عندما تحاكَى الطبيعة

يقابل المهندسون على اختلاف تخصصاتهم، الكثير من المشاكل التصميمية، كما أنهم يحلمون دائمًا بابتكار الحلول الهندسية التي يمكن أن ترتقي بالحياة الإنسانية والحضارة البشرية. وتعتبر الطبيعة (خلق الله) هي أهم مصدر لتلك الحلول والابتكارات، التي يمكن أن تستلهم عن طريق دراسة الكائنات الحية (النباتات والحيوانات) وكذلك الأنظمة البيئية المختلفة.

وإذا تأملنا كل الاكتشافات والابتكارات العلمية الحديثة، فلا بد أن نجد لها أصلاً وأثرًا في الطبيعة، ولكن غرور الإنسان في بعض الأحيان يصوِّر له أنه أول من ابتدع هذه الابتكارات. وسنقوم في هذا المقال برحلة إيمانية وعلمية، نتجول من خلالها في أرجاء الطبيعة في محاولة لاستكشاف أصل بعض هذه التصميمات الهندسية في مختلف المجالات والتخصصات الهندسية.

هندسة الطيران

منذ القدم والإنسان يرى الطيور تحلق في السماء.. فظل حلم الطيران يراود هذا الإنسان إلى أن تحقق بعد محاولات وتجارب مضنية كلَّفت بعض البشر حياتهم.

لقد بحثنا تاريخيًّا عن الإلهام في مجال الطيران، فوجدنا أن رسومات “ليوناردو دافنشي” لآلة الطيران مستوحاة من الطيور والخفافيش. وكان الحمام مصدر إلهام لأول طائرة ناجحة للأخوين “رايت”. كما أن نوعًا من الطائرات بدون طيار صغيرة الحجم (Dragonfly drones)، تحاكي في شكلها وأجنحتها الأربعة “اليعسوب”. وبالتالي تم استلهام طائرة من الشكل الخارجي لأسماك الشيطان العملاقة (Manta rays)، وهي طائرة في طور التجريب (طراز بوينج X-48C) بدون طيار، الأكثر كفاءة والأكثر هدوءًا.

ومع كل ذلك، ظل حلم الطيران في الهواء يراود الإنسان، منذ محاولات العربي الأندلسي عباس بن فرناس قديمًا، التي أودت بحياته، إلى أن تحقق هذا الحلم بالفعل عام 1990م عندما تم ابتكار بدلة الطيران المجنحة (أو السنجاب الطائر) من أجل الطيران في الهواء، وقد تم استلهامها من الأسلوب الذي يتبعه السنجاب عند طيرانه، وهي تضيف مساحة لجسم الإنسان من أجل زيادة قوة الرفع أثناء الهبوط، وأصبح الحلم حقيقة.

الكهرباء في الطبيعة

أصبح الإنسان الحديث لا يستطيع أن يعيش بدون كهرباء، وإذا انقطعت لدقائق معدودة فإنه يشعر بأن الحياة قد تعطلت بالنسبة له، فلا توجد إضاءة داخل المباني ويتوقف عمل المبردات والمكيفات وشبكة الإنترنت، وغيرها من الأدوات والآلات في الورش والمصانع.

لقد رأى ولاحظ الإنسان منذ القدم ظاهرة البرق، وكانت مصدرًا لخوفه وهلعه، خاصة وأنه يكون مصحوبًا بالرعد، ولكن لم تفهم هذه الظاهرة من الناحية العلمية إلا عام 1746م، وأنها عبارة عن تفريغ شحنات كهربائية بين السحاب وبعضه، أو بين السحاب وسطح الأرض. وأصبح معلومًا الآن بأن البرق هو أحد أكثر الأشكال الرائعة للكهرباء في الطبيعة.

