قراءة في كتاب الباحثة سميرة مصلوحي
تؤكد الباحثة “سميرة مصلوحي” على أن حضور الآخر في الذات هو الذي يمنح التلفظ بعده الحواري، حيث يتكلم الفرد لكيلا يُفهَم، بل لكي يتوارى خلف كلماته المقنعة؛ خاصة إذا كانت تحمل في طياتها معنى ساخرًا يستهدف العيوب والتجاوزات الاجتماعية من أجل مساءلة الواقع الاجتماعي والثقافي ونقده بكل عناصره ومقوماته، بغاية تقويمها وإصلاحها وفق مرجعية قيمية متفق عليها اجتماعيًّا. إن هذا التفكير النقدي في الآخر وفي المجتمع، حسب الباحثة، يرتبط بفعل السخرية والمفعول السحري لقوة كلمتها الخارقة والقوية، نظرًا لوجود اعتقاد سائد مرتبط بقناعة أن للكلمة قوة سحرية مؤثرة في الآخر، خاصة في حالة حملها للسب والقذف والمس بالعرض والشرف والسمعة.
ومن خلال التمثل السائد عن مفهوم السخرية في المجتمعات المحافظة على الثقافة الشفهية، تتساءل الباحثة عن إمكانية الخطاب الإلهي المتعالية أن يصير خطاب سخرية باعتباره يصف نفسه بالقول الفصل وليس بالهزل كما هو الشأن في الآية الكريمة: [إنه لقَولٌ فَصْلٌ ومَا هوَ بالهَزْلِ]؛ حيث إنه ينهى أيضًا عن استعمال السخرية كما هو الأمر كذلك في الآية: [يا أيها الذينَ آمنوا لا يسْخرْ قوْمٌ منْ قوْمٍ عسَى أنْ يكونُوا خيْرًا منْهمْ ولا نِساء عَسى أنْ يَكُنَّ خيْرًا منْهنَّ ولا تلْمِزوا أنْفُسَكمْ ولا تًنابَزُوا بالألقابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوق بَعْد الإِيمانِ ومنْ لمْ يَتُبْ فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمونَ]. لكن في مواقف أخرى يعدل عن باقي الأساليب ليتأثر باستعماله أسلوب السخرية، في مثل السخرية بأقوال الكفار وأفعالهم وعقائدهم الزائفة. ومن بين التساؤلات التي تستحضرها الباحثة في هذا الشأن: هل سخرية القرآن هي سخرية ضحك واستخفاف، كما يعرفها عامة الناس ويتداولونها أم أنها سخرية تسلط وهجوم كما عرفها ويعرفها الشعر في الهجاء، أو أنها ترتقي بنفسها إلى سخرية من نوع آخر؟ وهل هي سخرية لذعٍ وهدم أو سخرية إصلاح وبناء؟ وكيف يكون أسلوب السخرية الذي ارتبط بالجمالي في حقل البلاغة أن يكون مدخلاً للبرهنة على البعد الحجاجي في النص القرآني؟ وهل يمكن أن يكون الأسلوب الساخر حجاجًا؟ وإذا كان كذلك، أين تكمن حجاجيته وكيف تتحقق؟
مفهوم السخرية في الخطاب القرآني
تعرض الباحثة في المدخل التمهيدي من الكتاب محاولة مختصرة لتعريف السخرية وأنواعها، حيث تميز بين عدة أنواع من السخرية حسب قصديتها والهدف من فعلها الساخر؛ وهي: السخرية الضاحكة الهزلية المستهزئة، والسخرية المتهكمة الوقحة، والسخرية المفارقة، والسخرية المعرفية. لتعبر مباشرة بعد ذلك إلى تعريف الخطاب بصفة عامة ومقوماته في النص القرآني مؤكدة على أهمية العلاقة التخاطبية القائمة بين كل من المتكلم، والمخاطَب (مخاطب خاص فعلي أو مخاطب عام محتمل)، وتغيير الوضع القائم، وحل المعضلة، والبديل عن العنف، والاستجابة لسؤال المجتمع…
إن ماهية سخرية القرآن، حسب رؤية الباحثة “سميرة مصلوحي”، تتحدد انطلاقًا من مسألة نوعيتها وخصوصيتها، سواء كانت سخرية عادية هدفها الإضحاك والاستخفاف أم كانت سخرية من نوع آخر لها أهداف خاصة؛ حيث إنها تصل إلى قناعة مفادها أن السخرية المقصودة بالنهي في القرآن الكريم والتحريم هي التي تسيطر عليها دوافع خبيثة وتهدف إلى الإساءة إلى الآخر، وهي عادة ما تكون محملة بالحقد والكراهية، وتهدف إلى الهدم والتخريب، بينما السخرية التي استخدمها الخطاب القرآني فهي سخرية مفارقة لمفهوم السخرية العدائي الهدام، باعتبارها سخرية بناء وإصلاح وتغيير ترتبط أساسًا بالرد على الباطل بالحق وتهدف إلى الدعم النفسي لتقوية النظام الاجتماعي وحفظ توازنه.
