من المتفق عليه أن العلم لا يفكر في ذاته، كما لا يفكر في ماضيه، فقد ترك العلم ذلك إلى آليات فلسفة العلم وإلى تطور هذه الفلسفة في الاهتمام بتاريخ العلم، وقد جال بخاطري عدد من التأملات حول بعض الإنجازات الحديثة في العلوم البيولوجية والتكنولوجية، وما يمكن أن نستخرجه مــــــن دلالات وعبر، يمكن أن نستفيد منها أحيانًا. وربما نشعر بالقصور عن إدراك مكنوناتها.
عندما قدم روبن وليامز، تحفته السينمائية الرائعة (رجل المأويتين BICENTENNIAL MAN) عام 1999 ألحت على أذهان جمهوره، حفنة من التساؤلات، ربما كان أهمها: هل سيتمكن العلماء حقًّا من تصنيع إنسان آلي قادر على الشعور والتجاوب الحيوي مع المشاعر الإنسانيـة من حوله؟ وهل إذا حدث ذلك في المستقبل سيكون علينا كبشر أن نتعامل معه ككائن يجب احترام مشاعره ورغباته، بل وإفساح مكانًا له بيننا مع منحـه قدرًا من الترحيب، والاهتمام الإنساني؟ قبل أن يمر عام واحد على تلك التساؤلات المحيرة أعلن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ومعه توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، قنبلة علمية أحدثت دويًا هائلاً في كافة الأوساط العلمية وغير العلمية، وهي اكتشاف خريطة جينات الإنسان الوراثية أو الجينوم البشري. وعليه أحسب أن تاريخ وفلسفة العلم، سيتناولان هذه الأحداث بأكثر من كونها “تأملات وخواطر”.
وقد يتصور البعض أن التقدم العلمي الذي تحقق خلال القرن السابق قد وصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من تقدم إلا أن الأيام القادمة ستثبت لنا أن كل ما توصل إليه هذا التقدم حتى الآن ليس سوى نقطة في بحر العلم، ففي الوقت الحالي يعكف عدد من العلماء في جامعات جلاسكو وأدنبرة واستركليد على بناء واحد من أكثر المعامل الطبية تقدمًا، الخبر في حد ذاته قد يبدو عاديًّا ولكن الغريب حقًّا هو في مصير هذا المعمل وما سيحدث بعد تشييده، فمن المرجح أن أحد العلماء في المجالات الفسيولوجية أو البيوكيميائية سيقوم بابتلاعه كما لوكان كسرة خبز أو قطعة شوكولاتة.
السبب هو أن المعمل يتم تشييده بحيث لا يزيد حجمه عن حبة صغيرة في حجم قرص الأسبرين، إلا أنه في نفس الوقت يحتوي على الأجهزة الطبية والمعملية المختلفة التي تجعله قادرًا -بعد تثبيته في جدار المعدة- على رصد العديد من الوظائف الحيوية للإنسان وتحديد درجة حرارته وتركيز الأكسجين والأحماض داخل الجسم، كل هذه القياسات التي يتم تحديدها من داخل الجسم سيتم إرسال المعلومات الخاصة بها عبر جدار المعدة عن طريق جهاز إرسال يناظره في الخارج جهاز استقبال صمم خصيصًا لهذا الغرض. في نفس الوقت توصلت الأبحاث إلى تصنيع آلة تصوير لوضعها في الكبسولة لتعمل بالتعاون مع الأجهزة الأخرى.. إذن هذه الكبسولة -من خلال رحلتها داخل أجهزة الجسم– ستتمكن من الكشف الدقيق عن الأمراض الموجودة بالفعل داخله، أو تلك التي تستعد لمهاجمة الإنسان.
بكتيريا معدلة لإنتاج هرمون الإنسولين البشري
الإعلان عن بناء مثل هذا النوع من المعامل قد يكون جديدًا في عالم الواقع، إلا أن سينما الخيال العلمي قد سبق وتناولته في فيلم عرف باسم “رحلة خيالية” عن قصة مأخوذة من الكاتب إسحاق آسيموف، التي تتحدث عن مجموعة من الجراحين تم تصغيرهم وحقنهم داخل جسم إنسان يحتضر لإجراء جراحة دقيقة لإزالة تجمع دموي في المخ، وهو الفيلم الذي نال إعجاب الجماهير لاعتماده على فكرة جديدة، وإن كانت مجنونة تمامًا، إلا أن إمكانية تحقيقها ليست بالأمر المستحيل، كما ثبت لنا مؤخرًا.