لكن الإنسان لم يخطر بباله، أنه توجد بعض الكائنات خُلقتْ بخلايا حيوية تولد شحنات كهربائية، من أجل الدفاع عن نفسها أو اصطياد طعامها، ونقصد هنا تحديدًا سمك “الأنقليس الرعاد”. هذا النوع من السمك تنتج مجموع خلاياه (6000 خلية) شحنات كهربائية تؤدي إلى إنتاج فرق جهد يتراوح ما بين 350 إلى 650 فولت، إلا أن هناك اختبارًا حديثًا أثبت أن بإمكانه أن يصعق بقوة تفوق 860 فولت من سمكة يبلغ طولها تقريبا 130 سم، وهو كافٍ لشلِّ حركة إنسان أو لقتل سمكة صغيرة.

ألا يذكرنا هذا النوع من الأسماك بالجهاز الكهربائي الصاعق الذي يستخدم في الدفاع عن النفس إذا ما تعرض الإنسان للسرقة الشخصية، أو غيرها من التعديات.

تقنية تحديد المواقع

نحن الآن نصِف عصرنا، بأنه عصر الاتصالات ونقل المعلومات، وهو يدخل في تخصص هندسة الاتصالات والإليكترونيات، وأصبح لدينا من التقنيات المتقدمة التي يتم استخدامها على نطاق واسع، كتقنية تحديد المواقع GPS على سبيل المثال.

فهل يوجد في الطبيعة بعض الكائنات التي تستخدم بعض أنظمة الاتصالات أو تحديد المواقع؟

تستخدم الخفافيش الصغيرة وجنس واحد من الخفافيش الضخمة، نظام تحديد الموقع باستخدام صدى الصوت أثناء الطيران، وذلك يعني أن هذه الحيوانات تقوم بإصدار الأصوات ومن ثم تقوم بتحديد موقع فرائسها، من خلال الأصداء التي تتلقاها.

كما اكتشف فريق من الباحثين أن فصيلة من الخفافيش تعمد إلى التشويش على الإشارات الصوتية للخفافيش المنافسة لها، لتخطف منها الطعام، وتستخدم تلك الفصيلة إشارات صوتية تعترض طريق الإشارات الصوتية للخفافيش المنافسة لها فتجعلها تخطئ الطريق إلى الفريسة. وهو ما يذكرنا بأجهزة التشويش على الرادارات وغيرها، وقد أصبحت منتشرة في تسليح الجيوش المعاصرة.

القندس أم الإنسان؟

يعتبر بناء السدود من أصعب وأعقد المشاريع الهندسية في مجال الهندسة المدنية وهندسة الإنشاءات، وهذه السدود تستخدم بصفة أساسية لتخزين المياه وتوليد الكهرباء. فهل الإنسان هو أول من توصل لفكرة بناء السدود، أم أنه يوجد في الطبيعة من سبقه إلى ذلك؟

يعتبر القندس من القوارض المائية الذي يقوم دائمًا ببناء السدود من أخشاب الأشجار، التي يقطعها بأسنانه وقوارضه الحادة، إلى جانب الاستعانة ببعض الأحجار والطين أيضًا، ولا شك أن القندس كان أسبق من الإنسان في معرفة بناء السدود.

والقندس يبني تلك السدود في المجاري المائية، من أجل تعميق المياه وحجزها قبل السد، ليكون مكانًا آمنًا للاختباء من بعض الحيوانات المفترسة كالدببة أو الذئاب التي يتغذى عليها، كما يقوم ببناء غرفة على شكل كروي من الخشب أيضًا بجانب هذا السد، ولها مداخل ومخارج من تحت الماء، ليتخذه سكنًا له ولأسرته.

لقد تم اكتشاف أكبر سد في العالم من بناء القنادس، يبلغ طوله نحو 850 مترًا، وقد اكتشف الخبراء هذا السد في متنزه “بافالو” الوطني في “ألبرتا” الشمالية بكندا. ويعتقدون أن عدة أسر من القنادس شاركت في بناء هذا الصرح الكبير الذي يحتوي على آلاف الأشجار، ويرجح أنه استغرق عدة شهور لاستكمال بنائه.

