بديل القسطرة القلبية

مع التطور العلمي وسرعة الأبحاث العلمية التي تجري على قدم وساق، شهدت السنوات القليلة الماضية تقدمًا طبيًّا كبيرًا في علاج أمراض القلب وكذلك تطورات الأجهزة الطبية ذات التقنيات الحديثة التي ساعدت كثيرًا على اكتشاف وتشخيص الأمراض بشكل دقيق ومبكر ومن ثم العلاج.

ونظرًا لأهمية الموضوع، فقد اخترنا التحدث عن أحد هذه الأجهزة الحديثة التي قد تحل محل القسطرة الطبية وهو أحدث أجهزة التصوير الطبقي المحوري، والذي يُعد من أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الطبية في مجال التصوير الطبقي الخاص بدراسة شرايين القلب.

إن تصوير شرايين القلب بالتصوير الطبقي المحوري يُعد الأول من نوعه، حيث أصبح ينافس القسطرة الطبية بشكل كبير. يتم من خلاله كشف تكلسات وتضيقات شرايين القلب.

في عام 1948، قال مدير شركة آي بي إم توماس واطسون: “أعتقد أن هناك فرصة لبيع خمس كومبيوترات في العالم”، وقد اتُّهم حينها بالتفاؤل، ورفض أغلب المختصين فكرته وعارضوها. فماذا كانت النتيجة؟ وكم خسر الذين من دأبهم محاربة كل جديد؟

وفي عام 1961، توقع كثير من علماء الفضاء أن يكون آلاف الناس قد استقروا على سطح القمر بحلول عام 2000، وتسابق المغامرون لشراء “الأراضي” على سطح القمر. فماذا جنوا من شرائها؟

هكذا، نجد مع كل جهاز أو ابتكار جديد، ومع ظهور كل تقنية حديثة، يبدأ الأخذ والرد، وتستعر المناظرات بين مؤيد ومعارض، فيتفاءل البعض بالفوائد ويتخوف آخرون من المخاطر.

لكن هل يمكن أن يكون جهاز التصوير الطبقي المحوري بديلاً للقسطرة الطبية لتصوير وتشخيص حالة الشرايين؟ هل ولى زمن القسطرة، سيئة السمعة، إلى غير رجعة وأصبحت (موضة قديمة)؟ وهل هو إجراء سريع، سهل، ودقيق وقليل المخاطر قادر على التشخيص؟ أم إنه يعرض الجسم لجرعة عالية من الإشعاعات الخطرة دون أن يعطي نتائج حاسمة ولا بد من القسطرة؟

لقد جاء جهاز التصوير الطبقي المحوري لشرايين القلب كابتكار جديد، معتمدًا على مصدر للأشعة السينية يدور حول محور هو الجسم المراد تصويره. يقوم كاشف باستقبال الحزمة الشعاعية بعد خروجها من الطرف الآخر للجسم. تختلف قوة الحزمة الخارجة حسب سماكة ونوعية النسج وكثافتها التي عبرتها الأشعة، ثم تُرسل المعلومات من الكاشف إلى كمبيوتر سريع يُركب صورة لهذا المقطع من الجسم.

في السبعينيات، انتشر التصوير الطبقي المحوري التقليدي، وتطورت سعته ودقته وتحسيناته حتى وصلت إلى النموذج الحلزوني، لكنه بقي معتمدًا على كاشف واحد. وجاء التطور الحاسم في الابتكار الجديد عندما تمكن العلماء من تزويد الأجهزة بعدة مستقبلات أو كواشف تعمل معًا بتناغم. تزايد عدد المستقبلات من أربعة إلى ستة عشر، إلى أربعة وستين كاشفًا، وحاليًا إلى ثلاثمائة وعشرين.

هكذا أصبح بالإمكان إجراء مسح شعاعي سريع للقلب كاملاً وإعادة تركيب المقاطع الرقيقة –التي لا تزيد سماكة المقطع الواحد منها على 0.3 ملم، أي سماكة ورقة الدفتر– وبهذا يمكن رؤية شرايين القلب رغم صغرها وحركتها، وذلك بمجرد حقن المادة الصبغية في وريد الذراع. يستغرق المسح الشعاعي حوالي عشر ثوانٍ، وتستغرق إعادة تركيبها عدة دقائق، أما دراستها فقد تأخذ نحو ربع ساعة بيد المختص أو الطبيب الخبير، وبعد ذلك تكون بيد المريض صورة دقيقة مطابقة لشرايين القلب بدقة تصل إلى 98% في أغلب الحالات.

