ورحل القطب كولن

الشيخ الدكتور مصطفى الياقوتي، وزير الأوقاف الأسبق في السودان

صح عندي من وجوه أن الأستاذ فتح الله كولن هو القطب الهائم في جلال وجمال الله، والقائم برسالته في الحياة. وجعلتُ أنظر وأعيد فإذا كل صفات الأقطاب فيه ظاهرة، فأيَّد شاهدُ المعرفة مواهبَ العقل الإلهامي.

الأستاذ محمد فتح الله كولن عاش لله ومات على ما عاش عليه. وقد أتقن التأسيسَ العلمي على طريقة أهل السنة، تم تضلع في العلم، واطلع على الثقافات الكونية، وتعمق في معرفة المدارس الفلسفية الحديثة مما هيأه للحكم عليها ونقدها من الداخل والخارج، وكم له من تصحيحات، واستدراكات، وبيانات على الفلسفات، والفلاسفة، لا سيما الفلسفة في العصر الحديث. أعانته هذه الحشود المعرفية الهائلة على إنتاج بدائع النظر، ومشرقات الأفكار، فهو من أميز من جمعوا بين الأصالة والمعاصرة.

لم ينشأ الأستاذ من فراغ، لذلك لم تأت أفكاره شاذة، وإنما جاءت مستقيمة لها جذور، وتسعى لأهداف، ولا تجاوز كليات المقاصد. واسْـمَعْهُ يقول -باكيًا- “وفي مرات كثيرة، فتحتُ يديّ قائلاً: اللهم اقبضني إليك قبل أن أرى ثمار هذه الخدمات إذا أينعتْ، فقد تحدثني نفسي بحظ منها، وأنا لا أريد ذلك”، وانظر تفريده حيث يقول مناجيًا: “إذا كنتَ قسمتي، فأنت حسبي ولا أريد سواك”، هذه هي البطولة الحقيقية، إنها فِعالُ من هو مُزَيِّنُ المشاعر بصدق التوجه إلى الله.

مات صاحب التّلال الزمردية بعد أن ضوّع الكون عطرًا، ووشّاهُ برسم أشواق الروح، وزيّن أسماع الدنيا بأغاني الحب، وهتاف الصدق، ومعزوفات الفرح بالله، وترنيمات القلب العميد. لقد فارق الأكوان كونٌ كامل من المعاني، والأفكار، والجسارة، والحنان، وليس على الله بمستغرب أن يجمع الكونَ في واحد.

أحيا فتح الله كولن إدراكَه بالمعرفة، ونزوعَه بالسير إلى الله، ووجدانَه بالحب لله والنبي والأنبياء والكون والناس.

قدم الأستاذ طرحَه الفكري اللطيف، والروحاني العالي، الذي تسوده المعاني المحتشِدة بكل نبيل وجميل، فنجحتْ دعوتُه، وشرّقت بالحب والصدق، وغرّبت بالوفاء والإيجابية.

ولم يكن في كل ذلك يسلك طريقًا ممهدةً وعلى أطرافها الرمل الناعم والأزهار، وإنما جاهد وناضل العلمانية وظلاميتها، فقد درس ودرّس الناس في إصطبلات الخيول، وكم قاسى من سجونها وعاش طريدًا من مكان إلى مكان. ولكنه كان يستحلي الطاعةَ ويتعالى على المعاصي ورغائب الذات، فشغل نفسه ببذر البذور في كل بقعة وصل إليها.

طبق الأستاذ فتح الله كولن المنهج الصوفي المتمثل في الدعوة بالنموذج، فطفق يعلم الناس الحب بالحب، والصبر بالصبر، والصدق بالصدق، وكم قدم في النزاهة مثال احتذاء عزيز. فما كان يتكسب بدعوته ودينه، فعلى الرغم من كثرة المؤسسات التي تنتمي إليه، كالبنوك، ورجال الأعمال الذين ينتظرون إشارته للفعل والتخلي، لكنه عاش ومات لا يملك إلا ملابسه التي يلبسها؛ ولم يكن فيها مترفهًا.

