من آيات الأفاق ـ بمفرداتها القرآنية المتميزة ـ ما يأسر القلوب، فتخضع لعلام الغيوب، موقنة بوحدانيته، وكمال قدرته، وتقديره..
“اليخضور” (الكلوروفيل Chlorophyll) خضاب يكسب النباتات لونه الأخضر. ويوجد على هيئة أقراص داخل أجسامٍ دقيقةٍ (البلاستيدات الخضراء). وهو يأخذ عدة أشكالٍ، أكثرها: اليخضور (أ) ولونه أخضر-أزرق، واليخضور (ب) ولونه أخضر مائل للأصفر. كما يوجد، أيضًا، في الطحالب وبعض أنواع البكتيريا. لكن إنتاجه لا يتم إلا إذا تعرض النبات للضوء. فالنباتات التي تحفظ في الظلام تكون بيضاء أو صفراء اللون.
ويقوم اليخضور بدور أساس في عملية التمثيل الضوئي Photosynthesis التي تشكل أساس الحياة على كوكب الأرض. فمن امتصاص ضوء الشمس، وثاني أكسيد الكربون، والماء، وعناصر من التربة يتم إنتاج طعام الإنسان والحيوان، والأكسجين اللازم لتنفسهم. وتتم هذه العملية على مرحلتين: الأولى تحدث في الضوء، والثانية في الظلام، فيتم المرحلة الضوئية تأيين الماء (ستة أجزاء) إلي مكوناته من الأوكسيجين, ونوى ذرات الإيدروجين, وأعداد من الإليكترونات, وينطلق غاز الأوكسجين (ستة أجزاء) فيها إلي الجو. بينما تستخدم نوي ذرات الإيدروجين والإليكترونات الطليقة في المرحلة الثانية (في الظلام) لتحويل غاز ثاني أكسيد الكربون (ستة أجزاء) إلي (جزء) من السكر والنشويات وغير ذلك من المواد الكربوهيدراتية. ولو أردنا أن نشطر بالوسائل المادية جزءًا من الماء، إلى الهيدروجين والأوكسيجين، لاحتجنا إلى طاقةٍ تساوي تسخين الماء ألفين وخمسمائة درجة مئوية.
كما يحترق/ يتأكسد سكر الجلوكوز (الكربوهيدرات) في جسم الكائن الحي إلى ثاني اكسيد الكربون وماء. حيث يطرح الغاز مع بخار الماء عن طريق الزفير، والقسم الآخر من الماء يطرح عن طريق الإدرار. ونتيجة لحرق السكر تختزن الطاقة الناتجة من ذلك ـ بمعدل تبلغ 45%ـ في الأنسجة في مركبات متعددةATP, NADH, NADPH, FADH) FMN)، ويستثمر جزء من الطاقة الباقية في المحافظة على درجة حرارة جسم الكائن الحي ذو الدم الدافئ كالإنسان.
أما زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الهواء فتسبب “احتباسًا حراريًّا” للأرض. ويستخلص النبات كل عام ما مقداره 400 مليار طن من الكربون الموجود في غاز الدفيئة هذا، ويخزنها في أنسجته. وحينما يتحول النبات عند جفافه إلى حطب وقش وتبن، وخشب وفحم نباتي وحجري، تمد تلك المكونات الإنسان والأحياء بالطاقة اللازمة للحياة، وينتج من احتراقها ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق في الغلاف الجوي؛ ليعيد دورته العجيبة.
الشجر الأخضر، بهجة وطاقة
الشجر الذي يبهج العين بخضرته، ويُسر النفس ببهجته، ويثير العقل بأسراره، إنما هو “مصنع/ معمل” الطاقة الكبير، ومصدر النار التي نحتاج إليها. وكان عرب الجزيرة العربية إذا أرادوا إشعال النار جاؤوا بعود أخضر من شجرتي المرخ أو العفار (قداحة العرب)، وضربوهما ببعض، فتنطلق شرارة من النار (وفي كل شيء نار، واستوقد بالمرخ والعفار). عجيب.. التباين بين الخضرة، وبين النار وكيف يجتمعان دون تأثير أحدهما على الآخر!
ومع عصر اكتشاف الطاقة الحديث تبيبن أن مصدر الفحم، والبترول، والغاز الطبيعي هو النباتات الخضراء كالأشجار. ويتكون الفحم الحجري عبر ملايين السنين حينما تموت الأشجار الخضراء، وتتراكم عليها الصخور، وتتحول مادة الشجر إلى حجر. ويأتي البترول ـ وعبر أزمان متطاولةـ من تحلُّل المود العضوية المتنقلة، والعوالق النباتية والحيوانات البحرية في البحار العميقة، فيتم تكوين المواد الكربوهيدراتية التي تؤدي لإنتاج البترول والغاز الطبيعي. وهناك مادة زيتية (من ضمنها النفط) قابلة للاحتراق موجودة في نسغ الأشجار. وثبت وجود النفط في بعض الأشجار وليس فقط في باطن الأرض وأعماق المحيطات.
فالمجموع الخضري في الأرض يحوِّل مئة بليون طن من الفحم مع خمسة وعشرين بليون طن من الهيدروجين، إلى مواد غذائية (كالخضراوات، والفواكه، والحبوب… إلخ) (كل شجرة، تصنع في الساعة الواحدة، كيلو غرامًا من المواد الغذائية)، وإلى مئة بليون طن من الأوكسجين من أجل أن يبقى الهواء ذو نسبٍ نظامية ثابتة. فالطاقة التي تنتجها عمليات التحليل اليخضوري تساوي عشرة أضعاف الطاقة التي يستهلكها البشر في كل عام. طاقة مختزنة في أوراق وأنسجة وثمار الشجر الأخضر وزيوته ودهونه، والتي قد تتحول عند الجفاف إلي القش أو الحطب أو الخشب الذي يتفحم بمعزل عن الهواء (إلي فحم النباتي وحجري) أو إلي غاز الفحم. وإذا أكلته الحيوانات تحولت فضلاتها إلي مصادر للوقود، وإذا تحللت أجسادها بمعزل عن الهواء أعطت كلا من النفط والغاز الطبيعي.
اليخضور، والنار
شجر أخضر ناضر، ذو ثمر يانع، ريان بالماء, يحتك بعضه ـ اليابس ـ ببعض فيولد نارًا, ثم يصير هو وقود النار: ”الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ” (يس: 80). يقول تعالى: “أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ” (الواقعة: 71- 73). إن في ذلك لإشارة لوحدانيته تعالي، ودلالة على كمال تقديره وقدرته على إحياء الموتى. فهو القادر ـ سبحانه ـ على إخراج الضد من الضد، فهو على كل شيء قدير. وإنه لقرآن عظيم, حفظه لنا ربنا بكل إشراقاته النورانية وصفائه الرباني وإعجاز آياته ـ في الآفاق، وفي الأنفس ـ حجة على الناس في كل عصر ومصر، وإلي يوم الدين، يوم البعث والنشور.