قد يتم اللجوء لهذا النوع من التصوير لمعرفة سبب آلام الصدر، ومعرفة إذا ما كانت هناك بوادر نقص تروية أو أزمة قلبية. حيث يعتبر الألم الصدري أحد أهم التحديات التشخيصية في أمراض القلب. عادة، لدى قدوم أي مريض يشكو من ألم في صدره يجب أن تُعامل حالته بجدية تامة، فيقوم الطبيب بالمعاينة، وإجراء فحص سريري متقن، وتخطيط قلب كهربائي، وتحليل الخمائر القلبية. فإن كشف وجود خلل ما فلا بد من قبول المريض في وحدة العناية المركزة فورًا والبدء بإعطائه المميعات أو إجراء قسطرة لشرايين القلب، ومن ثم علاج كل حالة حسب التشخيص. هذا الطريق هو المتبع عالميًّا ومحليًّا، وقد انتشرت هذه الثقافة الصحية وأصبحت متبعة ومقبولة عند كثير من المرضى.

إذا كانت نتائج الفحص السريري وتخطيط القلب الكهربائي وتحليل الخمائر القلبية كلها سليمة، وكانت الشكوى جدية حسب تقدير الطبيب، يتم قبول مريض الألم الصدري في المستشفى للمراقبة مدة يوم واحد لمزيد من الدراسة والفحوصات وإعادة الفحوصات السابقة. قد يلزم إجراء اختبار الجهد ودراسة القلب بالنظائر المشعة وإجراء قسطرة للقلب للتأكد من سلامته. هؤلاء المرضى يشكلون نسبة عالية من إشغالات أسرة العناية المركزة ومن الإجراءات التشخيصية المعقدة والمكلفة.

التحدي الحقيقي

التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد وسيلة سريعة ودقيقة لفرز المرضى الذين يشكون من ألم ذي منشأ خطر ومهدد للحياة مثل الجلطة القلبية أو الرئوية أو تسلخ الأبهر عن تلك الأسباب غير القاتلة أو الأقل خطورة أو غير الخطرة، وذلك لتجنب قبول المرضى دون مبرر أو بالعكس إضاعة كشف الحالات القاتلة وتطمينهم بشكل خاطئ اعتمادًا على سلبية الفحص السريري والتخطيط والمختبر.

ينجم التداخل الشديد في الأعراض السريرية عن أن الألم ينتقل من معظم البنى الصدرية بالعصب المبهم (العاشر)، مما يجعل قدرة الدماغ على تفسيرها محدودة. لذا يصعب تفريق ألم الجلطة القلبية عن التهاب المعدة الحاد دون اللجوء إلى عدد كبير من الإجراءات التشخيصية. أحيانًا، لا يتم وضع التشخيص النهائي إلا بعد إجراء القسطرة القلبية أو التنظير الهضمي.

تبين الدراسات أن ما لا يقل عن 10-15% من المرضى المقبولين في المستشفيات بسبب الألم الصدري لديهم مرض خطير “كاحتشاء العضلة القلبية أو الجلطة”، في حين يخرج الباقون في اليوم التالي إلى المنزل بتشخيص آخر كفتق حجابي أو التهاب مفصل ضلعي قصي أو تشنج عضلي بعد فترة من القلق وحبس الأنفاس والترقب من الطبيب والمريض وذويه. لكن هذه الإجراءات الاحترازية كانت ولا تزال مقبولة، بل وضرورية، في كل حالة ألم صدري. تكمن الخطورة في أن أي تهاون يؤدي لإرسال المريض إلى منزله قبل النفي القاطع لأي مرض مهدد للحياة.

هكذا، أصبح من المتفق عليه أولاً لمعالجة مريض الألم الصدري اتباع التسلسل المنطقي بحيث يكون البدء بالمعاينة، وإجراء أشعة صدر، ثم تخطيط كهربائي للقلب، ثم تحليل الدم. هذه الإجراءات ضرورية، بل وحتمية، لكنها تكون طبيعية في معظم الحالات. هذا لا يعني سلامة المريض من الجلطة القلبية أو الرئوية أو تسلخ الأبهر، مما يقتضي بالتالي اتخاذ قرار بقبول المريض للمراقبة في المستشفى (وغالبًا في العناية المشددة) وتكرار التخطيط وتحليل الخمائر بعد عدة ساعات، وإجراء مزيد من الاستقصاءات كاختبار الجهد البسيط وعمل إيكو للقلب، وأحيانًا القسطرة قبل أن نستبعد الأسباب القاتلة ونتوجه نحو تشخيص أقل خطورة، كالفتق الحجابي والتهاب المفاصل الضلعية.

