يمكن اعتبار الشعر الصوفي من أبرز تجلّيات بلاغة التخيّل في الأدب العربي، لما يمثله من جمالية على مستوى الإبداع، على اعتبار البعد الروحي لهذا الشعر، والذي اتخذ له من عالم الطبيعة والواقع، استعارات ورموزًا لتوصيف شعور خفي لدى الشاعر، يعبر عن التعلق بالخالق في أسمى عبارات التمجيد والمحبة، معتمدًا الرمز وسيلة أساسية للتعبير عن هذه المزايا. وبذلك كان هذا الشعر تعبيرًا عن خيال خصب للشاعر الصوفي.
ولعل سوء فهم الرموز في الشعر الصوفي، وتأويلها تأويلاً واقعيًّا وفق الشريعة والتصدّي لهؤلاء الشعراء، هو ما دفع المهتمين بالحقل الصوفي وعددًا من الصوفية، إلى إنجاز متون وتخصيص معاجم تشرح رموز هذا الشعر وتقيّد عمومياته.
وفي هذا الباب نستعرض بعض الأشعار الصوفية، للوقوف على جمالياتها، وعلى المتخيل فيها، وعلى الرموز التي استقاها الشاعر من مشاعره وأحاسيسه الروحية، تعبيرًا عن حاله الوجداني والعرفاني.
الحب في الشعر الصوفي
إن لفظة “الصوفي” تعبّر أساسًا عن معنى روحي مهما اختلفت معانيها الاصطلاحية بين “لبس الصوف” و”الارتباط التاريخي بأهل الصفّة” وصفة “الصفاء”. وهذا المعنى الروحي يتمثل في تميّز المتصوف بالصفاء ونبل الخلق، ونهج طريق أو سلوك طالب الحقيقة المتمثل في الارتباط الروحي بالله، والاقتراب منه، ومن ثم كان الحب الإلهي صفة أساسية للمتصوف.
وقد عبّر شعراء الصوفية عن هذا الحب الذي يصل درجات راقية جدًّا، لا يسعها المتخيل الضيق الذي يمكن أن تعبر عنه اللغة اليومية الواقعية. ولذلك نجد جلَّ المتصوفين شعراء، لأن الشعر هو الأقرب إلى الخيال، والحقل الأنسب للتخيل، ولأن لغته الانزياحية والرمزية تفتح المجال للمتصوف للتعبير عن تلك الصلة التي تربطه بالمحبوب.
من أمثلة قصائد الحب الصوفي، ما جاء على لسان “الحلاّج” في تعبير قوي عن حب يكاد يخنق أنفاسه:
يا مَـن بــه علِقَت روحــي فقد تَلِفت | وَجدًا فصرتُ رهينًا تحت أهوائي |
أبكي على شجَني من فُرقتي وطَني | طَــوعًا ويُسعدنــي بالنَّــوح أعـدائي |
ومنه قول “السهروردي” الذي يعبر عن عدم قدرته على كتم حبه، والذي جعل تعشّقه للمحبوب يملي عليه البوح والتصريح بهذا الحب:
يا صاحِ ليسَ على المحبِّ ملامةٌ | إن لاحَ في أفقِ الصباحِ صباحُ |
لا ذنبَ للعشّاقِ إن غلــبَ الهـوى | كتــمانَـهـم فـنـما الغــرامُ فباحـوا |
حيث اعتمد ثلاثة مرادفات للحب تتمثل في العشق والغرام والهوى، مما أضفى على القصيدة جمالية على مستوى البديع اللغوي تمثلت في الترادف، والجناس بين “صاح – صباح” والتكرار في “الصباح صباح” والطباق في “كتمان-باحوا”.
