الحاسة السادسة.. إدراك واستبصار

منذ زمن بعيد، والناس يعتقدون أن هناك أشخاصًا مُنحوا البصيرة وكُشف عنهم الحجاب لرؤية الأمور وتوقع ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد. ومن المعلوم أن الحواس الطبيعية هي الوظائف الموجودة في الجسم من: إبصار، وسمع، وذوق، وشم، ولمس، والتي يتعرف المرء عن طريقها بما يجري حوله من أمور.

أما الحاسة السادسة، فهي القدرة على التوقع أو الشعور أو ما وراء النفس، وهي تختلف من فرد إلى آخر، وزائدة على الحواس الخمس، وهي عبارة عن الإدراك خارج الحواس، واستبصار الهاجس، أو هي تطور في إدراك أحد الحواس يجعل الشخص يشعر أو يدرك أمورًا لم يدركها الآخرون من حوله. فبعض الأشخاص يتمتعون بقدرة عجيبة على ربط الأمور وفهم حركات الناس وأقوالهم…

ارتباط الحاسة السادسة بالممارسات الروحية

ترتبط الحاسة السادسة في المقالات الغربية بالممارسات الروحية، وهي التمارين والأنشطة التي تعمل على تصفية الروح ونقائها، والوصول بالذهن إلى بؤرة التركيز. ويُقال إن التدرب على شيء معين خلال مدة من الزمن، خاصة إذا ما كان الفرد صغيرًا في السن، يجعله يكتسب قدرة تميزه عن البقية ونطلق عليها الحاسة السادسة. وإن قدراتنا في الوضع الطبيعي تكون قادرةً على التّعامل مع الأمور المحسوسة فقط، فهي لا تتضمن القدرة على فهم السبب والنتيجة، والعلاقة الخفية وراء العديد من الأحداث التي تعتبر أبعد من فهم العقل الطبيعي.

هل يتمتع كل البشر بالحاسة السادسة؟

تقول الكاتبة ناتالي سابيرو في مقال نشرته صحيفة (Le Figaro) الفرنسية، إن الحاسة السادسة شيء مدهش لأغلب الناس، فهي عبارة عن معلومات تُفرض علينا من دون وعي، ولا يمكن تفسيرها تفسيرًا منطقيًّا، بينما ترى اختصاصية علم النفس الإكلينيكي جان سيود فاكشين، أن الأمر ليس فيه أي جانب روحاني؛ لأن الحدس يعتمد على التجميع السريع لكمية كبيرة من المعلومات الحسية في لحظة معينة، وهو نوع من المسح يكون في حدود 360 درجة، وفي مستوى أدنى من الوعي.

ويمكن أن تُربط الحاسة السادسة كمصطلح دارج بين الناس بالفراسة، وهذا العلم يُعد من العلوم الطبيعية التي تمكننا من معرفة بواطن الناس من خلال النظر إلى أحوالهم الظاهرة عن طريق الأشكال والحركات، والفراسة نابعة من فطنة ذهن الفرد الموهوب، وقوّة إيمانه، فالمسلم الذي يتسم بالصدق، وتحري الحلال في مأكله ومشربه، يقذف الله في قلبه نور البصيرة، قال صلى الله عليه وسلم: “اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله”.

فالفراسة أمر فطري وتوفيقي من الله تعالى لعبده، وليست لها علاقة بمعرفة الغيبيات؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله. وهي أمر يمارسه الكثيرون في حياتهم اليومية من خلال مهنهم أو لمجرد التوقع والتحليل، فنجد على سبيل المثال أن المحققين يعرفون المجرمين لمجرد النظر في وجوههم وأعينهم وحركات أجسادهم…

الحاسة السادسة تنشط وتخبو

عند تعرضنا لخطر، أحيانًا نجد الظهور الفجائي لقوة خارقة تقذف بنا بعيدًا عن مكمن الخطر، وهذه المقدرات والمنح الربانية للإنسان لا تصطدم بمعرفة الغيب؛ لأنها تقرر مواقف وتستبصر أشياء خارجة عن نطاق الغيبيات، وهي صفات ثابتة يعرفها صاحبها ومن حوله، كتوقعات بحدس الحاسة السادسة.

