مثلما يومض البرق تغير كل شيء حوله، الغبار يغطي صفحة وجهه بالكامل فلا يظهر منه إلا عينان ذاويتان يقاومان فيما يشبه التحدي انطباق الجفنين.. حاول تَبيُّن حقيقة الأمر لكن الذاكرة لم تسعفه.. عبثًا حاول رفع رأسه أو تحريك ساقه ويده، ولكنه شعر وكأنه مكبل منذ عهد رمسيس الثاني.. أطبق عليه الركام وحاصره الغبار المتطاير.. تحسس ما حوله لعله يهتدي لمنفذ يتنسم منه عبير الحياة.. بهر عينيه الكليلتين بصيصُ ضوء تسلل عبر فجوة صغيرة لتكشف عن خليط من الألوان الداكنة التي تداخلت حتى غدت كأنها لون واحد هو السواد.
كان الوقت فجرًا حين ارتج البيت وتهاوت أركانه، في لمح البصر اختلت موازيين الأرض فابتلعت اللجةُ الساحل. كان الدوي مفجعًا، وما هي إلا لحظات حتى استوى البيت بالأرض. هي القيامة إذن، وهو الآن داخل قبره يتهيأ للسؤال. حين استرجع وعيه انتابه فزع شديد، فأطلق صرخات متلاحقة جرحت أذن الفجر المتنفس؛ أجفل الشجر والحجر وأنَّت الصخور، غاص في أعماقه ينشد الخلاص فأعوزته الحيلة، ومثلما يلقي الجندي المحاصر سلاحه، استسلم لحبات الغبار التي تغلق منافذ الهواء في جسده الجريح وروحه المثقلة بغصة الخذلان.. كان الفقد فادحًا يقتلعُ السعالَ من صدره ليخرج من الغبار ما كان داخلاً، فدخل ما كان خارجًا.
صوت الغربان يغشى المكان فيعم الصمت كل شيء.. الأمكنة والأزمنة والألسن المعتقلة.. خُيل إليه أنه سمع أصواتًا عربية تبتلعها أصوات ترطن بلغة أعجمية.. أحس بالدوار يثقله إلى الأرض.. اتسعت حدقتا عينيه حين انتبه فجأة إلى يد رخوة تتحسس خصلات شعره المغبرة، استبد به الهلع فعاود الصراخ.. تذكر خطيب الجمعة البارحة وهو يقول “إن الأموات يتزاورون”، أطبق جفنيه على عينيه بكل ما أوتي من قوة، وضم أصابعه المتشنجة بعنف إلى كفه، وكمراهن يلعب آخر أوراقه أزاح اليد الممتدة إلى رأسه والذعر ينهشه.. تناهى إليه صوت ضعيف صخَّ أذنه.. الصوت يقوى أكثر فأكثر، وهو الآن أوضح من ذي قبل: محمد!
برقت عيناه وسط الظلام، وخمَّن أنّ خطأ ما وقع فدفنوه حيًّا.. ها هو الصوت ينطلق من جديد، يدغدغ أذنه المشروخة ويتسلل عبر وريد الحياة ليلامس شغاف قلبه.. نعم هو الصوت نفسه، صوت أمه الحبيبة ابنة الحبيبة.. هكذا كان يحلو له أن يناديها قبل الفجيعة، تعبيرًا عن حبه الكبير لها ولجدته.. رفع رأسه فارتطم باللحد.. ما عاد الناس في هذه المدينة يتقنون صناعة اللحود، أو ما عاد لهم وقت للتفنن في إخراجها مصقولة كما المعتاد.
حاول تحريك أصابع رجليه لكنها لا تستجيب، خُيّل إليه أنه سمع أمه تناديه بصوتها الرخيم وقد غشيه الضعف فعبث بقوته.. حاول أن يبعث ذكرى ما قبل الانهيار؛ كان قبل برهة يسيرة يداعب أخاه أيمن، فكيف تدحرج إلى هذا القبر الموحش دون أن يسمع من يَبكيه، ومن غير أن يشعر بسكرات الموت التي كانت ذكراها تفسد عليه سكينته كلما تأمل لغز الموت.. كان يستلذ بألم خفيف أن يغمض عينيه ويتخيل نفسه وقد زاغت رجله عن موطئها فسقط في جب سحيق.. كانت ذكرى الطفل ريان هناك في المغرب البعيد ما زالت تنكأ هواجسه وتربك شفتيه بالسؤال: كيف كان إحساس ريان وهو يخوض رحلة السقوط؟ كيف قضى ليلته الأولى؟ كيف كان يشعر وهو قابع في ذلك المكان القصي يعزف أنشودة الموت البطيء وحيدًا ضعيفًا مهيض الجناح؟ نفس المصير مع فارق أن القبور هنا ضيقة للغاية، كان يراها حين يُشيع ذويه أكثر اتساعًا، ولحودها مستوية لا اعوجاج فيها ولا نتوءات.. كيف هان على أبيه أن يرى دافنيه يُهيلون عليه هذا المزيج من الحجارة والأتربة وشظايا الحديد التي أحدثت في جسده جروحًا مثل المدى.. كان في حالة بين الوهم والحقيقة.. ولما بلغ به العياء مبلغه، عفّر وجهه في التراب، ولأمر ما مرّ أمام عينيه قول الله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)(طه:٥٥).. ربما قرأ هذه الآية مرات عديدة في أيامه العادية، ولكن هذه المرة أخذ يعيشها بحذافيرها.. ثم أغمض عينيه وقد ابتلعه صمت القبور.
عاد الصوت من جديد يرسم بين الحجارة والأتربة مسالكه، ويشق عناد الأرض وسكونها، ليروي ظمأ الطفولة وقد قُصفت في مهدها.. بلغه الصوت الشجي هذه المرة واضحًا وضوح الظلام المطبق على المكان، فنزّت عنه آهة مترددة تتعثر في حلقه وتنحبس في لسانه.. فإذا بالهاتف يهتف: محمد! محمد! أنا أمك يا حبيبي، أتسمعني يا قلب أمه؟ أجبني يا حبيبي! أمك أنا يا ولدي.. نحن هنا أسفل ركام منزلنا.. أبناء عمك قادمون.. المعتصم قادم.. اصبر يا ولدي، فَهُمْ لا يطيقون على الضيم صبرًا.
لم يجبها إلا العدم يشكو للتراب الأسير جِراح الخذلان البغيض، وانحدرت الشمس رويدًا رويدًا نحو المغيب، وزحف الظلام على صفحة الوجود شيئًا فشيئًا، فانطفأ الصوت الحاني وغارت الآهة الظمآى في مهاوي الظلام، دون أن تُسمع أطيار الربيع أو تستثار غربان الخريف.
(*) كاتب وباحث وقاص / المغرب.