لا زال عالم الحيوان باهرًا، يحمل العديد من العجائب والأسرار التي تؤكد على مدى روعة الحياة على ظهر كوكبنا، وحتى وقت قريب كان الاعتقاد السائد من قبل العلماء، أن الثقافة سمة خاصة ينفرد بها البشر، وأن الأنواع الأخرى من الكائنات تسيرها غرائزها مع امتلاكها بعض القدرة على التعلم، إلا أن الأبحاث العلمية الأخيرة في مجال “الإيثولوجيا” علم السلوك الحيواني، جاءت لتؤكد على أن لدى بعض الحيوانات “المبادئ الأولى” لكل ما يمثل الثقافة الإنسانية، وأن هذه الاكتشافات العلمية تتحدى فكرة أن البشر هم وحدهم من يمتلكون ثقافة وتقاليد. وهذا ما سنتعرف عليه عبر هذه السطور.
مفهوم الثقافة في عالم الحيوان
تعرف الثقافة الحيوانية على أنها قدرة الحيوانات غير البشرية على تعلم ونقل السلوكيات، من خلال عمليات التعلم الاجتماعي والثقافي، مستقلة عن أي عوامل وراثية جينية أو بيئية. ويرى العالم “أندرو واتين” من جامعة “سانت أندروز” الإسكتلندية، أن الثقافة تنتشر لدى الحيوانات -طيلة أعمارها- من الطفولة إلى سن البلوغ، وربما يبدأ صغار عدد من الأنواع في التعلم من والديها أولًا، لكنها تتعلم على نحو متزايد من المهارات المختلفة التي يتمتع بها غيرها، على غرار ما نفعل نحن البشر، وأن الحيوانات قد تنشئ ثقافتها وتحافظ عليها تمامًا مثلما يفعل البشر(1).
بدايات اكتشاف السلوك الثقافي لدى الحيوانات
نظر الباحثون في مجال السلوك الحيواني، في الأبحاث التي تم نشرها على مدار السبعين عامًا الماضية، فوجدوا أن الثدييات والطيور والأسماك والحشرات، لديها ثقافات خاصة وتقاليد تتناقلها الأجيال المختلفة من هذه الحيوانات جيلاً بعد جيل، وأن كل نوع من هذه الحيوانات لديه طريقة تفكير مختلفة تميزه عن غيره. ومن أشهر هذه الأبحاث التي اكتشفت؛ أن لدى الحيوان ثقافة من خلال القدرة على نقل سلوكيات وأشكال تعبير مبتكرة غير مخزونة جينيًّا، من فرد إلى مجموعة ما من مجموعات النوع، ومن ثم من جيل إلى آخر، ما اكتشفه “كينجي إيمانيشي” عالم الحيوان الياباني، عندما شاهد خلال قيامه بأبحاث على قرود المكاك اليابانية في جزيرة “كوشيما” في منتصف القرن الماضي؛ أنثى قرد تغسل البطاطا الحلوة في مجرى مائي قبل أكلها، وكان هذا النوع من البطاطا، أدخله بعض الباحثين إلى الجزيرة حديثًا. لقد اكتشفت الأنثى المبتكرة من نفسها، أن إزالة الرمل والحصى من البطاطا ممكن بغسلها في مجرى مائي. وتدريجيًّا انتشرت عادة غسل البطاطا الجديدة هذه بين أفراد المجموعة في الجزيرة، من خلال الملاحظة والتكرار، فدفع ذلك “إيمانيشي” إلى استخدام كلمة “ثقافة” في دراسته لوصف هذا السلوك، وكانت هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها عبارة “ثقافة الحيوان”. والآن إلى خلق الله من الحيوان، لنتعرف على بعض أساليبها الثقافية التي رصدها العلماء في مجال السلوك الحيواني(2).
