الإنسانُ يُعرف بأصحابه، ويقاس بإخوانه، فعليه أن يحسن اختيار صحبه، وينتقي من يجالسهم ويرافقهم حال حياته؛ لأنه يتأثر بأفعالهم ويستقي من أخلاقهم وإن لم يشاركهم في أعمالهم، وهذا كما يكون في الخير والعطاء يكون في الشر والبلاء، وكما قيل:
لا تسأل عن المرء وسَلْ عن قرينه | فكلُّ قرينٍ بالمقــارنِ يقتــدي |
وعلى الإنسان إذا صحبَ أن يصحَب مع الله، وإن لم يستطع فليصحَب مع من يصحَب مع الله.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قيل يا رسول الله: أيُّ جلسائنا خيرٌ؟ قال: “من ذَكَّركم بالله منظرُه، وزاد في علمِكم مَنطِقُه، وذكَّركم بالآخرة علمُه“.
وهنا يبيُّن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم رتبة الصاحب ودرجة الصديق المؤمَّل جلوسه، والذي يسعى الإنسان في اكتساب صحبته، وهو من يُذكِّرُ بالله تعالى على كل أحواله وشؤونه؛ هيئةً ومنطقًا وعلمًا، بحيث إذا رآه الإنسان ذكَرَ الله تعالى، كما جاء في الحديث أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وآله وسلَّم قال: “ألَا أُنبِّئُكم بِخيارِكم؟”، أي: أفاضِلِكم، فقال الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنهم: “بَلى، يا رسولَ اللهِ”، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “خِيارُكم، الَّذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ عزَّ وجلَّ“.
لأن صفات الأخيار وجميل شِيَمِهِم ينعكس على أخلاق من يجالسهم ويرافقهم، وفي ذلك المعنى يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري: “اعلم أنَّ المجالسة تكون بالمجالسة فإن جلستَ مع المحزون حزنتَ، وإن جلستَ مع المسرور سُرِرتَ، وإن جلستَ مع الغافلين سَرَت إليك الغفلة، فتبَصَّر أمرك وتدبر حال صَحبِك، وإن وفقك الله إلى صُحبة طيبة فأكثِر من شُكر الله على هذه النعمة العظيمة، ولا تصاحب مَن لا يدلك على الله، ويذكرك بالله فى كلامه“.
ذلك أنَّ مجالسة الصالحين هي مما تؤثّر في العبد فتستطيع أن تنقله من دائرة إلى دائرة أُخرى؛ فتنقله من دائرة الغفلة إلى دائرة الذكر، ومن دائرة الضيق والقبض إلى دائرة السعة والبسط، وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ -[يعطيك]- وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً“.
فكم في ذلك من فضيلةٍ لمجالسة الصالحين وأهلِ الخير والْمُروءة ومكارمِ الأخلاق والورع والعلمِ والأدبِ، وكم من رذيلة في مجالسة أهلِ الشر وأهل البدع والأهواء.
يقول مالك بن دينار: «إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الحلوى مع الفجار».
ويقول موسى بن عقبة: “إن كنت لألقى الأخ من إخواني فأكون بلُقياه عاقلًا أيامًا“.
يقصد بذلك إخوانه من الصالحين؛ ممن يعينوه على الطاعة ويرشدوه للحكمة، لذلك فمن جالَسَ الصالحين تشمله بركةُ مُجالستهم وصحبتهم، ويعمُّه الخيرُ الحاصل لهم، وإن لم يكن عمله بالغًا مبلغَهم ولا واصلاً درجتهم، وهذا المعنى التربوي العالي مستفادٌ من حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطرُق، يلتمسون أهل الذِّكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم.. ثم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الحديث: أن الله تعالى يقول: فأشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم، قال: يقول ملك منَ الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: “هم الجُلساء لا يشقى بهم جليسُهم“.
فيتفضَّل الله تعالى على هذا العبد المجالس لهؤلاء الصالحين؛ إكرامًا لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر.. فالصحبة لها تأثير عظيمٌ وفضلٌ عميم، وهي سببٌ من أسباب سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وحينما سأل رجلٌ الإمامَ مالكًا -رضى الله عنه- قائلاً له: يا إمام قل لي على عمل يدخلني الجنة؛ فقال له: “عليك بحب الصالحين لعل الله يطلع على قلب واحد منهم فيجد اسمك مكتوبًا في قلبه فيغفر الله لك ويدخلك الجنة“.