بتطوير مثل هذا النوع من الأجهزة المتناهية الصغر سيتمكن العلماء من علاج بعض الأمراض عن طريق التعامل مع الخلايا المريضة دون أن يكون للأدوية المستخدمة آثار جانبية على باقي خلايا جسم الإنسان، كما هو الحال بالنسبة للخلايا السرطانية التي يؤدي التعامل معها كيميائيًّا إلى إصابة الخلايا الأخرى بأعراض جانبية سيئة، كما سيمكن أن تتولى الكبسولات توصيل الدواء للخلايا دون أن تمر على باقي أجهزة الجسم وغيرها من الاستخدامات الطبية المفيدة..
على أية حال، فإن تكنولوجيا المستقبل ستقوم على أساس مثل هذه الأجهزة ذات الحجم المتناهي الصغر والذي أطلق عليه الغرب “نانوتكنولوجي” وقد بدأ الرهان على هذه النوعية من الاستثمارات حيث تتسابق الدول الكبرى على احتلال مقعد ريادة هذا المجال، فعلى سبيل المثال أنفقت جامعة كاليفورنيا ما يقرب من 500 مليون دولار أمريكي في تطوير النانوتكنولوجي، أما رئيس وزراء اليابان فهو ينظر لهذه النوعية من التكنولوجية باعتبارها المجال الاستراتيجي الجديد الذي يجب أن تقتحمه اليابان وعليه فقد خصص للأبحاث العلمية بالجامعات الحكومية ما يقرب من 60 مليون دولار في الميزانية الأخيرة بزيادة تقدر بنحو 250%.
أما في بريطانيا، فإن الأبحاث الخاصة بالنانوتكنولجي تتم تحت مظلة ما يعرف بمعهد النانوتكنولوجي الذي يعمل في العديد من المجالات خاصة الطبية كتوصيل الدواء وإصلاح خلايا الإنسان وتطوير سماعات متناهية في الصغر تُثبت في الأذن، دون أن تكون مزودة بأي مصدر خارجي للطاقة..
ربما كانت النانوتكنولوجي تعتمد على فكرة الأجهزة صغيرة الحجم، ولكن ما يمكن تحقيقه من خلال تطبيقاتها في غاية الكبر.. خاصة بعد أن أمسك العلم لأول مرة بالمفاتيح المسيطرة على خصائص الإنسان من خلال اكتشاف خريطة الجينات الوراثية في الإنسان أو الجينوم البشري، وهنا سؤال يفرض نفسه: هل سيؤكد لنا البرنامج الجيني أن أفراد المجتمع البشري يولدون وكل منهم قد تحدد سلفًا نصيبه من الصحة والمرض والجمال والقبح وطول العمر أو قصره، وأن الأفكار المثالية حول قيمة إنسانية رفيعة طالما طمح الإنسان إليها -وهي قيمة العدل والمساواة- هي محض خيال؟
من ناحية أخرى كشف العلماء عن تتابعات المركبات في جينوم عدد من الكائنات الأخرى.. الأمر الذي طرح معه السؤال التالي: أي التتابعات في الجينوم البشري هي التي جعلت الإنسان إنسانًا؟ واستتبع هذا التساؤل إعلان البعض عن مخاوفه من تأصيل بيولوجي للعنصرية Racism على أساس الكشف عن اختلاف في طبيعة الجينوم لدى السلالات المختلفة من البشر.. وفي طرح آخر كشفت مجلة نيوزويك الأمريكية أن الباحثة الأمريكية “كلير فراسر” وفريقها العلمي ينقبون عن الجينات اللازمة لوجود الحياة في الكائن وذلك من خلال تعطيل جينات أحد أنواع البكتيريا واحدًا تلو الآخر للوصول -بعملية تبادل وتوافق- إلى الحد الأدنى من الجينات المعينة اللازمة لبث الحياة في الجسم، وقد نجحت تكنولوجيا الهندسة الوراثية في نقل جينات من كائن حي إلى آخر، وفي أن يؤدي الجين المنقول وظيفته في الكائن الجديد حيث يواصل الجين المنقول إنتاج المركب الكيميائي ذاته.
لقد شاهدنا العديد من الأمثلة الدالة على ذلك منها إنتاج البكتيريا المعدلة لهرمون الإنسولين البشري، وإنتاج الفئران المعدلة للهيموجلوبين البشري، كما نقل جين التوهج من قنديل البحر إلى الذباب والسمك والفئران.. هكذا كسرت الهندسة الوراثية الحواجز بين الكائنات الحية.
المراجع:
1- Nature Medicine magazine –12 2022.
2- James Gleick 2022, Chaos, Making a New science , Penguin Books , New York .
3 – Keith L.moor , 2019 , Human development , pp 38,67 .
4 – www. cnn .com