وقد يتعرف الإنسان أحيانًا على شخص وسيم مهذب، لكن لا يشعر بارتياح له، وعلى العكس يحس بهاجس لا يدرك مصدره ولا سبب ينفره منه، فإذا ما توثقت العلاقة به، أثبتت الأيام صدق الإحساس الذي نهاه عن صداقته. وهذه في الواقع جوانب من عملية تواصل حسي صافية، مبعثها الحدس أو الاستبصار، أي الحاسة السادسة. أقلها أن تشعر بعدم الارتياح لشخص ما أو قرار ما، ويتحقق فيما بعد سبب لهذا الشعور.

وفي جامعة كاليفورنيا، أُجريت دراسات مطولة أثبتت أن الإنسان يستطيع أن يُرسل إشارات حسية للغير، كما يستقبل من الغير إشارات أو يحس بأحداث أثناء وقوعها في مكان بعيد، بل حتى قبل وقوعها. فالأشخاص الذين يقعون في ضيق أو تنتابهم الآلام، يتذكرون أحبَّ الناس إليهم من الأقرباء والأصدقاء، وقد يستحضرونهم في خيالهم، وحقيقةً يشعر هؤلاء الأقرباء وقت مرور أحبتهم بتلك الأزمات بغصة مفاجئة، أو ربما تطرأ عليهم ظواهر عضوية كخفقان القلب والتأثر النفسي. وهذا يدل على أن الإنسان يمكن أن يكون مثيرًا للحاسة السادسة عند غيره، مثلما هو مستقبل بها لإشارات حسية يستبصرها، ويكون الإنسان في أقصى حالات القدرة على الإرسال أو الإيحاء كلما اشتدت انفعالاته وتأثره الوجداني، بينما يكون في أقصى حالات الاستقبال والاستبصار عندما يكون على قدر كبير من الراحة وهدوء الأعصاب.

أثر العبادة في تقوية الحاسة السادسة

هذه قصة “يا سارية الجبل، الجبل”، من شواهد من تاريخنا الإسلامي تدل على أثر الطاعة والعبادة في وجود الحاسة السادسة وتقويتها، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يخطب يوم الجمعة، فعرض في خطبته أن قال: “يا سارية الجبل! من استرعى الذئب ظلم”، فالتفت النّاس بعضهم لبعض، فقال لهم عليّ: “ليخرجن مما قال”، فلما فرغ سألوه، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجه واحد، وإن جاوزوا هلكوا، فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه. فجاء البشير بعد شهر، وذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم، قال: “فعدلنا إلى الجبل ففتح الله علينا”.

وورد أنه دخل رجل على عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عثمان: “أيدخل عليّ أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه؟” فقالوا: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: “لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة”.

والمسلمون يسمّون هذا النوع من الشعور بالفراسة، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: “أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف حين قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حين استخلفه”.

ومن نافلة القول: تُعتبر الحاسة السادسة موضوعًا مثيرًا للجدل، حيث يمتزج فيها العلم مع الخيال والغموض، وعلى الرغم من غياب الأدلة العلمية القاطعة التي تُثبت وجود هذه الحاسة، إلا أن التجارب الشخصية والقصص تدعم فكرة وجود قدرة حسية إضافية تفوق الحواس الخمس التقليدية… وسواء أكانت الحاسة السادسة حقيقة أم مجرد وهم، فهي تفتح لنا موضوعًا جديدًا لفهم الطبيعة البشرية وما يمكن أن تحمله لنا من إمكانيات غير معروفة من قبل.

الهوامش:

– سنن الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، القاهرة، دار مصطفى البابي، ط1، 1395هـ/1975م، كتاب: أبواب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الحجر، حديث رقم: (3127)، الجزء: 5، ص: 298. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. قال الألباني: ضعيف.

– كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، تأليف: إسماعيل بن محمد العجلوني، القاهرة، مكتبة القدسي، ط1، 1351هـ/1932م، الجزء: 2، ص: 381.

– مدارج السالكين بين منازل “إياك نعبد وإياك نستعين”، محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ/1996م، الجزء: 2، ص: 455.