تدوير المعلومات: بين فائض المعرفة وخطر التضليل

في بدايات القرن الحادي والعشرين، بزغت مفردات جديدة تعبّر عن تحولات كبرى يشهدها العالم، منها مصطلح “تدوير النفايات” الذي بات من بديهيات الخطاب البيئي. ولكن لو تأملنا عالم المعرفة اليوم، لا سيما في ظل طفرة التكنولوجيا الرقمية، لتبيّن لنا أن هناك نفايات من نوع آخر، نفايات غير مادية، لكنها لا تقل خطورة عن تلك المتراكمة في مدافن القمامة. إنها نفايات معرفية تتكدّس في فضاء العقول والمنصات، تُستهلك ويُعاد إنتاجها، وتتسرّب إلى الوعي الجمعي دون تمحيص.

وفي عالمنا اليوم الذي يعجُّ بالأصوات هنا وهناك، وتتكاثر فيه البيانات كما تتكاثر الحشرات حول ضوءٍ ساطع في ليلٍ مظلم، نعيش اليوم ما يمكن وصفه بـ”فائض المعلومات” (Information Overload)، أو ما يطلق عليه خبراء الإعلام بـ”التخمة المعلوماتية”. ذلك الفائض الذي لا يختلف، من حيث الخطر، عن فائض النفايات في المدن الكبرى.

وكما طُرحت فكرة “تدوير النفايات” كحلٍ للتقليل من أضرار الفائض المادي، أقترحُ هنا مصطلح “تدوير المعلومات” كتشبيه مقصود لتدوير النفايات، إذ نجد تشابهًا عميقًا من حيث المبدأ والنتائج: كلاهما يتعاملان مع فائض، وكلاهما يُعيدان استخدام المحتوى بشكلٍ يُبقيه في الدورة الحياتية، وكلاهما يهددان التوازن، إن لم يُدارا بعقلانية ووعي. ولا أقدّم هذا المصطلح هنا بوصفه حلًّا، بل بوصفه ظاهرة تستحق التأمل والتحليل.

ويمكن تعريف “تدوير المعلومات” بأنه إعادة إنتاج البيانات والمعارف والمقولات ــ صحيحة كانت أم مغلوطة ــ وتكرار نشرها عبر وسائط متعددة، حتى تُفقد قيمتها، وتُصبح كالماء الآسن، لا يُرتجى منه ارتواء. وربما الأخطر، أن هذا التدوير لا يفرّق بين الحقيقة والكذب، وبين الموثوق والمفبرك، وبين الحكمة والشائعة. فهل نحن أمام عصر الوفرة أم أمام فوضى المعنى؟ وهل أصبح الإنسان المعاصر يتغذّى على “معلومات مُعاد تدويرها” كما تأكل الأرض ما يُلقى فيها من مخلّفات؟

عصر فائض المعلومات

في الماضي، كان الحصول على مرجع علمي، أو معلومة تاريخية، أو تحليل سياسي، يتطلب وقتًا وجهدًا وبحثًا مضنيًا في الكتب والمراجع. لم يعد الوصول إلى المعلومة اليوم أمرًا عسيرًا. فالمعلومة تقفز أمامك، بلا طلبٍ أو عناء، من هاتفك أو جهازك الذكي، وقد تأتيك قبل أن تفكّر في السؤال عنها! لقد شكّلت الثورة الرقمية تحولاً جذريًّا في بنية المعرفة الإنسانية. فمن اللحظة التي فتحنا الباب على مصراعيه للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت كل معلومة، مهما بلغت دقتها أو تفاهتها، قابلة للنشر والمشاركة والاقتباس وإعادة الصياغة بحيث تُبنى عليها تحليلات وتأويلات كما لو كانت المعلومة حقيقةً لا يمكن دحضها.

ولكن، في هذا التيسير المذهل للحصول على المعلومة يكمن فخ خفيّ: فكلما زادت سهولة الوصول، قلّت رغبة الإنسان في التمحيص، وكلما انفتحت القنوات أمام الجميع، تساوت الأصوات، وتساوى الخبير مع غيره، في “سوق” معلومات لا يعترف إلا بسرعة الانتشار.