وصلت مؤسسات الخدمة التي قامت بتوجيهاته وعلى يديه إلى كل قارات العالم وفي مائة وستين دولة، وكان أمْيزُ ما تقدمه هو نكران الذات، والانضباط بالهدف، والالتزام بالقوانين الحاكمة في كل دولة يخدمون فيها، واحترام الناس من حيثية أنهم ناس.

ولا أرى سرعة انتشار مؤسسات الخدمة في كل أصقاع العالم من فقير موحش، أو موغل في مدنيته، أو ماديته، إلا من قبيل ما يعبر عنه العارفون بالله بـ”الإذن الخاص”، والإذن الخاص هو من فروع قوله صلى الله عليه وسلم: “فيحبه أهل السماء ويُكتَب له القبول في الأرض”.

فقد انتشرت مدارس ومراكز الخدمة في أوروبا المرفهة، والبلدان الفقيرة، وحازت على إعجاب الناس فارتادوها وصنعت أثرًا كبيرًا، وقدمت الإسلام زاهيًا في لطف ووعي واندماج في المجتمعات الأوروبية، وقدمت أخلاقًا عالمية يتوق إليها الجميع، في مستويات التجريد المثالي والواقع المستقيم مع النظرية. وقد رأيت هذه المؤسسات بنفسي في أوروبا ووقفت على عبقريتها، ونماذجِ أثرها، والمجالُ لا يسمح بتفصيل ذلك، وأما نماذج هذه الأعمال العظيمة في تركيا فذلك أمر محير.

ومن عجائب الأستاذ فتح الله كولن ودلائل قُطْبانيته، أنه كان يربي بروحه الطليق، وأنفاسه العالية. فكل من رأينا من أبناء الخدمة مستقيم في دينه ومسلكه، وذو أخلاق مدهشة في تكاملها، وعلى سمت كولن ولـمّا يره أو يجالسه، ولم يأخذ منه قبضة وبيعة مباشرة. فهذه طاقة هائلة لا يتوفر عليها إلا صاحب وراثة نبوية مأذون له بالدعوة على بصيرة. فهو عندي مجدد حقيقي قدم جهده العظيم في العودة بالدين إلى جِدّته، وأقام حركة بعث قوية في عالم التصوف عزيزة الطراز، حيث نفى الزغل، وقرّب المعارف، ولطّف المستعصي، وقلل من زحام الشروط الشكلية والمراسمية للدخول فيه، واختصرها في اتباع أنوار التوجه في عالم السلوك والمجاهدة، ومراقبةِ صحة المسيرة بشروق أنوار المواجهة من مَشرق فضل الوعد الإلهي: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(العنكبوت:69)، وربط الحاضر بالماضي فجعل مثاله المنشود سيدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الوسيلة المعصومة في حضرة (إنما أنا قاسم والله يعطي) وارتبط بالصحابة ارتباطًا عظيمًا.

صنع فتح الله جيلاً قادرًا على التضحيات الجسام، وما كان يسمي أحدًا من الناس تلميذًا، وإنما كان يراهم رفاقًا واصحابًا في طريق الله ولهذه الألقاب مدلول عميق. كان عابدًا، فانيًا، محبًّا، عالما بفنون الدين ومقاصده، خبيرًا بطرائق الدعوة، شاعرًا مولّهًا ذا ديباجة ممتازة.

والمقام ليس مقامَ بسطِ سيرته فقد كُتبت في ذلك الكتب، ونوقشت الرسائل الجامعية، واعتُبر الرجلَ الأكثرَ تأثيرًا في العالم، وانتشرت مراكز الدراسات العلمية في جامعات العالم تدرس أفكاره ومشاريعه.

 رحمه الله رحمة واسعة، ونفع بعلمه وأنواره، وبارك جهده، وغفر لنا وله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

تعازينا لكل الأمة الإسلامية، بل للإنسانية، ولكننا نخصّ الذين عاشوا معه وحملوا مشاعل النور.

في رعاية الله أيها القطب الكبير محمد فتح الله كولن.

فإن تكن الأيامُ فرّقنَ بيننا       فقد بان محمودًا أخي يومَ ودّعا