رأس الدجاجة وتقنية التحكم السحري

هل لاحظت يومًا كيف يبقى رأس الدجاجة ثابتًا، ومستقيمًا حتى عندما يتحرك جسمها بسرعة أو يهتز بشدة؟ إنها خاصية فريدة، ومثال عجيب على “الاستقرار البصري” الذي يمكّن الدجاجة من تحسين رؤيتها وتقليل التحركات غير الضرورية لعينيها. بل إنها خاصية دفعت الشركات العالمية الكبرى للبحث عن تفاصيلها والقيام بدراستها، لتبتكر في أنظمة جديدة وتقنيات حديثة، وأجهزة متطورة في مجالات مختلفة.. ولكن قبل الخوض في الموضوع، لا بد من الوقوف عند الآلية العصبية والعضلية التي يمتلكها هذا الكائن العجيب ويتمتع بها.

من أجل أن نفهم كيفية بقاء رأس الدجاجة ثابتًا، لا بد من النظر إلى تركيبة رقبتها وعينيها ودماغها أولًا؛ فرقبة الدجاجة تتكون من 14 فقرة -مقارنة بثلاث فقرات فقط في رقبة الإنسان- وهذا يمنحها مرونة وقوة عالية في تحريك رأسها في جميع الاتجاهات. كما تحتوي رقبة الدجاجة على عضلات قوية تمكنها من الانحناء والتمدد والانكماش بسرعة ودقة فائقة.

وبالتالي فعينا الدجاجة تتمتعان بحجم كبير، ومجال رؤية واسع يصل إلى 300 درجة مئوية، مما يساعدها على رصد الحركات والألوان والأشكال في محيطها الذي تعيش فيه. كما تحتوي عيناها على مستقبلات حساسة للضوء تسمى “الخلايا المخروطية”، التي تمكنها من رؤية الأشعة فوق البنفسجية والألوان الحرارية بكل سهولة.

أما دماغها فيحتوي على منطقة مهمة تسمى “الدهليز”، وهي تتكون من ثلاث قنوات شبه دائرية تحتوي على سائل وشعيرات حساسة للحركة. والدهليز هذا، يلعب دورًا رئيسيًّا في تنظيم التوازن والتوجه والاستقرار البصري عند الدجاجة.

عندما تتحرك الدجاجة، تستخدم هذه الأجزاء الثلاثة بتناغم عجيب وانسجام باهر، للحفاظ على ثبات رأسها. وحين يتحرك جسمها، يتغير موضع السائل داخل القنوات شبه الدائرية، ليحفز الشعيرات الحساسة. ثم تنتقل هذه الإشارات إلى الدماغ لتحليلها وتحديد موضع الرأس والجسم والحركة. وبالتالي يرسل الدماغ الأوامر إلى العضلات في الرقبة، ليجعلها تتقلص أو تنبسط بشكل متناسب مع الحركة المطلوبة. وبذلك تتمكن الدجاجة من تعديل زاوية رأسها وارتفاعها واتجاهها بشكل دقيق، بحيث تبقى نقطة معينة في الفضاء ثابتة في مركز رؤيتها، ما يمنع الدجاجة من فقدان التركيز أو الشعور بالدوار أو الإصابة بالغثيان.

ثبات الرأس وفوائده

لثبات رأس الدجاجة العديد من الفوائد في مجالات مختلفة؛ فثبات الرأس عند الدجاجة يساعدها على البقاء على قيد الحياة في بيئة مليئة بالمفترسات والمخاطر، إذ عندما ترى خطرًا محتملاً، تستطيع الهروب بسرعة دون أن تفقد الاتصال البصري، كما تتمكن من البحث عن الطعام والماء والمأوى بكفاءة، حيث تميز الأشياء الصغيرة والمتحركة والملونة بوضوح تام.

ثم إن ثبات الرأس يعزز قدرة الدجاجة على التواصل مع بنات جنسها والتحرك المشترك معهم؛ فعندما تصدر الدجاجة أصواتًا أو إشارات للتواصل مع زميلاتها، تقوم بتوجيه رأسها نحو الأمام أو نحو المصدر، ليزيد من فعالية الرسالة وتأثيرها.

تقنية التحكم السحري

والأهم من ذلك كله، فإن ثبات رأس الدجاجة ألهم الإنسان ابتكار تقنيات وأجهزة متطورة في مجالات مختلفة، مثل السينماتوغرافيا، والهندسة، والطب. أما في مجال السينماتوغرافيا، فقام المصورون باستخدام جهاز يسمى “الجيمبل” (Gimbal)، أيْ حلقة التوازن أو مانع الاهتزاز، الذي يعتمد على المبدأ الذي تستخدمه الدجاجة في تثبيت رأسها. ومن المعروف لدى المختصين، أن جهاز “الجيمبل”، يُثبَّت على الكاميرا ليتيح لها الدوران حول محور واحد أو أكثر، وهذا يمنحها استقرارًا وسلاسة في التصوير. كما يستخدم “الجيمبل”، في تصوير الأفلام والمسلسلات والوثائقيات والرياضة والألعاب والموسيقى والإعلانات وغيرها من البرامج المرئية، لإنتاج صور ذات جودة عالية وتأثيرات بصرية مذهلة.