حيوانات مثقفة
من أبرز الأمثلة التي اكتشفها العلماء في مجال الثقافة الحيوانية، أن بعض قرود الشمبانزي في زامبيا، طورت تقليدًا ثقافيًّا يتضمن موضة، وضع ورقة عشبية مستطيلة في أذن واحدة، وقد بدأت ذلك إحدى إناث الشمبانزي قبل أن تقلدها حيوانات أخرى في تجربة نفس الأمر أيضًا.. في البداية كان ولدها، ثم تبعه صديقتاها المقربتان، ثم صديقها الذكر المقرب منها، وبعد ذلك ثمانية إلى عشرة أفراد من حيوانات الشمبانزي في المجموعة الواحدة، ثم تحولت ممارسة الأذن العشبية إلى ما يشبه التقليد الذي نشأ بكل عفوية وتلقائية، ثم ذاع وانتشر عبر الشبكات الاجتماعية والحيوانية المختلفة، حتى صار أقرب لصيحات الموضة العجائبية بين أتباع حولها في المحمية الطبيعية.. ويعد هذا السلوك مجرد واحد من الأمثلة المفاجئة على ثقافة الحيوان التي نجح الباحثون في اكتشافها مؤخرًا.
وفي السياق نفسه، تقول عالمة الأنثروبولوجيا “بربارا كينغ”: “المعروف على نطاق واسع الآن، أن الشمبانزي في غرب إفريقيا، تكسر الجوز ذات القشرة الصلبة مستخدمة حجرًا، أداة لاستخراج البروتين اللذيذ بداخلها.. وفي الوقت نفسه، فإن الشمبانزي في شرق إفريقيا -وهو من النوع نفسه تمامًا- لا تفعل ذلك رغم ذكائها الكافي واستطاعتها استخدام الأدوات نفسها، لكن هذه هي طريقتها.. كذلك فإن الشمبانزي في بعض الأماكن يحتضن بعضها البعض الآخر، بإمساك اليدين عاليتين فوق الرؤوس، لكن البعض الآخر في أماكن أخرى لا يفعل ذلك، لماذا؟”. إنها ليست في جيناتها ولا تحددها البيئات، إنها فقط ما تتعلمه هذه القرود من مشاهدة كبارها. وتضيف “كينغ” أنه نظرًا لأن كلا الحيوانَين متماثلان من الناحية الجينية، فإن الجينات -وهي غير مختلفة- ليست هي سبب هذه السلوكيات المختلفة، بل هي ثقافات الشمبانزي المختلفة، هذه هي الثقافة”(3).
في عالم الطيور
إذا تركنا عالم الحيوان من الثدييات من القردة العليا واتجهنا إلى عالم الطيور، نجد أن العلماء اكتشفوا أن للببغاوات ثقافة، من خلال متابعة ما يعرف بـ”الكوكاتو الكبريتية”، وهو ببغاء مجتمعي ملون يعيش في ضواحي سيدني في أستراليا، حيث يقوم هذا النوع من الببغاوات بفتح أغطية علب القمامة، مما يتيح لها الوصول إلى مصدر غذاء جديد. ووفقًا لدراسة نشرت في مجلة “Science”، إذ سرعان ما قامت كوكاتو أخرى بنسخ هذا السلوك. وهذا الاكتشاف يعني أن الببغاوات انضمت إلى نادي الحيوانات التي تظهر الثقافة، على حد تعبير “بازبرا كلامب” عالمة البيئة السلوكية في معهد “بلانك لسلوك الحيوان” في ألمانيا.
ومن ببغاء كوكاتو إلى عجائب اللغة في عالم الغربان، حيث يجري الغربان والأعضاء الآخرون المكالمات أو الأصوات، كما لُوحظ أن الغربان تستجيب لنداءات الأنواع أخرى.. ومن المفترض أن يتم تعلم هذا السلوك لأنه يختلف إقليميًّا، وأصوات الغربان معقدة وغير مفهومة بشكل جيد، وهي عبارة عن نعرة طويلة تليها سلسلة من النعائر القصيرة، وتختلف هذه الأصوات باختلاف الأنواع، وداخل كل نوع تختلف حسب المنطقة، وهذا يشبه إلى حد ما اختلاف لغات البشر المتنوعة لهجيًّا فيما بينها(4).
