صلة الإيمان الحق بسعة الرزق

بداية، لا يُقصَد بالإيمان مجرد إعلان المرء بلسانه أنه مؤمن، فما أكثر المنافقين الذين قالوا: “آمنا” بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 8-9).
وليس مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتيد أن يقوم بها المؤمنون، فما أكثر الدجّالين الذين يتظاهرون بالصالحات وأعمال الخير وشعائر التعبّد وقلوبهم خراب من الخير والصلاح والإخلاص لله، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ۚ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(النساء: 142).

وليس مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان، فكم من قوم عرفوا حقائق الإيمان ولم يؤمنوا، قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾(النمل: 14).
وحال الكبر أو الحسد أو حب الدنيا بينهم وبين الإيمان بما علموه، من بعد ما تبين لهم الحق، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(البقرة: 146).

بل يُقصد بالإيمان في حقيقته هذا العمل النفسي الذي يبلغ أغوار النفس ويحيط بجوانبها كلها من إدراك وإرادة ووجدان. فلا بد من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه في الواقع، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم.
ولا بد أن يبلغ هذا الإدراك العقلي حدّ الجزم الموقن واليقين الجازم الذي لا يُزلزله شك ولا شبهة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾(الحجرات: 15).

ولا بد أن يصحب هذه المعرفة الجازمة إذعانٌ قلبي وانقياد إرادي يتمثل في الخضوع والطاعة لحكم من آمن به، مع الرضا والتسليم، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(النساء: 65)،
وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ (النور: 51)، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(الأحزاب: 36).

ولا بد أن يتبع تلك المعرفة وهذا الإذعان حرارة وجدانية قلبية تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة والالتزام بمبادئها الخلقية والسلوكية، والجهاد في سبيلها بالمال والنفس. ولهذا نجد القرآن الكريم يصف المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾(الأنفال: 2-4). وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.

كما يعرض القرآن الكريم الإيمان في أخلاق حية وأعمال ناصعة يتميز بها المؤمنون من الكفرة والمنافقين، منها قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾(المؤمنون: 1-9).

إنه الإيمان الذي يتجسد في خاتمة العقائد السماوية، عقيدة الإسلام، كما بينها القرآن الكريم وهَدْيُ الرسول العظيم، متمثلة في الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين.

الإيمان وسعة الرزق: وعد الله بالبركات

هذه العقيدة الإيمانية في الله وتقواه تؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض، وعدًا من الله، ومن أوفى بعهده من الله؟
والذين يتصورون أن الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة لا صلة لها بواقع الناس في الأرض لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله سبحانه وتعالى، وكفى بالله شهيدًا، ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾(الأعراف: 96).
أي لو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار، لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض مفتوحة بلا حساب.

وهذا النص يشير إلى حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء، وإلى عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسانية تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال، بل تنكره كل الإنكار!
وهو أن العقيدة الإيمانية في الله وتقواه ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة وعن خط تاريخ الإنسانية، بل تؤهلان -كما سبق ذكرنا- لفيض من بركات السماء والأرض، وعدًا من الله، ومن أوفى بعهده من الله؟!
ونحن المؤمنين بالله نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن فنصدقه ابتداءً، لا نسأل عن علله وأسبابه، ولا نتردد لحظة في توقّع مدلوله.

والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى، لا يفصلها النص ولا يحددها، فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها: ما يعهده الناس، وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة، بركات تنمّي الحياة وترفعها في آن واحد، وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردّي والانحلال.

فالبركة قد تكون مع القليل، إذا أُحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح.
وكم من أمة غنية قوية، ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطّعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق، وينتظرها الانحلال، فهي قوة بلا أمن، ومتاع بلا رضى، ووفرة بلا صلاح، وحاضرٌ زاهٍ يترقّبه مستقبل نكد، وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال.

ثمرات الإيمان والاستقامة: وعد الرزق والحياة الطيبة

قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿٦٥﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾(المائدة: 65-66).

يقول الله سبحانه وتعالى لأهل الكتاب، ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب: إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا، لكفّر عنهم سيئاتهم، ولأدخلهم جنات النعيم، وهذا جزاء الآخرة. وإنهم لو كانوا قد حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله المتمثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل، لصلحت حياتهم الدنيا، ونمت وفاضت عليهم الأرزاق، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ووفرة النتاج، وحسن التوزيع، وصلاح أمر الحياة.

ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون، ولا يقيمون منهج الله، إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل، مقتصدة غير مسرفة على نفسها: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾.
وهكذا يبدو من خلال هاتين الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده، وإن كان هو المقدم وهو الأدوم، ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة: وفرة ونماء، وحسن توزيع وكفاية، يرسمها في صورة حسية تُجسِّم معنى الوفرة والفيض في قوله: ﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾.

فالأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي. وهذا ما لا يتحقق إلا إذا قامت الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس.

وإن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بهم فقط؛ فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أُنزل إليهم من التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة. فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن، الذين يقولون إنهم مسلمون.
فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم الإيمان بما أُنزل إليهم وما أنزل من قبل، والعمل بكل ما أُنزل إليهم، وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم.
وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد، وقد انتهى إليه كل دين قبله، ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره، أو يقبل من أحد غيره.

فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم، وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم، وأن يستجيبوا لما شرطه الله لهم لتكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة، وللأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا.
إنهم أولى أن يستجيبوا لما شرطه الله لهم، بدلاً من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه. وشرط الله قائم، والطريق إليه معروف، لو كانوا يعقلون.

وكما قال تعالى في سورة الجن آية 16: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾. أي: لو أن هؤلاء الكفار آمنوا، لوسعنا عليهم في الدنيا، وبسطنا لهم في الرزق.

وهذه الآية تؤكد حقيقة الارتباط بين استقامة الأمم على الطريقة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة.
وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف حتى استقاموا على الطريقة، ففُتحت لهم الأرض التي يُغدَق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة، فاستُلبت منهم خيراتهم استلابًا، وما يزالون في نكد وشظف حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله.

كما وعد الله تعالى مَن عمل صالحًا -وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم- وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وعده بأن يحييه حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة.
قال تعالى في سورة النحل آية 97: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

وقد رُوي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسّروا الحياة الطيبة بالرزق الحلال الطيب، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة، وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إنها السعادة.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة.
وقال الضحاك: هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا.
وقال الضحاك أيضًا: هي العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.

كما أن الحياة الطيبة في هذه الأرض لا يلزم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال؛ فقد تكون به، وقد لا تكون معه، ففي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تُطيب بها الحياة: منها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، ومنها الصحة، والهدوء، والرضا، وسَكَن البيوت، ومودات القلوب، ومنها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصرًا واحدًا، يكفي منه القليل.