مساكن وبيوت الحشرات والطيور

أشار القرآن الكريم في سورتين مختلفتين (النمل، والنحل) إلى مساكن النمل وبيوت النحل، وإذا تأملنا ودرسنا مأوى تلك الحشرات في الطبيعة، فسنتعلم دروسًا متعددة في مجال بناء البيوت والمساكن بأسلوب يراعي البيئة.

فبعض أنواع النمل من نوع قاطع الأشجار، يعيش ضمن مستعمرات يقوم ببنائها، وقد يتجاور عدد كبير من المستعمرات. أوضحت الدراسات المتعددة الحديثة على أعشاش وقرى النمل، أنها تتكون بالحفر في التربة وتتكون أساسًا من جزأين أساسيين؛ هما عدد من الأنفاق الأفقية والرأسية أسطوانية أو بيضاوية الشكل، ومجموعة من الغرف (المساكن) كروية أو بيضاوية الشكل.

لقد تم استلهام أسلوب التهوية الطبيعية المستخدم في تلال وأعشاش النمل الأبيض، في تصميم أحد المباني الإدارية التجارية بزيمبابوي، حيث اعتمد المهندس المعماري “ميك بيرس” في تصميمه لمبنى “إيست جيت” (East gate) في هراري، على نفس الأسلوب المستخدم في هذه التلال التي تبرد نفسها ذاتيًّا.

كما كانت بيوت وخلايا النحل المسدسة الشكل، مصدرًا خصبًا لاستلهام شكلها وتكوينها الهندسي في تصميم العديد من المساقط الأفقية وكذلك واجهات بعض المباني. كما كانت أعشاش بعض الطيور مصدرًا لإلهام بعض المعماريين في تصميماتهم، ونذكر منها استاد بكين الدولي، ويسمى أيضًا استاد عش الطائر، وهو الملعب الذي احتضن الفعاليات الرئيسية في الألعاب الأولمبية الصيفية 2008م في العاصمة الصينية.

هندسة ميكانيكية في الطبيعة

تهتم الهندسة الميكانيكية بتصميم وتصنيع وتركيب وتشغيل المحركات والآلات، وهي مهتمة بشكل خاص بالقوى والحركة. إن الطبيعة بها الكثير من الكائنات الملهمة في شكلها وخلقها وكفاءة أدائها، بحيث يمكن أن تكون مصدرًا للعديد من الأفكار والابتكارات في عالم هندسة الماكينات والآلات.. ومن هذه الكائنات، الحوت الأحدب، حيث تم استلهام شكل زعانف الحوت الأحدب في تصميم شفرات توربينات الرياح.

كما طرحت شركة مرسيدس بنز سيارة اختبارية عام 2005م في واشنطن العاصمة، وقد تم تصميمها على غرار نوع من الأسماك وهو سمكة الصندوق الصفراء، وتتميز بأنها أقل بنسبة80% في انبعاثات أكسيد النيتروجين. وتم استلهام الشكل الخارجي لتلك السيارة من شكل جسم السمكة، الذي يحقق كفاءة بالنسبة لحركة الهواء وصلابة هيكلها الخارجي.

إن الأمثلة التي قدمناها في مقالنا هذا تعتبر غيضًا من فيض، وإلا فعالم النبات والحيوان والأنظمة البيئية، فيه الكثير من العجائب والأسرار، التي تحتاج إلى التأمل والدراسة والتعلم. وبعد هذه الجولة السريعة لا بد أن نتأمل ما في الطبيعة من حلول هندسية، ونحاول أن نتفكر فيها ونحللها لنتعلم ونستفيد منها في حل الكثير من المشكلات الهندسية، وفي الارتقاء بالحياة والحضارة الإنسانية.

(*) أستاذ ورئيس قسم العمارة بمعهد الطيران / مصر.