ومنه ما عبّر به “إبراهيم الدسوقي”، عن تعلقه بالله وارتباطه به، في شعر فاض معانيَ عبّرت عن الوجود الكلي وعن التجلي الإلهي في كل مخلوقاته، عندما قال:
تجلّى ليَ المحبوبُ في كلِّ وجهةٍ | فشاهدتُهُ في كلِّ معنى وصورةِ |
وخاطبني مني بكشف سرائري | فقال أتدري من أنـا قلت مُنْيَتي |
والمشاهدة هنا ذات علاقة بالدلالة الخيالية الرمزية، والحوار أيضًا مبني على التخيّل والتجلّي الذي يجعل الشاعر يستحضر قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (رواه البخاري).
رمزية المرأة
للمرأة في الشعر الصوفي أهمية كبرى وحضور قوي، اتخذ منه الشاعر الصوفي رمزية للتعبير عن الحب.
وإذا كان التساؤل المطروح يتعلق بماهية علاقة المرأة بالمحبوب الصوفي، ولمَ لا يستعير شيئًا آخر غير المرأة، فإن الشاعر الصوفي قد آثر المرأة كأرقى قيمة يمكنها أن تمثّل الحب الإلهي، ويمكن أن يتجلى فيها الجمال بمفهومه الصوفي. وقد اعتمد الشاعر في ذلك، أسماء استعارها من المتخيَّل الشعري العربي وأبرز هذه الأسماء “ليلى”. قال الشاعر الصوفي “محمد الحراق”:
أتطلبُ ليلى وهي فيك تجلّت | وتحسبها غيرًا وغيرُك ليستِ |
فـ”ليلى” مجرد رمز للتعبير عن التعلق بالذات الإلهية، هذه الذات تتجلى في الشاعر ذاته على أن الموجود الحق هو الله تعالى، ولذا قال الشاعر “وغيرك ليست”؛ بمعنى أن الذي يطلب الحقيقة لن يجدها في غير ذاته.
بل إن المرأة الشاعرة أيضًا عبّرت عن هذا الحب الإلهي برمزية المرأة من خلال “ليلى” و”سعدى”، وإن اتخذ التعبير هنا معنى الرفض المغاير لما تغنّى به الشعراء، تقول “رابعة العدوية”:
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل | وعدتُ إلى مصحوب أول منزل |
ونادت بيَ الأشواقُ مهلاً فهذه | منازلُ من تهوى رويدك فانزل |
ومن ذلك قول “أبي مدين التلمساني”، مستخدمًا أيضًا رمز “ليلى” تارة، و”لبنى” تارة أخرى في تعبير عن تعلّقه بالذات الإلهية:
تقــــوَّل نــاسٌ قـــد تملَّــكـه الهـــــوى | أجل لست في ليلى بأول من جنى |
خفيتُ بها عن كلّ ما علم الورى | وأظهــرُ لبنـى والمــرادُ ســـوى لبنـى |
وتصرّح عبارة “والمراد سوى لبنى” بالبعد الرمزي الاستعاري للمرأة في شعره، وفي الشعر الصوفي عامة.
ومن الشعراء الصوفيين من ذهب إلى الوصف الحسي للمرأة معبِّرًا عن جمالها، كما هو حال الشاعر “نجم الدين أبو المعالي الشيباني” تلميذ “السهروردي”، الذي يقول:
هل عهدُ ليلى بالكثيفِ عــائــدٌ | أم طيفُها لسقم جسمي عائد |
حوراءُ حار العقلُ في صفاتها | لـها الجـمالُ عاشـقٌ وحـاسـد |
فــكــلُّ عـضــوٍ فـــيه بــدرٌ طالعٌ | وكـلّ عطفٍ فيه غصنٌ مــائد |
غير أن هذا التجسيد الوصفي مبني أيضًا على الرمزية والخيال، كما دل على ذلك تعبيره عن الحيرة في وصف جمالها “حار العقل في صفاتها”.
