن” عبر جملة من مؤلفاته القيّمة، مسلطًا عليها الضوء الكاشف الذي يعرف كيف ينفذ إلى عمق الظاهرة فيضع يده على نبضها الأصيل… عن التاريخ والحضارة، عن العقل والتغيير المنتظر، عن الكلمة والفكر، عن التجديد الدعوي، عن أدبيات الشيخ “كولن”… عن معارج القلب الإنساني والفاعلية الحركية في الفكر والحياة… عن روح الجهاد… عن كيف نبني حضارتنا ونقيم صرح الروح… عن الخلق ونظرية التطور… عن القرآن والسيرة النبوية… عن القيادة، عن الثقافة… عن مدارس النور وبناء العقول… وعن الرؤية الكونية لمناهج التعليم… وعشرات غيرها من المفردات الأساسية في فكر الرجل، يضعنا الأخ “أديب الدباغ” قبالتها تمامًا، مشغّلاً أسلوبه المتميز في الكشف والإضاءة والتحليل… فما يزيدنا إلا إعجابًا بفكر الشيخ ورغبة في مواصلة قراءته، والتزامًا بدعوته الصادقة المخلصة التي قَدرت على أن تجذب هذه الحشود الكبيرة من الشباب العاملين، الذين يتمنى أحدهم أن يفني عمره في الدعوة لهذا الدين العظيم، ولمشروعه الحضاري الذي يبشّر به.
ويبقى أن فكر الأستاذ “فتح الله كولن” هو امتداد طبيعي لفكر أستاذه بديع الزمان سعيد النورسي، ومحاولة جادة للمضي به قدمًا صوب الأمام، بموازاة وفي مجابهة كل صنوف المتغيّرات والتحديات التي تفجّرت في العصر الحديث، من أجل تقديم الاستجابات الناجعة لها، والتي قدّمت الكثير وهي فوق ما قدّمته تعد بالكثير.