اليوتيوب: بين الهداية والتضليل

مع التطور الهائل للتكنولوجيا، صار الحصول على المعلومة والفائدة أمرًا يسيرًا، فأضحت المعارف والمعلومات سهلة المنال. وتُعد الفيديوهات من أهم هذه الوسائل لكونها تجمع بين الصورة والصوت والكتابة ضمن إخراج جميل ومدروس، الأمر الذي جعل تلقي المعلومة عبرها أسهل وأيسر من القراءة في الكتب.

يُعد موقع اليوتيوب بكل جدارة وسيلة إعلامية أنترنيتية فائقة العطاء والانتشار. بدأ العمل به في شهر فبراير 2005م، وهو من تأسيس “تشاد هيرلي” و”ستيف تشين” و”جاود كريم”، الذين كانوا موظفين في شركة “باي بال”. وتكمن أهم مزاياه في إتاحة رفع الفيديوهات بغية مشاهدتها من قبل الغير والاستفادة منها.

وها هو الموقع اليوم يحتل الرتبة الثالثة مقارنة بباقي المواقع المتصفَّحة يوميًّا، وليس من المبالغة القول إن هذا الموقع يحظى بمليارات المشاهدات خلال اليوم الواحد، وذلك لما يحتويه من فوائد ومزايا كثيرة ومتنوعة تستجيب لرغبات المتصفحين باختلاف أعمارهم وميولهم وما يستهدفونه منه، إضافة إلى مجانيته وسهولة استخدامه، وإتاحته الاستفادة من كل تطبيقاته ومضامين مقاطعه المتنوعة. وهو في ذلك لا يقتصر على تعليم متصفحيه، بل يساعد بعضهم أيضًا على ربح المال. وتبعًا لذلك، فقد تمكن الموقع من الحصول على جائزة “بيبودي” لعام 2008، وتم الاستشهاد به كأروع وأجمل ركن للمتحدثين، وكخير مجسِّد ومعزِّز للديمقراطية.

المعلم المتعدد

لن نبالغ إذا قلنا إن اليوتيوب بات وسيلة متعددة الفوائد بامتياز؛ فهو من أنجع وأفضل وأجمل المواقع المعينة على الاطلاع والانتفاع المجاني، فلا يكلّفك سوى الإقبال عليه وتحديد المراد منه. وليست فوائده محصورة في حملها إلينا فحسب، بل في جعلها نابضة تأتي من ذويها لتصلنا في أي مكان وبشتى اللغات. وبهذا يتم تبادل الآراء ووجهات النظر حول قضايا اجتماعية وفنية وسياسية وغيرها عبر الاستماع والمشاهدة والتعليق، مع إبداء الإعجاب بمستوى المبثوث فيه عن طريق “اللايكات” أو عكسها.

يفيد اليوتيوب الطلبة ليس في بث دروس مقرَّرة فحسب، بل في توجيههم إلى كيفية الاستيعاب والتركيز والإعداد والإنجاز لكل المطلوبات التي يُكلَّفون بها. فصار الطالب يستقبل خيرة الأساتذة عبر شاشة حاسوبه وهو متكئ على وسادة، وحيدًا بلا رقيب، يتلقى المعلومات ويأخذ منها ما يريد، ويستبدل هذا المقطع بذاك حتى يعثر على ضالته فينهل منها ما ينبغي. فهو يقدم – وبصورة وصوت جميلتين – عروضًا وتلاخيص لدروس الأساتذة الذين لهم خبرة عميقة في المجال، فيستفيد منها في ذات الوقت الطلبة المعنيون والأساتذة المتدرّبون.

والبحث في الموقع يحيلك على نتائج ومعلومات عن الشيء المبحوث عنه، مقدِّمًا توصيفًا لكل مقطع من المقاطع المعروضة، فيجعلك تتوصل إلى المقطع الذي يلائم بحثك واهتمامك. لقد صار الإنسان لا يحتاج إلى السفر والبحث المضني في أرجاء المكتبات ودفع الأجور للمدرسين من أجل اكتساب مهارة محددة؛ فاليوتيوب كفاه مشقة ذلك. فعبره تقف على مختصين وخبراء ودكاترة في مجالات مختلفة يتواصلون معك بصدد ما تريد وما تختار: فهذا يوجّهك إلى طريقة البحث، وهذا يريك مجموعة من المراجع ينبغي التركيز عليها، وهذا يضع أمامك قواعد اكتساب مهارة أو صقل موهبة، وهذا يجعلك تتعرف على طريقة ربح الرهان في عالم متغير يتطلب الكثير، وهذا يوجّهك إلى الطرق المثلى من أجل العيش باتزان واطمئنان.

على اليوتيوب ستجد فقهاء ومفتين، وخبراء في التنمية البشرية، وأساتذة إبداع في كل المجالات. ما عليك سوى الجلوس أمام الحاسوب مستحضرًا رغبتك في المعرفة قبل أن تتلقى ما تريد من معلومات، وبإمكانك الانتقاء بين المقاطع اليوتيوبية وفق ما ترغب وما تشتهي. فهناك أقسام تعليمية وتربوية وتوجيهية تتيح لك الوصول إلى فيديوهات في المجال المختار بصورة عالية الجودة.