ابتكارات الحوت الأحدب
ننتقل من عالم الطيور إلى عالم الأسماك؛ فقد رصد باحثون أن الحوت الأحدب اتبع أسلوب صيد جديد لم يرصد من قبل لدى أي من الأسماك المنتمية لفصيلته؛ يقوم على ضرب الماء بذيله الضخم بشدة، لتتدافع جموعُ الأسماك الصغيرة التي يتغذى عليها هاربةً في تكتلات صغيرة، مناسبة تمامًا لسهولة التقاطه لها وتناولها على الفور.. وسرعان ما انتشر أسلوب الصيد المذكور المعروف علميًّا باسم “الصيد الذيلي المحسن” على طول الخطوط الاجتماعية لمجموعات الحيتان الحدباء المعروفة، وذلك بمعاونة موهبة الحيتان المشاهدة في التقليد البهلواني بين أعضاء المجموعة الواحدة.. كما لاحظ الباحثون اليوم، أن أكثر من 600 حوت أحدب يمارس أسلوب الصيد الذيلي المحسن، وأنه سلوك ابتكره الحوت الأحدب، يعبر عن نفسية وإستراتيجية ظرفية مناسبة للحصول على الغذاء.. وقد علق على ذلك العالم “وايتن” بقوله: “لن يكون الأمر على انتشاره الملحوظ، لولا انتقاله وتشاركه اجتماعيًّا بين جموع الحيتان”.
في عالم الحشرات
وإذا انتقلنا إلى الثقافة في عالم الحشرات، يقابلنا نموذج اختيار الشريك في “ذباب الفاكهة”؛ ففي أحد الاختبارات يصرح العالم “أندرو واتين” بقوله: “شاهدت إحدى إناث ذباب الفاكهة ذكرًا غيَّره الباحثون باللون الأخضر، فلونه الأصلي ليس أخضرًا، وهو يتزاوج مع أنثى، وفيما بعد -حيث أتيحت الفرصة لأنثى أخرى- شهدت هذا الاختبار، فضلت الذكور ذات اللون الأخضر وكأن لسان حالها يقول حسب وصف “واتين”، إذ كانت الإناث تعشق هذا النوع من الذكور، فلا بد أنه جذاب ويجب اختياره.. والسبب هنا الذي يجعلنا نتحدث عن الانتقال الثقافي في هذا النوع من الحشرات، هو أنه إذا شاهدت إناث أخريات تلك الإناث تتزاوج فإنها ترث الانحياز نفسه، وهكذا تتوارث الثقافة”(5).
وفي النهاية نقول: لعلنا أدركنا من خلال هذه الأمثلة، أن الثقافة ليست مقتصرة على الإنسان، وعندما نستشهد هنا بالحيوان، فليس ذلك انتقاصًا من مكانة الإنسان بقدر ما هو إحاطة الإنسان بخالقه وإعجازه وأسرار مخلوقاته، ليزداد إيمانًا وعلمًا وثقافة.
(*) كاتب وباحث مصري.
الهوامش
(1) حيوانات مثقفة، د. هيا إبراهيم الجوهر، صحيفة الاقتصادية، السعودية، العدد الصادر بتاريخ 5/9/2022م.
(٢) هل للحيوانات سلوك ثقافي؟ أمين نجيب، مجلة القافلة، عدد نوفمبر-ديسمبر عام 2021م.
(٣) المصدر السابق.
(٤) اكتشاف مثير في عالم الحيوان، مجلة ناشيونال جرافيك العربية، عدد: ديسمبر عام 2021م.
(٥) هل للحيوان سلوك ثقافي؟ أمين نجيب، مجلة القافلة، عدد نوفمبر-ديسمبر عام 2021م.