ولنا أن نستشعر المعية الواردة في قول رب البرية سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰادِقِينَ﴾ مستحثًّا فيه المؤمنين أن يكون مقامهم ومجالستهم في صحبة الصادقين ومعية الصالحين.
فما معنى أن نكون مع الصادقين؟ أن نلازمهم وأن نزاحمهم لنستفيد ونشهد ما قد تطبعوا عليه وتخلقوا به والتزموه وتعهدوا به طباعهم من حُسن السمت والهيئة وطُهر النَفَس وجمال التعامل في كل شيء.
فإذا ما لازم الإنسان العلماء الأبرار واختار صحبة الصالحين، ورأى كيف يتعاملون في كظم غيظهم وفي كفّ الأذى عنهم، ورأى تعاملهم مع الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والإنسان والحيوان والجماد، ورأى منهم الصبر والتحمل، ورأى منهم طباع الجود والكرم في مواقف الاحتدام والشدة؛ فإنَّ هذا يحفر في طباع الصاحب أضعاف ما تحفره الموعظة والكلام.
حتى إنَّ الحديث المشهور في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، وقد رواه مسلم من حديث أبي سعيدٍ الخدري –رضي الله عنه– يغفل الناس فيه عن جوهرته ومقصوده وعن موضع السر فيه في قوله صلى الله وآله عليه وسلم “إنَّ الرجل الصالح لما أن سأله القاتل هل لي من توبة؟ قال نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكن اذهب إلى أرض كذا فإنَّ بها أُناسًا صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء“.
مما يُشير إلى أنَّ مفتاح ترقيه وتنقيته من أسباب القتل وسفك الدماء، يرجع في الحقيقة إلى أن يصحب الصالحين الأطهار الذين ترجع طباعهم على طبعه بالنور والبصيرة، ويرى منهم الهمم العظام، ويرى منهم الشمائل الكريمة الغالية، فإذا بطبعه قد تشبع من معيتهم من النور والبصيرة.
ليس ذلك فيمن توفرت لديهم الحياة ويعيشون بأبدانهم بيننا ومعنا؛ بل إن ذلك يمتد لصحبة من رحلوا من الصالحين وسبقونا إلى الدار الآخرة؛ وذلك بانتقاء كتبهم واختيار أعمالهم النافعة التي تركوها للتعلم منها والانتفاع بها؛ فقد قال الإمام علمُ الدين السخاوي رحمه الله تعالى: “متى أردت مجالسة إمام من الأئمة الماضين فانظر في كتبه التي صنفها ومجموعاته التي ألفها، فإنك تجده لك مخاطبًا ومعلمًا ومرشدًا ومفهّمًا، فهو حيٌّ من هذه الجهة وموجود من هذا الجانب“.
ومصداق ذلك ما روي عن الإمام أبي داود الطيالسي قال: قُلْتُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنْ تُجَالِسُ بِخُرَاسَانَ قَالَ: أُجَالِسُ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: يَعْنِي أَنْظُرُ فِي كُتُبِهِمَا.
إذا عرفت هذا فاعلم أن للصحبة الطيبة فوائد كثيرة وعوائد عديدة، ونذكر منها:
– أنّ مجالسة الصالحين تعين على الاقتداء بكل ما هو حسن، فيتأثر الجليس بعلم من يجلس إليه وعمله وسلوكه ومنهجه؛ كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالِل“.
– أن الجليس الصالح كالمرآة بالنسبة لصاحبه، يكشف له عيوبه وينصحه بما يصلحه ويقيمه، فقد قَالَ الإمام الْحَسَنُ رحمه الله: “الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ إِنْ رَأَى فِيهِ مَا لا يُعْجِبُهُ سَدَّدَهُ، وَقَوَّمَهُ، وَحَاطَهُ، وَحَفِظَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، إِنَّ لَكَ مِنْ خَلِيلِكَ نَصِيبًا وَإِنَّ لَكَ نَصِيبًا مِنْ ذِكْرِ مَنْ أَحْبَبْتَ، فَثِقُوا بِالأَصْحَابِ وَالإِخْوَانِ وَالْمَجَالِسِ“
– أن مجالسة الصالحين أُنسٌ في الرخاء وعونٌ عند البلاء، والتحدث إليهم عند حدوث المشكلات يخفف الهموم ويزيل الغموم، ولذا قال بعضهم: “لقاء الأحبة أنفع من دواء الأطبة“، وقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الصِّدْقِ فَعِشْ فِي أَكْنَافِهِمْ، فَإِنَّهُمْ زَيْنٌ فِي الرَّخَاءِ، وَعُدَّةٌ فِي الْبَلاءِ“.