لعل ما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، هو حرصي الشديد على نقل جانب يسير من الإعجاز الرباني في عملية “التوليد”.. نخرج باكين من بطون أمهاتنا كارهين ما حل بنا، خائفين مما ينتظرنا، نبكي رجاء عودتنا لجدران الحنان الذي فقدناه.. لو كانت الحياة جميلة لمَا ولدنا ونحن نبكي.. فالطفل يبكي لأنه أراد الحياة، ولو لم يُردْها لمَا خرج من بطن أمه أصلاً.. إنه يبكي ويذرف دموع الاشتياق لأمه ولحنانها المتدفق من حنايا روحها، رغم أنه لم يعرفها وجهًا لوجه إنما عرفها بروحها ومشاعرها.
إن الوضع هو نهاية الحمل عن طريق خروج الطفل من الرحم في حالة طرد نتيجة للانقباضات القوية والمتزايدة للرحم التي تمكنها من طرد الطفل. ويقرر الطب الحديث أن الولادة نفسها عملية لا إرادية لا دخل للإنسان فيها. فعندما يصل الحمل إلى نهايته ويحين موعد الولادة الذي لا يعلمه إلا الله، ينقبض الرَّحِم على الجنين ليطرده إلى الخارج.. ولم يعرف الطب بعدُ شيئًا عن هذا الانقباض ولا عن الأجهزة التي تشرف عليه، وما وصل إليه الطب حتى الآن كلها نظريات لم تصل إلى درجة اليقين العلمي بعدُ.
هرمونات الحمل والولادة
وتكمن قمة الإعجاز الرباني في عملية التوليد في دور تلك الهرمونات التي يفرزها جسم الأم، والتي تُعتبر رسائل كيميائية تعمل بصورة مُتكاملة، لتوجيه حدوث التغيرات الأساسية في جسم كل من الأم وطفلها؛ للمساعدة على تسهيل الولادة وضمان سلامتهما، إذ تساهم في تحضير الطفل للولادة، وتجهيز الأم لهذه اللحظة.
تبدأ الحكاية بعد فترة وجيزة من تعلّق البويضة المخصبة ببطانة الرحم وبدء المشيمة بالتشكل، حيث يبدأ جسم الأم بإنتاج هرمون يسمى موجهة الغدد التناسلية المشيمية البشرية أو هرمون الحمل، وهو أحد هرمونات الحمل الرئيسية التي ينتجها جسم الأم في الأشهر الثلاثة الأولى، وتتضاعف كميته كل يومين في تلك الأسابيع الأولى. يقوم هرمون الحمل بتنبيه المبيضين لوقف إطلاق البويضات، كما يعطي الجسم إشارة لإنتاج المزيد من هرموني الأستروجين والبروجسترون. يبدأ هذان الهرمونان الرئيسيان اللذان ينتجهما الجسم أثناء الحمل، عملهما منذ سن البلوغ. ويعملان معًا لتنظيم دورة الأم الشهرية ولتكوين الخصائص الأنثوية. تزداد مستويات هذين الهرمونين في كل أسبوعٍ في مراحل الحمل المبكرة، وتؤدي هذه الزيادة إلى توقف الدورة الشهرية وإلى تغذية ونمو المشيمة. كما يساعدان أيضًا على بناء بطانة الرحم، وعلى زيادة إمدادات الدم إلى منطقة الحوض والثديين، وكذلك على جعل عضلات الرحم ترتخي. كما أنهما أيضًا وراء تلك العواطف القوية التي ستمر بها الأم خلال فترة الحمل، ثم تبدأ مستويات هذين الهرمونين بالهبوط بمجرد ولادة الطفل.