هذا “الفيض” المعرفي لا يعني بالضرورة اتساعًا في أفق الفهم. بل هو حالة من التشتت الذهني الناتج عن كثافة البيانات، وصعوبة الفصل بين الغثّ والسمين. إننا لا نعاني من نقص في المعلومة، بل من فائضٍ خانق منها، وخصوصًا من نوعية متدنية، يُعاد تدويرها دون مراجعة أو تمحيص. وقد يؤدي هذا إلى التخمة، تمامًا كما تؤدي كثرة الطعام إلى السمنة غير الصحية. وما أكثر من يستهلكون “المعرفة” اليوم دون هضمها جيدًا! إننا نشهد تراكمًا هائلاً في حجم المعلومات، مقابل تراجع ملحوظ في نوعيتها، مما يُفضي إلى ما يمكن وصفه، مجازًا، بـ”التلوث المعرفي”.

إن العقل المعاصر مهدد ليس بالجهل، بل بتضخُّم المعرفة السطحية، المعرفة الخفيفة، العابرة، السريعة، التي تُستهلك في لحظات، ثم تُنسى. والأخطر من هذا، تدويرها وإعادة إنتاجها بغير تحقق أو تمحيص. هكذا يصبح الإنسان المعاصر ضحية فائض معرفي/معلوماتي، لا يملك القدرة على التمييز بين ما ينبغي أن يُصغى إليه، وما ينبغي أن يُهمل. والنتيجة؟ عقلٌ مترهّل، تغذّيه مقتطفات ومقاطع مجتزأة، وآراء متضاربة، وسياقات مبتورة، حتى بات كثير من الناس يعيشون في فقاعات معرفية مشوّهة لا تُنتج فهمًا حقيقيًّا، بل تُكرّس حالة من الوهم المعرفي.

إعادة تدوير الحقيقة: من التكرار إلى التزوير

متى تصبح المعلومة ملوّثة؟ تصبح ملوّثة عندما تفقد سياقها، وعندما تُقتطع من أصلها، وعندما تُنقل بغير تحقق، وعندما تتحوّل من نص موثوق إلى مجرّد أداة في يد من يفتقر إلى أدوات التحليل. إنّ “تدوير المعلومات”، كما أقترحه هنا، هو عملية نقل وتكرار المحتوى دون إضافة أو تدقيق، وأحيانًا دون فهم. والمفارقة أن هذه العملية تُضفي على المعلومة مظهرًا من الشرعية الزائفة. فالتكرار يمنحها رصيدًا شعبيًّا واسعًا، حتى وإن كانت خاطئة.

الخطورة الكبرى في “تدوير المعلومات” تكمن في قدرة المعلومة ــ بمجرد تكرارها ــ على التحول إلى “حقيقة” اجتماعية، وإن كانت زائفة. فحين يُعاد نشر معلومة مغلوطة آلاف المرات، تصبح بمرور الزمن أشبه بالبديهية، حتى لو كانت في الأصل كذبًا محضًا. إن التكرار لا يكتفي بتثبيت المعنى، بل قد يصنعه من العدم. وقد قيل قديمًا: “اكذب، ثم كرّر الكذبة، ثم كرّرها، وستُصدَّق في النهاية”.

هذا ما يدركه تمامًا صانعو الإشاعات ومروّجو الأكاذيب. فتزوير الحقائق اليوم لا يحتاج إلى وثائق مزوّرة أو شهادات زائفة، بل يكفي أن تُقدّم المعلومة المغلوطة ضمن قالبٍ جذّاب، ثم يُعاد تدويرها، لا بالضرورة لأهداف خبيثة، بل أحيانًا بدافع الفضول أو التسلية. وهكذا تتوالى الموجات، وتضيع الحقيقة بين جدران “غرف الصدى” (Echo Chambers) التي تُعزز ما نريد أن نسمعه، لا ما ينبغي أن نعرفه. ولعل وسائل التواصل الاجتماعي، بما تتيحه من سرعة وسطحية، هي البيئة المثالية لهذا التدوير اللاعقلاني. فكل مستخدم هو ناقل محتمل، و”إعادة النشر” Share أو Retweet أصبحت فعلاً عاديًّا لا يخضع لأي محاكمة معرفية. والأخطر أن كثيرين لا يعيدون نشر ما يؤمنون بصحته، بل ما يثير حماستهم وينسجم مع أهوائهم.