يوفّر اليوتيوب على مستخدميه وقتًا طويلاً وجهدًا كبيرًا حين يجعلهم – وفي دقائق معدودة – يقومون بتحميل مادة يستهدفون الاستفادة منها، بحيث يمكنهم إعادة عرضها مرات حتى يبلغوا مرادهم منها. وقد صار بعض المدرسين يميلون إلى إنجاز دروسهم بطريقة تنشيطية تُدرج فيها فيديوهات جاهزة ومتوفرة على اليوتيوب.

وقد جربنا الاشتغال على دروس باستخدام مقاطع مأخوذة من اليوتيوب، فجاءت ممتعة أضفى عليها ذلك حيوية وجاذبية خلقها اعتمادًا على المؤثرات المشهدية والموسيقية والصوتية، مما جعل الدرس محبوبًا أخرج المتعلمين من الروتين اليومي المعتاد الباعث على الملل. فاليوتيوب وسيلة فعالة في الجذب والإمتاع في التعليم سواء داخل الفصول أو خارجها. وكثير من المؤسسات التربوية في شتى البلدان عملت على تسجيل الدروس والمحاضرات على المواقع اليوتيوبية لتتيح تلقيها من قبل الراغبين في ذلك.

اليوتيوب ينوع مصادر ومراجع المواد التثقيفية والفنية، علاوة على تنويع أساليب تناول نفس الموضوعات من قبل المختصين، ويجعلك تقف على الكثير من الأمور الشخصية التي تروم معالجتها وتريد كتمانها، فيقدم لك مقاطع تعالج ذلك انطلاقًا من الحديث العام عنها، مما يجعل الجميع يستفيد منها.

يأتيك بالمجادلات والمناظرات والمحاضرات ومناقشاتها، فيعفيك من الحضور وقطع المسافات وصرف الأموال. وبهذا يكون اليوتيوب منصة تكفل لنا البحث في ثناياها عن مبتغانا في شتى المجالات، والأهم من ذلك أن هناك الكثير من القنوات المتخصصة في الأعمال اليدوية والمهن، مما يجعله أداة للارتقاء بالأداء الإبداعي والمهني لكل من يرغب في ذلك، علمًا أن عرض العمليات التطبيقية لن يعوقه عامل اللغة.

أعرف فتاة انقطعت عن المدرسة فاختارت التوجه إلى التكوين المهني، واختارت مجال الطرز والخياطة، وكانت تقطع كيلومترات لتصل إلى مؤسسة التكوين، وكان أبوها يضطر أن يرافقها يوميًا أو يكلف من يقوم بذلك. وبعد انتشار خدمات اليوتيوب صارت تتعلم ما كانت تتعلمه خارج بيتها وهي قابعة أمام شاشة حاسوبها، وحدث أن تعلمت الكثير وبسرعة بعيدًا عن المتاعب التي عانت منها سابقًا.

أما هواة الرسم، ومنهم أحد أبنائي، فقد وجدوا ضالتهم في اليوتيوب؛ يتعلمون منه كل فنون الرسم وبشتى التقنيات والأدوات مجانًا. وكما يجعلك تستفيد، يجعلك تفيد الغير، فهو يتيح لك أن تعلّم الآخرين كما تتعلم، وتشاركهم مواهبك ومعلوماتك وبحوثك. وقد يكون ذلك مدخلاً للحصول على المال بتأسيسك قناة خاصة على اليوتيوب تدر عليك الأرباح وفق عدد المعجبين والمشتركين فيها.

في اليوتيوب ستشاهد برامج الرياضة والسحر والحيوانات والنباتات والتربية الجنسية والتربية الخُلقية والأعمال اليدوية والأعاجيب والغرائب وعادات هذا الشعب أو ذاك. ستشاهد كيفية صنع الحلوى والمزهريات والأبواب والسيارات… وكأن اليوتيوب صورة مصغرة لكل ما يجري في العالم. وبهذه الحيثيات، خلق للمشاهد واقعًا تواصليًّا وتعليميًّا لم يسبق له مثيل. إنه اليوتيوب العبقري الذي صار أستاذ كل من لا أستاذ له.

المعلم المضلِّل

رغم أن اليوتيوب له كل هذه الفوائد التي يصعب عدها، فإن له محاذير ينبغي أخذها بعين الاعتبار؛ فليس كل ما يُبث عليه صحيحًا وموثوقًا به، فكما يستطيع أن يحمل إلينا الخير يمكن أن يحمل إلينا الشرور بكل ضروبها، فهو متاح لأعداء الإنسانية كما هو متاح لمحبي الخير.

ولذا على الآباء أن يكونوا حريصين على مراقبة أبنائهم وهم يتصفحون مواد اليوتيوب، حتى يساعدوهم على انتقاء الإيجابي منها بعيدًا عن سلبياته التي تبعدهم عن سبل العلم وتنمية المهارات، وقد تسقطهم في مستنقع الرذيلة والموبقات. ولنتذكر دومًا أن كثيرًا من الأمور النافعة قد يكون لها وجهها السيئ الذي يجب الاحتراز منه بكل الوسائل.