رمزية العاذل واللائم
لقد عبّر الشاعر الصوفي عن معاني الحب المرتبط بالمرأة في سياقات أخرى ترتبط بعلاقة الحب، من مثل العاذل واللائم الذي نجده في ذاكرة الشعر العربي القديم، على شاكلة قول “دريد بن الصمّة”:
أعاذلُ إنما أفـــنى شبابـــي | ركــوبـِيَ فــي الصريخِ إلـى المنادي |
وقول الشاعر “عدي بن زيد العبادي”:
وعاذلة هبّت بلومٍ تلومني | فلما غلَتْ في اللوم قلت لها اقصِدي |
أو قول الشاعر “تأبّط شرًّا”:
بل من لِعذّالة خذّالة أشِبٍ | حرَّق باللوم جلدي أيّ تَحراق |
ويضيف:
عاذلتي إن بعضَ اللوم معنفةٌ | وهــــــل مــتاعٌ وإن أبـقـيـتُه بــــاق |
فإذا كانت لفظتا “العاذل واللائم” في الشعر العربي عمومًا قد وُظّفتا في سياقات متعددة أهمها الفخر والرد على الآخرين، فإن “العاذل” في الشعر الصوفي يتخذ بعدًا آخر يرتبط بتجربة الشاعر الصوفية وبسلوكه وطريقته. فقد عانى الشعراء الصوفيون كثيرًا من مضايقة أهل الشريعة، الذين كانوا يتهمونهم بالزندقة والجنون، بل ويتجاوزون ذلك إلى خلق سبل متعددة للتخلص منهم، عبر تشويه سمعتهم أمام الحكّام والقضاة. لذلك كان “العاذل واللائم” حاضرَين دائمًا في الشعر الصوفي، ولم يكن الشاعر الصوفي يكتفي بالدفاع عن نفسه، بل كان يؤثر إظهار مذهبه في الحب، كما هو الحال عند الشاعر “محمد البوصيري” في قصيدة “البردة” المعروفة، حين يقول معتمدًا لفظ “اللائم” ولفظ “الوشاة”:
يا لائمي في الهوى العذريِّ معذرةً | منّي إليك ولو أنصفتَ لم تلمِ |
عَـــدَتْكَ حــالـــي لا ســــرّي بـمستــتر | عـن الوُشاة ولا دائي بمُنحسمِ |
ومن وظائف التعبير عن “العاذل والواشي”، دفع الشبهات والصفات المقيتة، التي غالبًا ما يصفهم بها أعداؤهم، كما في قول الشاعر “عفيف الدين التلمساني”:
وما سلوتُ كما ظن الوشاةُ ولا | أسلو كما يترجّى العاذلُ التعبُ |
فإن بكى لِصبابتي عذولُ هــوى | فلي بما منه يَبكي عاذلي طرَبُ |
ويحضر في الشعر الصوفي ما يمكن أن نسميه بالقارئ الضمني في شكل حوار، حيث لا يني الشاعر يفسر مذهبه، ويردّ بشعره المغرق في الرمزية على هؤلاء، كما في هذا الحوار في شعر “الششتري”، الذي يجسد دورين: دور أهل “الحقيقة” ودور “أهل الشريعة”:
فيا قائلاً بالوصل والوقفة التي | حجبت بها اسمع وارعوي مثل ما أبْنا |
تقيّدت بالأوهام لمّا تداخلتْ | عليك ونور العقل أورثك السجنا |
وهِمْتَ بأنوار فهِمنا أصولها | ومنبعَها مـــن أيـــن كان فــما هِمــنا |
ولو كان سرُّ الله يُدرَك هكذا | لقال لنا الجمهور ها نحن ما خِبْنا |
يقصد الشاعر من ذلك، أن المعرفة الإلهية وما يتعلق بها، هي من شأن الخاصة الذين يمثّلهم الصوفية.