موت الخبراء: حين تُستبدل المعرفة بالرأي

من أخطر نتائج تدوير المعلومات أن المجتمع لم يعد يبحث عن أصحاب الاختصاص بقدر ما يتابع من يملك التأثير، بغض النظر عن عمق علمه أو صدق مصادره. لقد تغيّر معيار السلطة المعرفية لأنه لم يعد قائماً على الشهادة أو المنهجية أو التوثيق، بل على عدد المتابعين، وجودة المونتاج، وقدرة الشخص على تبسيط التعقيد بطريقة جذابة، ولو كانت مُضلِّلة.

وفي هذا السياق، يموت الخبير بهدوء، ويصعد “اليوتيوبر”، و”التيكتوكر”، و”البلوغَر”، الذين لا يحملون بالضرورة رصيدًا علميًّا، لكنهم يتقنون لغة المنصّات. وهكذا تختلط القضايا، وتغيب الحدود، ويُصبح كل موضوع، مهما بلغ تعقيده، سهل الطرح، وسريع الهضم، وقابلاً لأن يتحوّل إلى محتوى رقمي يسبح في فضاء الإنترنت الرحب.

لذا فإنّ من نتائج “تدوير المعلومات” أنه ساهم في إضعاف سلطة الخبير والمختص. ففي زمن مضى، كانت المعرفة تُطلب من أهلها، وكان للعلماء والأكاديميين والصحفيين المحترفين مكانة في المجتمع. أما اليوم، فقد أصبح كل شخص خبيرًا، وكل منصة منبرًا مشروعًا، بغض النظر عن مرجعية القائل أو خلفيته العلمية.

لقد ذابت الفروق بين الخبر والرأي، وبين التحليل والثرثرة، وبين المعلومة الموثقة والانطباع الشخصي. وأصبح من الشائع أن يناقش الناس مسائل دقيقة في الطب أو الاقتصاد أو السياسة، مستندين إلى مقطع قصير أو تغريدة مجهولة المصدر. بل أضحى بعضهم يرفض صوت الخبير بحجة أنه “من النخبة” أو “منحاز”، وكأن الجهل صار عنوانًا للصدق، والعلم قرينًا للريبة. وبهذا المعنى، فإن “تدوير المعلومات” لا يُنتج معرفة، بل يُنتج ضجيجًا معرفيًّا يُخفِي الأصوات الجادة خلف كمٍّ هائل من الرطانة الإلكترونية. وحين يعلو الضجيج، يصعب الإصغاء إلى أي صوت عاقل وحكيم.