وفي المراحل المتأخرة من الحمل يقوم هرمون يسمى “الريلاكسين” بتهيئة جسم الأم للمخاض، كما يساعد على ارتخاء الأربطة والمفاصل الأخرى في منطقة الحوض بحيث يمكن لمنطقة الحوض أن تتوسع أثناء الولادة، كذلك يعمل الريلاكسين على زيادة ليونة عنق الرحم. ثم يأتي دور هرمون الأوكسيتوسين، الملقب بـ”هرمون الحب والثقة”، الذي يلعب دورًا أساسيًّا في المساعدة على تكوين العلاقة الخاصة بين الأمهات وأطفالهن، ويعتبر أحد الهرمونات التي تساعد على تحفيز تدفق الحليب أثناء الرضاعة الطبيعية وبعد انقضاء فترة الحمل. وأخيرًا يجيء دور البرولاكتين، وهو الهرمون المسؤول عن تحفيز إدرار حليب الثدي، يصنعه جسم الأم أثناء وبعدَ فترة الحمل. يفتتح هذا الهرمون عملية إنتاج الحليب ويعزز كميته، لكن فعل الرضاعة الطبيعية واستدرار الحليب يحفز الجسم إلى إنتاج المزيد من هذا الهرمون، الذي -بدوره- يحفز الثدي على إنتاج المزيد من الحليب.. ويصدر الأمر للهرمونات لتعود لطبيعتها بعد الولادة بحوالي ستة أشهر تقريبًا، حيث ينخفض هرمون الإستروجين والبروجيستيرون، مما قد يسبب ظهور أعراض القلق والتهيج والاكتئاب على المرأة. ويرتفع هرمون الأوكسيتوسين ليعوض نقص هرمون الإستروجين والبروجيستيرون، وليقوم بدور هام هو إعادة الرحم إلى حجمه الطبيعي. كما ينخفض هرمون الحمل تدريجيًّا بعد الولادة، ليعود لمستواه الطبيعي الموجود قبل الحمل بعد 5-6 أسابيع تقريبًا.
مراحل الولادة
المرحلة الأولى: “St. Stage1” اتساع عنق الرحم “Effacement”. قد تستغرق عملية توسيع عنق الرحم ساعتين وأحيانًا تمتد إلى ست عشرة (16) ساعة أو أكثر، وفي البداية ينقبض الرحم وتكون مدة كل انقباضه من 30 إلى 35 ثانية، وتحدث هذه الانقباضات كل 15-20 دقيقة، كما تكون هذه الانقباضات لا إرادية، بحيث لا تستطيع الأم أن تبدأها أو توقفها أو تجعلها تسرع أو تبطئ.. ويزداد معدل الانقباضات في هذه المرحلة حتى تصير كل دقيقة أو دقيقتين، وتستغرق مدة أطول حتى تصل إلى 90 ثانية، وتفوق آلام الطلق أيَّ ألم آخر. ولعل منشأ الألم في المرحلة الأولى من الولادة، يرجع إلى نقص الأكسجين لعضلات الرحم بسبب الانقباض على الأوعية الدموية للرحم.
المرحلة الثانية: “Stage.nd2” ولادة (طرد) الجنين من الرحم “Expulsion”. هي أطول المراحل الثلاثة، وتستغرق هذه المرحلة عدة دقائق إلى نصف ساعة في الأم المتعددة الحمل، وتكون الفترة أطول لدى الأمهات الجدد. وفي هذه المرحلة يحدث طرد الجنين (Expulsion)، وفيها تكون الانقباضات اللاإرادية أطول مدة وأقصر مسافة فيما بينها. وتنقسم هذه المرحلة فعليًّا إلى مرحلتين، هما المخاض المبكر والمخاض النشط.
فخلال المخاض المبكر، يتوسع عنق الرحم ويترقق مع وجود انقباضات خفيفة وغير منتظمة، وخلال المخاض النشط، يتوسع عنق الرحم أكثر، وتصبح الانقباضات قوية ومتقاربة ومنتظمة. وهذه هي المرحلة الأخطر التي تحتاج إلى المتابعة الكثيفة ومراقبة نبض الأم والجنين ومستوى الأوكسجين في دمهما باستمرار، لأن هبوط أي من هذه المستويات، يشكل خطرًا على الحياة. من جهة أخرى فإن هذه المرحلة خطرة؛ لأن التمزق الذي يصيب الأعضاء التناسلية للأم يحدث خلالها، فقد تتعسر الولادة، وعندها يضطر الطبيب أو القابلة لعمل شق في العجان من أجل تسهيل الولادة. وتكون آلام الطلق في هذه المرحلة أكثر شدة، وذلك بسبب اتساع عنق الرحم واتساع العجان والمهبل مع محاولة التمزق.
ومن رحمة الخالق أن تحدث انقباضات الولادة متقطعة، لأنه في كل انقباضة قوية يمنع الدم من الوصول عبر المشيمة للمولود. ولذلك فلو كانت هذه الانقباضات مستمرة فإنها تسبب وفاة الجنين. ولعل هذا ينبهنا -كأطباء- إلى خطورة استخدام بعض الأدوية القابضة للرحم، مثل “Oxytocin” التي تجعل الرحم في حالة تشنج لدرجة أنها تؤدى إلى وفاة المولود إذا أسيء استخدامها.
ونلاحظ أنه في كل انقباضة يظهر جزء من رأس المولود، ثم يختفي هذا الجزء ثانية بعد زوال الانقباضة، ولكن في كل انقباضة يزداد ظهور هذا الجزء إلى أن تخرج رأس الطفل كلها حرة خارج المهبل. وفي بعض الحالات لا يحدث هذا تلقائيًّا نظرًا لكبر رأس المولود، وفي هذه الحالات يلجأ أطباء الولادة إلى شق العجان في اتجاه فتحة الشرج، ليساعد على خروج الرأس وليمنع أي تمزق للأنسجة.
ولنعلم أن 19 من كل 20 ولادة تكون الرأس فيها هي أول جزء في الطفل عند الخروج، أما باقي الحالات فقد تكون المقعدة أو أحد القدمين أو الحبل السري هي أول ما يخرج من الطفل، وعلى الطبيب أن يتعامل مع هذه الحالات بالمهارة المطلوبة. وعلى الطبيب أن يلاحظ الأم والمولود باستمرار، وإذا حدث أي قلق على أيٍّ منهما، فعليه أن يتدخل إما بإخراج الجنين بالشفط (Suction)، أو باستخدام الآلات كالجفت (Forceps) وغيره، أو حتى بالتدخل الجراحي عن طريق “العملية القيصرية”.
المرحلة الثالثة: “Stage. rd3” وتشمل ولادة المشيمة (الخلاص) بأغشيتها. تبدأ هذه المرحلة مع ولادة الجنين وتنتهي بولادة المشيمة (الخلاص). ونعني بولادة المشيمة، انفصالَ المشيمة وأغشيتها من جدار الرحم. وبعد أن تنفصل هذه المكونات، تطرد من الرحم بفعل الانقباضات التي تحدثها عضلات الرحم، التي تشترك جميعها في هذه العملية حتى العضلات الموجودة في مكان التصاق المشيمة بالرحم. وينبغي أن نعلم أن المشيمة نفسها لا تنقبض، ولكن ما يحدث هو أن مكان التصاق المشيمة بالرحم ينكمش بالتدريج مع كل انقباضة للرحم حتى تنفصل نهائيًّا وتصبح حرة في الرحم، وعندئذ تطرد بفعل قوة الطرد. وتستغرق هذه المرحلة من 15-60 دقيقة في كل من الأم متعددة الحمل، وكذلك الحامل في أول حمل (Primipara)، أي أن متوسط هذه المرحلة 30 دقيقة.
ومن المعلوم أنه لولا رحمة الخالق التي جعلت الرحم ينقبض انقباضًا شديدًا بعد الولادة حتى يصير مثل الكرة، لنزفت النفساء حتى الموت؛ وذلك لأن فوهات دموية عديدة تنفتح بعد زوال المشيمة، وتبقى الأوعية الدموية التي كانت تصل ما بين الرحم والمشيمة مفتحة وكأنها الجداول والأنهار.
