التذوق نعمة من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى.. وتشكل هذه الحاسة مصدر لذة للإنسان، فهي التي تمكننا من الاستمتاع بالأكل، فإذا ما تناولنا الطعام، بمجرد وصوله إلى داخل الفم نعرف ماهيته، وهل هو حامض أم مالح أم أنه شديد المرارة.. قس على ذلك كل شيء يتناوله الإنسان عن طريق الفم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف تنتقل هذه الإشارات من الفم إلى المخ؟
يعتقد معظمنا أن آذاننا تسمع، وأعيننا ترى، وأصابعنا تلمس، وألسنتنا تتذوق.. ولكن الحقيقة هي أن هذه كلها مجرد “آلات إحساس” ترصد المتغيرات وتحولها إلى أدمغتنا التي تفسرها كصور وأصوات عبر ما يردها من الحواس.
لقد ظلّ هذا الأمر لغزًا محيرًا لسنوات طويلة، إلا أن العلماء الذين فحصوا اللسان عن قرب، تمكنوا من اكتشاف بعض التفصيلات المثيرة للاهتمام حول الأجزاء التي تشكل نظام التذوق، وكيف أن هذه الأجزاء تتناسب مع بعضها البعض.
عندما نخرج لساننا وننظر إليه نرى نتوءات كثيرة، ويعتقد الكثير من الناس أن هذه النتوءات هي براعم التذوق، إلا أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، فهذه النتوءات التي نراها هي الحليمات، وهي مسؤولة عن حماية البراعم بداخلها. أما براعم التذوق الحقيقية فهي تتكون من خلايا رقيقة متراصة مثل شرائح البرتقال تحت سطح الحليمات، حيث تتوفر لها حماية جيدة، ولا يظهر منها على سطح اللسان سوى أطرافها، ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، لكن إذا كان بمقدورك تكبير الصورة، فسترى أن كل حليمة فيها الآلاف من براعم التذوق.
يخزن كل برعم من براعم التذوق عند نهاية أطرافه، بروتينات دقيقة تسمى “مستقبلات التذوق”، ويتمثل الدور الذي تلعبه بروتينات مستقبل التذوق في اكتشاف المواد الموجودة داخل الفم مثل جسيمات الطعام. وهناك خمسة أنواع متخصصة من بروتينات مستقبلات التذوق، وكل منها مسؤول عن رصد واكتشاف واحد من المذاقات الرئيسية الخمسة: الحلو، والحامض، والمالح، والمر، والمتبل الشهي (ذلك المذاق “اللحمي” للأطعمة مثل المرق والحساء).
عندما يتم إخطار إحدى خلايا براعم التذوق برصد مادة معينة مثل الطعام، تبدأ البراعم في الاستجابة، حيث تُنشط براعمُ التذوق عشرات البروتينات داخل الخلية وتحفزها على العمل، وعندما تتلقى الأعصاب الموجودة في اللسان هذه الإشارات من خلايا براعم التذوق، فإنها تمررها إلى المزيد والمزيد من الأعصاب، بحيث ترسل رسالة تنتقل مسرعة نحو آخر الفم، ومنه إلى المخ عبر ثقب دقيق في جمجمتك. وهناك، تُنهي قشرة التذوق (مركز التذوق في المخ) المهمة، إذ تخبرك بالمذاق الذي تلقَّيتَه سواء أكان حلوًا أو مالحًا أو مُرًّا أو حامضًا أو متبلاً.
الارتباط الوثيق بين التذوق والشم
عندما يصل الطعام إلى الفم تنتقل الرائحة من خلال الممر الذي يربط الفم بالأنف، ومن ثم تصل الإشارات إلى الدماغ الذي يختزن كل المعلومات، بما فيها تلك المتعلقة بالطعام. فالدماغ هو من يقرر ما إذا كان الطعم حلوًا أو مرًّا، مالحًا أو حامضًا، لذيذًا أو غير لذيذ.. وهذا ما يفسر الخلل الذي يصيب حاسة التذوق عند المرض، وتحديدًا في حال الزكام؛ فعند الإصابة بالزكام ينسدُّ الممر ما بين الفم والأنف جزئيًّا أو في شكل شبه كلي، مما يمنع جزئيات الرائحة من التحرك، وبالتالي يمنع المعلومات من الوصول إلى الدماغ، فيصبح الطعام بلا مذاق ولا نكهة، ويصبح كل ما نأكله سيان. وهذا يفسر أيضًا رفضنا تناول كل ما لا نستسيغ رائحته، كما يفسر القول الشائع “رائحته شهية” أو “رائحته تفتح النفس”. كما يبدو أن مقولة “المرء يأكل بعينه أولاً” ليست من فراغ، لأن هناك العديد من الحواس تشترك في عملية التذوق.
إن مفهوم اللذة الذي نتداوله كثيرًا في كلامنا، عبارة عن تأثير مشترك للطعم والرائحة، بمعنى أنه لو انعدمت حاسة الشم لما كان هناك أي معنى لحاسة الذوق، لأن الشعور باللذة أثناء تناول المأكولات أو المشروبات، يتطلب وجود مستقبلات حسية شمية إلى جانب وجود مستقبلات حسية ذوقية.
ولا شك أن التكامل الوظيفي بين حاسة الشم وحاسة الذوق، هو دليل على التصميم المعجز والخارق لجسم الإنسان، إذ كيف يمكن تفسير التكامل الوظيفي بين بلايين الخلايا اللاشعورية عديمة العقل؟ لا يمكن حدوث ذلك إلا بإمكانية واحدة لا غير، وهي أنها مخلوقة من قبل خالق السماوات والأرض الذي أوجدها وصممها، وأوكل إليها مهامها، وألهمها أعمالها وسخرها لخدمة الإنسان.
خريطة مستقبلات الطعام “هُراء”
ما يثير إحباط الباحثين كثيرًا، هو أن هناك فكرة ثابتة باستحكام مفادها أن مستقبلات الأطعم المختلفة موجودة في مناطق معينة باللسان؛ إذ مستقبلات الطعم الحلو تكون موجودة في الأمام، ومستقبلات الطعم الحامض والمالح تكون موجودة على الجانبين، ومستقبلات الطعم المُرّ تكون موجودة في الخلف.
تجربة مثيرة أجرتها طبيبة نفسية تدعى “كاثرين أولا” أجبرت فيها نفسها على تناول طعام تكرهه، بهدف فهم الكيفية التي يتعامل بها العقل البشري مع الطعام، وكيف تساهم الحواس المختلفة في تجربة التذوق، وجاءت النتائج مشوقة للغاية.
ترى “كاثرين” مديرة البحث والتطوير في شركة عطور بسويسرا، أن خريطة مستقبلات الطعام هي في الحقيقة مجرد “هُراء”؛ لأن مستقبلات التذوق تنتشر في جميع أنحاء اللسان، مع وجود عدد كبير بشكل خاص من مستقبلات الطعم المرّ في الخلف. وتوضح “كاثرين” أن “هذا يبدو منطقيًّا”، لأن تحفيز هذه المنطقة يحفز أيضًا العصب الذي من الممكن أن يؤدي إلى ردة الفعل البلعومية، وهي استجابة وقائية لمنع دخول الأجسام الغريبة إلى الحلق، وطرد المواد غير الصالحة للأكل أو السامة.
الشيء الذي يلفت النظر، أن حساسية الخلايا الذوقية المتخصصة بالطعم المر، تبلغ عشرة آلاف ضعف عن حساسية الخلايا التي تتذوق الطعم الحلو، لأن الله جلت حكمته جعل كل طعام سام مؤذٍ، مر الطعم.. وهذا التوافق معجز، فالطعام الذي ينفعك حلو المذاق، والطعام الذي يؤذيك مر المذاق. لذلك فكل أنواع السموم، لها طعم مر، ولئلا يتسمم الإنسان كانت حساسية الخلايا المتخصصة لتذوق الطعم المر عشرة آلاف ضعف حساسية الخلايا المتخصصة لتذوق الطعم الحلو.
تبدأ القدرة على الشم والتذوق بالتراجع تدريجيًّا، بعد الدخول في الخمسين من العمر، وتُصبح الأغشية المبطنة للأنف أقل سماكةً وأكثر جفافًا، وتتدهور صحة الأعصاب المسؤولة عن الشم، ومع ذلك يبقى بوسع المسنّين استنشاق الروائح القوية، أما الروائح الضعيفة فيكون التعرف إليها أكثر صعوبة. ومع التقدم في السن، يتراجع عدد براعم التذوق، وتتراجع حساسية البراعم المتبقية. وتُقلل هذه التغييرات من قدرة المسن على تذوق الطعمين الحلو والمالح أكثر من الطعمين الحامض والمر. كما يبدو مذاق العديد من الأطعمة باهتًا، وفي كثيرٍ من الأحيان يميل الفم لأن يصبح أكثر جفافًا، مما يقلل من قدرة المسن على الشم والتذوق.
مهنة الذواقة
ربما يبدو الأمر ممتعًا إذا كنت سائحًا وتريد أن تتذوق طعامًا أو شرابًا ما، ولكن أن تصبح مهنتك التي تطارد تفاصيل حياتك وتلزمك دفتر شروط لا ينتهي، فالأمر يصبح عبئًا. كيف نشأ مفهوم التذوق وأصبح مهنة؟
كان الذواق تاريخيًّا هو الشخص الذي يقع على عاتقه تذوق الطعام قبل سيده، للتأكد من خلوه من السم في عصر الأباطرة الرومان والسلاطين العثمانيين والملوك.. لأن دس السم في الطعام كان أسهل وسيلة للتخلص من رأس السلطة الذي يشك بأقرب المقربين، وكان الوصول إلى السلطة يمر أحيانًا عبر قطرات السموم، ولطالما قرأنا عن ملوك أسقطهم السم عن عروشهم إلى قبورهم. وهكذا كان لا بد من التضحية بمن يتلقى الطعنة الأولى متذوق الطعام، فإن ظهر عليه ما يقلق، يمتنع سيده عن تناول الطعام، وإن مات فإنه كبش فداء. وغالبًا ما كان الطباخ ذاته هو المتذوق، حتى يصبح طابخ السم آكله. لكن هذه المهنة أخذت بالاندثار مع إيجاد مضادات السموم التي ابتكرها كيميائيو ذلك الزمن، كما ركبوا سمومًا جديدة، وكانت تزدهر في بقاع ثم تخبو في بقاع أخرى من المعمورة.
واليوم، لم يعد المتذوق درع معدة سيده، بل بات خبيرًا بمكانة عالية ومهنة صعبة ودقيقة للغاية، إذ يحتاج إلى موهبة تعطيه هذه الصفة ليكون محل ثقة. وتحتاج الشركات إلى موافقته على الأطعمة التي تريد طرحها في الأسواق الغذائية والمطاعم.. ولا يقتصر الأمر على الطعام والشراب بل يتعداه إلى الأدوية، خاصة أدوية الأطفال التي يجب أن يكون طعمها مرغوبًا.
ومن الصفات الأساسية للمتذوق، أن تكون لديه حاستا شم قوية وتذوق خارق يميز من خلالهما مكونات ما يتناوله. والمتذوق الموهوب تظهر عليه حساسية حسية عالية منذ طفولته، فيفرق بين الروائح والمذاقات، ويلاحظ الفرق الطفيف بمهارة عالية، ويشكل أولئك 15 بالمئة من سكان الكرة الأرضية. ولا يمكن تعليم هذه الحساسية، لكن يمكن تطوير القدرات. وكلما زادت المذاقات في الذاكرة زادت قيمة المتذوق كمتخصص، وهذا ينطبق على متذوقي القهوة والشاي والنبيذ بشكل رئيس.
وأخيرًا.. لأهمية التذوق يوجد اتحاد عالمي للذواقين، وله فروع في 40 دولة، كما أن له مجلة خاصة تدعى “تيسترز جورنال”. ومثال على أهمية هذه الموهبة، فقد قام ديف روبرتس، المتذوق الرئيس لقهوة “نستله” عام 2011م، بالتأمين على أنفه مقابل مليوني جنيه إسترليني. وقد لعبت حاسة التذوق دورًا في تاريخ العالم، فقبل 300 سنة وبسبب هذه الحاسة، دخلت مجموعة من الدول الأوربية مثل فرنسا، انكلترا، هولندا، البرتغال، وغيرها، في صراعات قوية للسيطرة على مصادر التوابل في العالم بعد 200 عام من اكتشافها واستخدامها في الطعام.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.