رمزية الخمرة
كما وُظِّفت المرأة للتعبير عن الحب الإلهي الجمالي عند الصوفية، تمّ توظيف الخمرة كرمز للمعرفة والحقيقة الإلهية التي لا يعرفها حسب المتصوفة، إلا الواصل إلى الحقيقة. ومن ثم فالخمرة رمزية استعارية تعبر عن بعد عرفاني، له علاقة بطلب المعرفة والحقيقة وما له علاقة بسلوك المتصوف للوصول إليها. كما تعبّر عن الوجد والوله والتواجد والحضور والغياب، عندما يصل المتصوف الذاكر درجة يفقد فيها وعيه وإحساسه، فيجعلون لها مجالس، ويجعلون لها طقوسًا تعبر في ظاهرها عن الخمرة الحقيقية، وفي باطنها عن العرفان.
من ذلك قول الشاعر “السهروردي”:
أهــــلُ المــحــبّة حــين طــابَ شــرابُـهم | باعوا النفوسَ لحبِّهم وارتاحوا |
شربوا كؤوسَ الحبِّ في حانِ الصفا | فتــمايـلــتْ سكــرًا بـــها الأرواحُ |
حيث يوظف مفردات معجم الخمرة “شراب، كؤوس، حان، سكرًا” في وصف قريب من وصف شعراء الخمريات، لولا أن المعنى يتعلق بالسكر الروحي كما توضّحه عبارات “أهل المحبة، باعوا النفوس، كؤوس الحب، تمايلت الأرواح”.
وتمتزج معاني الخمرة بمعاني الحب الإلهي، في قول الشاعر الصوفي “عبد القادر الجيلاني”:
ولما صفا قلبي وطابتْ سريرتي | ونادمني صَحـوي بفتحِ البصيرةِ |
شهــدتُ بـأنّ الله مــولــى الـــولايةِ | وقد مَنَّ بالتصريفِ في كلِّ حالةِ |
سقاني إلهي من كؤوسِ شرابهِ | فأسكرني حقًّا فَهِمْتُ بسكرتي |
فالرمزية الخمرية تتعلق بالوجود والتواجد الذي لا يصله الصوفي إلا عندما يصل إلى درجة كبيرة من تعرف الحقيقة الإلهية، ويصل بالشعور الوجداني إلى درجة عليا من الإيمان، ومن ثم فهذا السكر الصوفي هو الموصل إلى الصحوة، ومن ثم المعرفة.
والخمرة عند المتصوفة في أوصافها، منزهة عن الخمرة المعروفة لدى شعراء الخمريات، يقول فيها “الششتري”:
فما عُصِرَت وما جُعِلَت بِدَنٍّ | ومــا سُبِكَــتْ زجاجتُها بِـنارِ |
بل هي خمرة معنوية، ذات ارتباط بالمحبة، أو هي نفسها الحب الإلهي كما يذهب إلى ذلك “إبراهيم الدسوقي”:
سقاني محبوبي بكأس المحبة | فتِهْتُ عن العشاق سُكْرًا بِخَلوتي |
ولاح لنا نورُ الجلالةِ لو أضا | لصُــمِّ الجــبالِ الــراسيـاتِ لدكَّت |
هذا الحب الإلهي، وهذه المعرفة، يعجز العقل البشري عن الوصول إليها، لقد آثر الصوفي الابتعاد عن التفكير العاقل في الله، والالتزام بالتأملات الروحانية عبر الذكر والمجاهدة عوضًا عن التأمل العقلي.
ويمكن القول أخيرًا، إن الشعر الصوفي في جملته، شعر ذو ارتباط بالخيال والرمز، لأن جلّ ما قاله الصوفية مبني على أمور ذات علاقة بالجانب الروحاني والعرفاني، وبعيد كل البعد عن الخضوع للتأويل الحقيقي. ويتطلب بذلك -باعتباره تراثًا عربيًّا مهمًّا- إعادة قراءة هذا التراث من جانب بلاغي، لتقصّي وظيفة هذا الشعر في التعبير عن تاريخنا، لأنه -إلى جانب ما يمثل من أمور روحانية- يذخر بكثير من المعطيات ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية.