الشرع الشريف كما اعتنى بالفرد وقرر حقوقَه وواجباتِه، اعتنى أيضًا بالشأن العام، واهتمَّ به اهتمامًا بالغًا عبر منظومة القيم الإسلامية ومبادئ الشريعة ومقاصدها، وجعل ضبط هذا الشأن من أهم عوامل العمران في الدنيا ونجاة الإنسان في الآخرة.
وفي سبيل تحقيق ذلك المقصد العظيم اتَّخذ الشرعُ جملة من الإجراءات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
الإجراء الأول: (وأد الفتنة في مهدها):
فبمجرد أن يعرف ولي الأمر بشرارة نار الفتنة يحاول جاهدًا إخمادها وإطفائها.. وكلامنا عن ولي الأمر هنا ليس المقصود به الحاكم أو رئيس الدولة فقط، وإنَّما هو كل من ولي أمرًا من الأمور، فهو الأستاذ في محاضراته، وهو الشيخ في مسجده، وهو الأب في منزله، وهو الوزير في وزارته.. وهكذا «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» كما في الحديث الشريف.
ولنا في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة.. فحينما بلغه قول عبدِ الله بنِ أُبَيِّ بنِ سلول في حقِّ المسلمين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتله، فقال له رسول الله: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟!
فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلِّمَ أصحابه الكرام ويعلمنا أيضًا كيفية المحافظة على الشأن العام واستقرار الدولة والمجتمع، وكيفية الموازنة بين الأضرار وقياساتها؛ شدَّة وضعفًا، حتى لا يُستخدَمَ هذا الفعل استخدامًا سيئًا ضد الدين والدولة في ذلك الوقت؛ فيكون ضرره أشدُّ ومصيبته أعظم.
ولذلك جاء في رواية أُخرى: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرَ أن يؤذَّن في الناس بالرحيل ليشتغل بعضهم عن بعض، فيتفرقوا وتنتهي المشكلة من أساسها.
الإجراء الثاني: التحذير الشديد من الشائعات، خاصَّة في وقت الأزمات:
فالشائعات وتناقل الأخبار غير الموثوقة على وجه الجزم بها هو أمرٌ منهيٌّ عنه شرعًا، ويزداد الأمر جرمًا وإثمًا إذا كان في أوقات الأزمات، أو كان عاملًا لنشر البلبلة وإحداث الاضطراب بين الناس؛ فيتحول الأمر حينئذ إلى “الإرجاف” في الأرض، وهذا من كبائر الذنوب التي توعد الله سبحانه وتعالى بها أصحابها؛ يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، وفي الحديث الشريف: “كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا -وفي رواية: اثمًا- أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ“؛ فليس كل ما يقال هو من الحقِّ، فإذا تحدث الإنسان بكل ما يسمعه وقع في الكذب وترويج الباطل، حتى وإن صادف الصدق.
الإجراء الثالث: تقديم المصلحة العامَّة على المصلحة الشخصيَّة:
فتصرف الفرد بحقِّ نفسه مقيَّدٌ بما لا يتعارض مع مصلحة الجماعة فإذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة عموم المجتمع تعيَّن تقديم المصلحة العامَّة، وكذلك تقدم الرؤية العامة على الرؤية الشخصية أو القراءات الأحاديَّة، ومن هنا نصَّ العلماء على أنَّ المصلحة العامة كالضرورة الخاصة التي تُلجئ الإنسان لفعل بعض المنهيات.
فقد أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه الساكنين المجاورين للمسجد ببيع دورهم المحيطة به من أجل توسعته للمصلين، فاجتهاد الإمام إذا أدى إلى حكم في مسألة مظنونة لمصلحة المرافق العامة التي يعود نفعها على البلاد والعباد، ودعا إلى موجب اجتهاده قومًا بأعينهم؛ فيتحتم عليهم متابعة الإمام.
فيجبُ علينا الالتزام بهذه الأمور وأن نعيَها جيدًا؛ لعظم ما قد تؤول إليه ويعود أثرها على المجتمع بأكمله.