ومن إعجاز الحق تبارك وتعالى أن نظم عضلات الرحم بطريقة خاصة على شكل 8، بحيث تضغط هذه العضلات على الأوعية الدموية وتقفلها. لذا فإن انقباض الرحم بعد الولادة، يقفل الأوعية الدموية التي كانت تغذي المشيمة. ويعود الرحم إلى حجمه الطبيعي قبل الحمل بعد الولادة بأربعة أو خمسة أسابيع، أما بقايا الجزء من المشيمة في جدار الرحم فيتحلل وينزل إلى الخارج مدممًا في البداية ثم أصفر اللون.
تيسير سبيل الولادة
قال تعالى: (قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) (عبس:١٧-22).
تبدو الرعاية الربانية للنطفة، من بداية كونها نطفة، ثم بعد اكتمالها في خروجها، وتيسير سبيلها، ثم تنتهي الدورة بالحشر والنشر. يمر الجنين في هذا الممر الضيق وهو عنق الرحم، الذي لا يسمح في العادة لأكثر من إبرة لدخوله، فيتسع ذلك العنق ويرتفع تدريجيًّا في مرحلة المخاض حتى يتسع إصبعًا، ثم إصبعين، ثم ثلاثة، ثم أربعة، فإذا وصل الاتساع إلى خمسة أصابع فإن الجنين يكون على وشك الخروج.. ليس هذا فحسب وإنما الزوايا الموجودة بين الرحم وعنقه تنفرج، لتجعل ما بين الرحم وعنقه طريقًا واحدًا أو سبيلاً واحدًا ليس فيه اعوجاج، كما هو معتاد من حيث يكون الرحم مائلاً للأمام بزاوية درجتها تسعين درجة تقريبًا.
وفي الحمل يكون وضع الرحم مع الحمل بدون زوايا. ثم يأتي دور الإفرازات والهرمونات التي تسهل عملية الولادة، وتجعل عظام الحوض وعضلاته ترتخي وخاصة تحت مفعول هرمون الارتخاء. وهكذا تتضافر هذه العوامل جميعها، لتيسر لهذا المخلوق سبيل خروجه إلى الدنيا. ويستمر ذلك التيسير بعد الولادة، حيث ييسر الخالق عز وجل للرضيع لبن أمه وحنانها، ثم ييسر له عطف الوالدين وحبهما، ثم يستمر التيسير لسبل المعاش من لحظة الولادة إلى لحظة الممات.
كلمة أخيرة: وهكذا رأينا أن الطبيب أو القابلة يتلخص دورهما في مساعدة الحامل في استقبال مولودها وإعداده، وأقصد المساعدة فعلاً.. فالولادة عملية فسيولوجية نظمها الخالق تبارك وتعالى، فمهمة الطبيب أن يقوم بتشجيع “الوالدة” على تحمل الألم، وأن يرشدها إلى محاولة التنفس الطبيعي والاسترخاء بين النوبات المتكررة للطلق، وكذلك يوجهها إلى الطريقة الصحيحة لعملية “الحذق”، ويقوم بتسهيل سبيل الخروج للجنين من الرحم.
وبالرغم من أن فترة الحمل الطبيعية تسعة أشهر، وبالرغم من أن الأطباء يحتسبون فترة الحمل 280 يومًا في المتوسط من أول أيام الحيض السابق للحمل مباشرة، إلا أنه لوحظ أن الولادة لا تتحدد في اليوم المرتقب، فقد تسبق الحامل هذا التاريخ أو تتأخر عنه بأيام قليلة أو كثيرة. وهكذا بالرغم من دقة الحسابات وتقدم الكشف وبراعة الطب وموالاة الفحص، فإنه يستحيل تحديد يوم الوضع، إذ لا دخل للحامل ولا للطب فيه، حيث ينتظر الطبيب كما تنتظر الحامل أمر الله بالولادة.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.