كانت تحيته المفضلة حين يطل من باب بيته على حارته، الجميع يلتفت إليه ويردون تحيته: صباحك عنبر يا كل العالم. تتسع ابتسامته ويفوح عطره بين الجميع، وحين يصل إلى آخر شارعه يلتفت إلى الحاج أحمد الكفيف الذي يجلس على باب بيته، يقول له: تأخير دقيقتين، عليك غرامة، يقترب منه ليضع في فمه قطعة سكر ويذهب إلى عمله. إطلالة صباحية لم تتغير منذ أن وطئت قدماه أرض هذه الحارة وعرف أصحابها بحكاياتهم المختلفة، كان وحده الحكاية التي لم يروها قط، الحكاية الحقيقية التي هرب منها كثيرًا، بل هرب منها دومًا. يضحك معه الحاج أحمد: عثرت لك على عروسة، تحتاج فقط لمعرفة أهلك لتخطبك منهم، المعلمة ابتسام اسم لم يكن على مسمى يومًا، وراءها حكاية تخفي ابتسامتها، كل الحكايات مبتورة، نخفي منها ما لم نستطع ترديده على مسامعنا، نهرب منها، بل نهرب من أوجاعنا.
بعد كل إغماءة سكر، حين يبدأ في استعادة وعيه كان يردد أسماء لثلاثة، ياسر، يزيد، عمار. لا أحد في الحارة يحمل هذه الأسماء، ينتبه فيسكت، وحين يسأله الحاج أحمد: من هؤلاء الذين ناديتهم؟ يقول: أنا لا أتذكر، هلوسات يا حاج أحمد، ربما لوثة عقل، ثم يضحك. كان الجميع يدرك حقيقة ضحكته، وحده من يظن أنه استطاع خداعهم. وحدها الحكايات التي لم ترو، أبطال حقيقيون مخفيون في ثنايا القلب يملكون زمام الحكي، وحدها شهرزاد من يستطيع أن يردد معها حكاياته التي لو يروها قط، سيحكيها كحكاية من حكايات ألف ليلة، كانت شهرزاد الراوية، وها هو الآن سيعيد ترتيب الأدوار، يحكي وتسمع شهرزاد، وحين ينتهي من الحكي سيكتشف السر الأخطر الذي لطالما هرب منه طوال حياته، سيتذكر أن أبناءه الثلاثة تركوه وحيدًا، وحيد في شيخوخته، مهاجرون، راحلون، مطرودون، كل ما يعرفه أنه ذات صباح، فتّٓح عينيه ليقول: صباح الخير أيها العالم، لم يأته صوتها: صباح الخير يا كل عالمي. لم يسمع أصواتهم يصرخون على لعبهم، لم يزح أحدهم ستار الغرفة ويجري عليه، بابا، أخذوا كل ألعابي. استيقظ يا أبي لتطردهم من تلك الجنة التي وعدتني بها. هم من طردوه من تلك الجنة حين استيقظ ليجد الصمت قد أنزل غمامته السوداء على قلبه، قرأ ورقتها التي تركتها: عدت إلى بلادي، موطني، بلاد الصقيع، فقد التهب جلدي من شمس بلادكم. حكاية لم يروها، وقرر ألا يكمل بعدها حكاية قط، دخل شقته في تلك الحارة التي انتقل إليها ليبدأ حياة جديدة وعالم يعيش فيه بمفرده رغم كل الزحام من حوله. عالم يطل عليه من باب بيته، يلقي تحيته: صباح الخير أيها العالم، فيرد الجميع: صباح النور يا كل العالم دون ياء الملكية.