من الجمعة إلى الجمعة، وبخاصة في مواسم الطاعات كشهر رمضان وبها صلاة التراويح، بات من الصعوبة بمكان العثور علي مسجد جامع به واعظ يعظ، يفقه ويـُعلم، ويجمع ولا يُفرق، ويبني ولا يهدم، ويحترم عقول المصلين وينال ثقتهم، ولا يجلد ذواتهم، ويتخول بالموعظة، وعالم بمجريات الأحداث ومآلات الأمور، ويقول ما ينفع، وما يود المصلون سماعه، فيجيب عن أسئلتهم، ويحل مشكلاتهم، ويغذي عقولهم، ويروي قلوبهم، فتنتعش ألبابهم، وتذرف عُيُونُهم. كما يأتمر بأمر دينه، ويستنير بحكمته، ويصدح بالحق ولا يخشى في الله لومة لائم، فعينه على رضا ربه وحده. حقًّا لقد مضي زمان كنت تحار عند أي من أمثال هؤلاء العلماء، ولا نزكي على الله أحدًاـ تأخذ دينك. كنت تجد نفسك ضمن حشود غفيرة جاءت لتعلم، وتتعلم، وتعمل. كانت مواعظهم باقية الأثر في النفوس وإن رحلوا. شخصياتهم وكلماتهم مغروسة محفورة وإن غابوا. ويُرفع العلم بموت العلماء، فلا يجد الناس إلا أئمة جُهالاً ديدنهم “إثارة الجدل، وإشاعة الفتن، وخلط الأمور، وعدم اختيار الموضوع المناسب بالطريقة المناسبة، في المكان المناسب، وللمستمعين المناسبين، وغمز هنا ولمز هناك، وكيل بمكيالين..
إن للمسجد ـ ومنبره ـ رسالة دينية واجتماعية وحضارية، ولن تنهض الأمة إلا باستعادة دوره المتعدد الأوجه: “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (النور: 36-38).
إن تفريغ المساجد من القيام برسالتها على أكمل وجه، وغلقها، وتحجيم دور العلماء العاملين المخلصين، وفرض وتوظيف وعاظ، ولا يتحلون بمثل تلكم الصفات ـ سابقة الذكرـ جانب من “صياغة “إسلام حداثي، وما بعد حداثي”: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (البقرة: 114). وليترك الناس، لا ينظمهم ناظم من وازع عقدي وإيماني وأخلاقي، نهبًا للفراغ والضياع والتشتت والتفكك والشقاق والعنف إلخ.
وما عليك إلا أن تجول بناظريك والواعظ يعظ على منبر الجمعة ستجد المُصلين وقد غط أكثرهم في نوم عميق. أفلو كانت الموعظة تلامس شؤونهم، وتناقش قضاياهم، وتعكس همومهم، وتحل مشكلاتهم، وتشرح بالهداية نفوسهم، ولا تجلد ذواتهم وتلصق بهم المصائب والمصاعب، هل كانوا يهربون منها إلى النوم الذي لا يحلو إلا في هذا الوقت؟ إن في ذلك تضييعًا للحكمة من اجتماع الناس يوميًّا (الصلوات الخمس) أسبوعيًّا (صلاة الجمعة) سنويًّا (شهر رمضان، وموسم الحج) لتدارس شؤونهم، وإلى أن تأتي غيرها يعلم الله إن كانوا من الأحياء أم الأموات.
ومن هنا يتبين مدى المعاناة في العثور على خطيب للجمعة أو لصلاة التراويح في رمضان أو العيدين، والصلاة خلفه بإخلاص وخشوع لعلها تكفر ما بينهم ما لم تُغش الكبائر. على أية حال.. ففي آخر جمعة من رمضان، ونحن نودع هذا الشهر الفضيل صادف كاتب هذه السطور مسجد لم يرتاده من زمن لبعد الوصول إليه. فإذا بخطيب يرتدي الزي الأزهري الرسمي، وقد دعا في نهاية موعظته للأزهر أن يحفظه ويرفع عنه يد الظالمين، ويعيد إليه مكانته ودوره ورسالته وطلابه عبر العالم ـ يتناول ثمرات الصوم وأثره في النفوس، تقوية وتنمية الإرادة.
ولعله كان موفقًا حيت تناول جانب الإرادة في شقها الرادع/ الناهي، والصدع بكلمة لا.
فالمرء جائعًا يريد طعامًا، والصوم يُعلمك أن تقول لنفسك: لا.
وتبغي شرابًا، عن ظمأ وعطش، فتقول لها: لا.
وقد تلح عليها بشهوة فتقول: لا.
وقد يجهل عليها جاهل، فيسب ويشتم فتقول لها: لا.
وقد يُطلب منه شهادة زور، فيقول: لا.
ثم وصولاً لأمر العقيدة، فثمة (نفي) لما يُمكن أن يُعبد من دون الله، ثم (إثبات) التوحيد الخالص له جل شأنه: “لا إله إلا الله”. وتخطي جانب “نهي/ ردع النفس” وردها عما لا ينبغي، بقول: لا، إلى قولهاـ بأسلوب وطريقة مناسبة، في وقت مناسب ـ في محيط الأسرة الصغيرة.
إلا أنه توقف عن هذين الجانبين: الشخصي والأسري، دون تجاوزهما لما هو أبعد مجالاً.. اجتماعيًّا ووطنيًّا وأمميًّا، بل وإنسانيًّا، وأبقى أثرًا وأعمق أهمية، وأكثر تكاملاً واستكمالاً. ولعله ترك المستمعين “يقيسون” على هذين الجانبين السابقين دون الدخول في التفاصيل أو ذكر أمثله على ذلك. وعلى أية حال.. شكرًا له، فلقد لامس جانبًا مفتقدًا. فالناس مع كثرة تردادها (نعم) قولاً وفعلاً.. صمتًا وسلبًا. نسيت قول (لا). مع أن الحياة لا تستقيم إلا بهما معًا. ولا يظن ظان أن من الدماثة واللباقة وحسن المعشر (الأسري/ الاجتماعي) والدهاء دوام القول (نعم). إن من لم يستطع قول (لا) حلت به أضعاف المشكلات، الشخصية والاجتماعية والوطنية والإنسانية أكثر مما لو نطق بـ (نعم). تُرى لو قيدت بمسؤولية (بأسلوب مناسب وفي وقت مناسب إلخ) هل يبقى من الدرن والأوساخ، والمفاسد والمظالم شيء؟ إن لمنبر المسجد، ولرسالته الوعظية جنبًا إلى جنب مع مدرسة الصوم دروسًا وعبرًا منها “التقوى”، و”تربية الإرادة” على قول لا.. فقولوها ـ بمسئوليةـ ولتظهر حكم الصوم واقعًا معاشًا في حياتنا.