هذا وقد ألهم نظام رأس الدجاجة أيضًا، شركة مرسيدس ومهندسيها لتطوير نظام جديد في مقصورة السيارة، لتتكيف مع مستوى الطريق وتتحسس الحُفَر والمناطق الوعرة والمنحنيات الحادة، ومن ثم تحافظ على سلاسة القيادة وتمنح الركاب راحة وثباتًا أكبر. نعم، إن شركة مرسيدس، استفادت من خاصية الدجاجة في إبقاء رأسها مستقرًا مهما تحرك جسمها، حيث استوحت منها تقنية مثالية للثبات في سياراتها سمَّتْها تقنية “التحكم السحري” (MBC). إن نظام رأس الدجاجة في ثباته، هو نتيجةُ منعكس دهليزي متصل بعينيها كما ذكرنا آنفًا، وهذا ما ألهم المهندسين المصممين في شركة مرسيدس، محاكاة هذه التقنية.

لقد طورت الشركة نظام التعليق الخاص بها بإضافة تقنية مسح الطريق باستخدام كاميرات الإستريو (Stereo Camera) وأجهزة استشعار ومخمِّدات مغناطيسية. وهذا النظام يضمن استقرار المركبة وامتصاص الصدمات خلال القيادة، كما تساعد كاميرا الإستريو على رصد الطريق لمسافة ١٥ مترًا خلال الحركة، وتمسح جميع النتوءات والحُفَر حتى لو كانت بسماكة ثلاثة ملليمترات، وبسرعة تصل إلى ١٠٠ كيلومتر في الساعة، ثم ترسل هذه المعلومات إلى نظام التعليق الذي يوفر راحة للسائق أثناء القيادة، وتجعله لا يخشى المطبَّات التي قد تسبب حوادث فادحة.

والمهتمون يذكرون ٢٣ سبتمبر ٢٠١٣م؛ حيث أطلقت شركة مرسيدس في هذا التاريخ إعلانها عبر اليوتيوب، الذي استعرض تقنية رأس الدجاجة. فحينها ذيَّلت الشركة الإعلان بعبارة “ثبات في كل الأوقات، التحكم السحري بالهيكل”. والملفت للنظر أن الشركة لم تستخدم سيارة على الإطلاق في الإعلان، إنما اكتفت بعرض مجموعة من الدجاج التي تم تحريكها على إيقاع مقطوعة موسيقية في تمثيل مباشر لكيفية عمل التقنية المبتكَرة هذه.

أما في مجال الهندسة، فقد استخدم المهندسون جهازًا يسمى “الجيروسكوب” (Jiroskop)، وهو جهاز تم تطويره باستلهام من رأس الدجاجة أيضًا، حيث احتوى هذا الجهاز على عجلة أو قرص يدور بسرعة عالية حول محور، ما يمنحه خاصية الثبات والمقاومة للتغيير في اتجاه الدوران. وبالتالي يُستخدم الجيروسكوب في العديد من الأجهزة والآلات، مثل البوصلات والساعات والهواتف والحواسيب والطائرات والسفن والغواصات والسيارات والروبوتات وغيرها.. حيث يساعد على قياس وتحديد الاتجاه ثم تنظيم الزاوية والسرعة والتوازن.

نظام رأس الدجاجة أفاد مجال الطب أيضًا، حيث استخدم جهاز “الدهليزي” (Vestibular) استلهامًا من هذا النظام. والدهليزي جهاز إحساس يسهم في الحركة والإحساس بالتوازن، وهو جزء من الأذن الداخلية، يتكون من ثلاث قنوات شبه دائرية واثنين من الأكياس التي تحتوي على سائل وشعيرات حساسة للحركة. ويلعب نظام الدهليزي دورًا مهمًّا في تنظيم التوازن والتوجه والاستقرار البصري للإنسان. كما يستخدم في تشخيص وعلاج العديد من الأمراض والاضطرابات، مثل الدوخة، والصداع النصفي، والسكتة الدماغية، والشلل الرعاش.

أيّ علم هذا الذي نلاحظه لدى هذه الكائنة العجيبة؟ وأي تقنية عالية محيرة؟ أين درست الدجاجة هذا العلم يا ترى؟ كيف تعلمت؟ ما المستويات التي مرت منها؟ كم سنة استغرق تحصيل هذا العلم؟ مَن مُعلِّمها؟ ما الجامعة التي تخرجت فيها؟ وهل رأى أحد منَّا دجاجة تتردد إلى مؤسسة علمية؟ والمحير، أن تلاحظ هذا العلم الدقيق والتقنية البديعة لدى جنس الدجاج أجمع.. كل الدجاج.. صغارها وكبارها تجيد هذه التقنية العجيبة.

لا يمكن تفسير هذه الظاهرة المحيرة بالمصادفات.. كلا ثم كلا.. إنه الصانع البديع الذي علّم الإنسان ما لم يعلم. إنه الرب العظيم الذي أوحى إلى النحل كل النحل كيف تصنع العسل المصفى. وأوحى إلى الطير وعلَّمه كيف يحلق وكيف يغرد وكيف يعيش. إنه الباري الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.

المراجع:

(١) https://fb.watch/qrracH-urz/

(٢) https://fb.watch/qjw_KVRJ_M/

(٣) https://youtu.be/2kJzpy9mUxo?si=gFF5lj-bIqOy6rnI

(٤) https://youtu.be/nLwML2PagbY?si=E543oFoTzu-tu1lG