فوائد تشخيصية

ما ذكرناه لا يزال يتبع في أغلب المراكز الطبية، لكن دخول  التصوير الطبقي المحوري متعدد الشرائح سيغير هذه المقاربة الطويلة والمعقدة والمكلفة، فقد بينت دراسات متعددة أن استخدام عديد الشرائح في غرفة الفحص يقدم عدة فوائد تشخيصية تسرع وضع التشخيص وبدء العلاج، نذكر منها:
1- كشف الحالات الخطرة، حيث إنه ينفي تسلخ الأبهر، كما أنه ينفي كلًّا من جلطة الرئة، ووجود ضيق مهم أي أكثر من   50 % في الشرايين القلبية بنسبة دقة تتجاوز 98 %، وهي نسبة عالية جدًّا.
2- يقلل من زمن التشخيص، حيث إن الزمن اللازم لنفي الأسباب الخطرة للألم الصدري لا تتجاوز نصف الساعة مقارنة مع زمن وسطي يتجاوز اليوم بالطريقة التقليدية.

3- يخفض تكلفة وضع التشخيص بنسبة تتراوح بين 50-70 .%
4- يقلل نسبة المراقبة  للمريض بنسبة 90%،  بعد نفي أي موجودات خطرة ويمكن عندها متابعة دراسة حالة المريض في العيادات الخارجية .
5- يكشف الجهاز الكثير من المسببات النادرة للألم الصدري كالعقد والأورام الصغيرة والتهاب الفقرات، حيث تبين في دراسة لمراجعة 3000 حالة أن هناك موجودات مرضية غير قلبية في نصف هذه الحالات، وكانت هذه الحالات، وبعضها ورمي أو خطير، ستعامل على أنها نفسية أو عصبية ثم يتم التشخيص لاحقًا بشكل متأخر بعد فوات الأوان.
6- للجهاز قيمة علاجية جيدة، حيث تبين دراسة موسعة ندرة احتمال وقوع حوادث قلبية وعائية خطرة خلال  ثلاث سنوات من المتابعة لدى مريض الألم الصدري، الذي يكون التصوير الطبقي فيه سليمًا أو يبدي تبدلات بسيطة.

7- يساعد في كشف المرضى ذوي الخطورة العالية للإصابات القلبية، مما يساعد على البدء المبكر في التدابير الوقائية من إعطاء الأسبرين وخافضات الكولسترول وضبط عوامل الخطورة.

السلبيات

أما أهم سلبيات هذا الإجراء فهي أن ثمن الجهاز مرتفع، وحالة التعرض الشعاعي في حدود 10-15 مللي سيفرت، مقارنة مع القسطرة التشخيصية 8-10 مللي سيفرت. كما أن استخدام الجهاز يحتاج إلى خبرة عالية، ولا يمكنه كشف وجود تشنج إكليلي أو قصور الصمامات، ولا يعطي جوابًا جازمًا في حالة وجود تكلسات في الشرايين إن كان وراء هذه التكلسات تضيق أم لا.

ما نخلص إليه أن التصوير الطبقي المحوري متعدد الشرائح سيقدم الكثير، وهو يغني عن القسطرة إن كان المريض سليمًا، أما إن أظهر تبدلات خفيفة فهو يحدد خطة العلاج ويمهد للقسطرة إن أبدى تضيقات مهمة، ويوجه قرار الطبيب نحو التوسيع أو الجراحة، حيث يأتي المريض إلى القسطرة مع توقع مسبق لنتائجها والخطة العلاجية بعدها، كما أنه يكشف أسبابًا غير قلبية للألم ما كانت لتظهر بالقسطرة وحدها. ويفضل إجراء التصوير الطبقي المحوري متعدد الشرائح عندما يتوقع الطبيب أن الشرايين القلبية سليمة وتكون الشبهة السريرية قليلة لكنه يريد أن يؤكد ذلك. أما عندما تكون هناك دلالات ترجح وجود إصابة في الشرايين أو تكون هناك لدى الطبيب شبهة عالية، فلا بد من القسطرة، أو عند وجود مشعر تكلس عالٍ في الشرايين. عندها يكون التصوير كلفة وإضاعة للوقت وتعرضًا للأشعة لا مبرر له، ولن تكون النتيجة جازمة.

المصادر:

Arbab-Zadeh، Armin؛ Miller، Julie M؛ Rochette، Carlos E؛ Dewey، Marc؛ Ninama، Hiroyuki؛ Gottlieb، Ilan؛ Paul، Narinder؛ Clouse، Melvin E. Shapiro، Edward P. (24 يناير 2012). “Diagnostic Accuracy of CT Coronary Angiography According to Pretest Probability of Coronary Artery Disease and Severity of Coronary Arterial Calcification: The CorE-64 International, Multicenter Study”. Journal of the American College of Cardiology.

Budoff، M.؛ Nakazato، R.؛ Mancini، G.B. Granary، H.؛ Leipsic، J.؛ Berman، D.S. Min، J.K. (2016). “CT Angiography for the Prediction of Hemodynamic Significance in Intermediate and Severe Lesions: Head-to-Head Comparison with Quantitative Coronary Angiography Using Fractional Flow Reserve as the Reference Standard”. Journal of the American College of Cardiology Cardiovascular Imaging.