نحو بيئة معرفية صحية

في فضاء وسائل التواصل، لا يتلقى المستخدم المعلومة بشكل حيادي. بل تُقدَّم له عبر خوارزميات ذكية تدرس تفضيلاته وتُعيد تأكيدها باستمرار. وهذا يعني أن كل شخص يَعيش داخل “فقاعته المعرفية”، حيث يسمع ما يحبّ أن يسمع، ويرى ما يوافق رأيه، ويُقصى عنه ما يخالفه الرأي. وهكذا تُصبح المجتمعات منقسمة معرفيًّا، حتى وإن كانت تعيش في مكان واحد. وتفقد القدرة على الحوار العقلاني، لأن “الحقيقة” نفسها لم تعُد موحدة، بل مفصّلة حسب الطلب. كما أنّ تدوير المعلومات المغلوطة أو الجزئية يسهم في تعميق هذه الانقسامات، بل ويُأجج الكراهية.
وفي السياق السياسي، يتمّ استثمار تدوير المعلومات في صناعة التأثير وتوجيه الرأي العام، أحيانًا بطرق ناعمة، وأحيانًا بأساليب تضليلية صريحة. فتتحول الإشاعة إلى سلاح، والمعلومة المفبركة إلى أداة للهيمنة، والخطأ الفردي إلى أزمة وطنية، والعكس صحيح. وفي مواجهة هذه الفوضى، تبرُز الحاجة إلى بيئة معرفية صحية تشبه من حيث الفكرة البيئة النظيفة في علم البيئة. كما أن المدن لا تُنقذ من التلوث إلا بفرز النفايات وإعادة تدويرها بذكاء، فإن العقل لا ينجو من تلوث المعلومات إلا بالفرز النقدي، والتحقق، والوعي المنهجي.
نحن بحاجة ماسّة إلى تربية معرفية جديدة، تُعلّم الأجيال كيف تفرّق بين المعلومة والرأي، وبين المصدر الموثوق والتدوينة العابرة، وبين التحليل العلمي والانطباع الذاتي. وهذا لا يتحقق إلا بإعادة الاعتبار للتفكير النقدي في المناهج التعليمية، وتعزيز ثقافة القراءة البطيئة والتأمل، لا التمرير السريع للمحتوى. وفي زمن تدوير المعلومات، تصبح المعرفة مسؤولية فردية لا جماعية فقط.

لم يعد يكفي أن نطلب الحقيقة من الخارج، بل ينبغي لنا أن نبني أدواتنا الداخلية لفرزها. فلا مناص اليوم من امتلاك مهارات التفكير النقدي، والتحقق من المصادر، وتحليل السياقات، وفهم الفروق الدقيقة بين المعلومة والرأي. ويجب أن نتعلم كيف نُبطئ، ونقرأ بعمق، ونتريّث في الحكم، ونطرح الأسئلة لا أن نُسرع بالإجابات. ويجب أن نستعيد قيمة “المعلومة الأصلية”، و”المرجع الأول”، لا أن نبني ثقافتنا على القصاصات والمقتطفات من هنا وهناك.

كما يجب على المؤسسات الإعلامية والأكاديمية أن تُعيد رسم حدود العلاقة بين المعلومة والقيمة. فليس كل ما يُنشر يُعتبر معرفة، وليس كل ما يُقال يستحق أن يُعاد قوله. وهناك حاجة إلى رقابة ذاتية، تحمينا من أن نصبح صدى أجوف لما يتناقله الآخرون.

من الاستهلاك إلى الوعي

إن “تدوير المعلومات”، بهذا المعنى، ليس ظاهرة عابرة، بل هو تجلٍّ عميق لأزمة الثقافة في العصر الرقمي ومرآة لمأزق الإنسان الحديث في علاقته بالمعرفة. لقد انتقلنا من عصر ندرة المعرفة إلى عصر وفرة اللا معنى، ومن مجتمعات تفتقر إلى المعلومات، إلى مجتمعات تغرق فيها حتى الاختناق. فإذا أردنا أن نستعيد شيئًا من التوازن، فعلينا أن نعيد الاعتبار للعقل، لا بوصفه أداة تحليل فحسب، بل بوصفه مرشدًا أخلاقيًّا في التعامل مع المعلومة.

المعرفة لا تُقاس بكثرتها، بل بعمقها، ولا تُقاس بعدد الإعجابات، بل بقدرتها على صناعة الفهم. وإذا لم نتحلَّ بالوعي النقدي، والقدرة على التفكيك والتمحيص، فسوف نظل ندور في حلقات مفرغة، نُعيد فيها إنتاج المعارف الزائفة، ونُسهم ــ بغير قصد ــ في تضليل الذات والمجتمع. فليكن “تدوير المعلومات” دعوة للتفكر، لا مجرد وصفٍ لحال. وليكن الوعي غربالاً، نُميّز به الغث من السمين، والصوت من الضجيج، والحقيقة من الوهم.