تنطلق الباحثة في تقديم مفهوم السخرية من الثقافة اليونانية القديمة باعتبارها سخرية معرفية انبثقت من فيض الحوارات الفلسفية المرتبطة بالبعد الأخلاقي الهادف إلى إدانة القيم الخاطئة وإعادة النظر في السائد من الأفكار المتداولة آنذاك. أما في الثقافة الغربية قديمًا فقد تؤُول كمفهوم في العديد من الحقول المعرفية، بل واجهت الباحث الأسلوبي ثلاث صعوبات في وصف دقيق للظواهر الساخرة.
إن السخرية ترتبط بمستوى الطُرفة والهزل، وما دون مستوى المرارة والنقد شبه الصريح والمباشر؛ ويعتبر “برجسون” الباحث الذي اهتم بالسخرية في علاقتها بالضحك من جانبه الاجتماعي المنطلق من نقد مظهر من مظاهر التشبه بالآلة والتحجر الإنساني على مستوى السلوك والموقف واللغة والحركة والناتج عن التحجر الفكري والجسدي. أما جون كوهين فيرى أن فاعلية السخرية تنطلق من الفاعلية التي تحققها نظرية التردي ونظرية التناقض في تكاملهما واتفاقهما. ومن هنا يمكن القول: إن السخرية هي قالب دلالي وشكل مجازي تتحدد من خلال عنصر التضاد كمبدأ لبناء المفهوم، حيث توصف بأنها “تقنية خطابية مبنية على إثبات الشيء ونفيه، أو التعبير عن القول بضده”.
أما السخرية في الثقافة العربية، فقد تأسست انطلاقًا من المعاجم العربية التي عرفتها لغويًّا واصطلاحيًّا؛ سرعان ما برزت في أفق هذه الثقافة العديد من المفاهيم والمصطلحات التي قامت مقامها مثل: التهكم والفكاهة والهجاء والتندر والدعابة… وقد استحضرت الباحثة في ذلك ما جاءت به كتب التفسير حول مفهوم السخرية والمفاهيم المرتبطة بها، إضافة إلى ما قدمته كتب البلاغة والأدب من إشارات وتجارب ساخرة سواء كانت عفوية أم كانت مقصودة من الأدباء بهدف النقد والإضحاك والمرح والدعابة.
السخرية من المفارقة الدلالية إلى القيمة الحجاجية
تؤكد الباحثة “سميرة مصلوحي” على أن البعد التواصلي للسخرية أدى ببعض الباحثين إلى الكشف عن حيوية هذه الأخيرة وقوتها التفسيرية وفاعليتها من خلال التأكيد على بعدها الحواري ورهنها بالسياق التخاطبي والقصد من استعمال اللغة. وفي هذا الصدد وقفت المؤلفة على استراتيجيات تواصلية منها: التواصل الفعال، ومبدأ التعاون، ومبدأ التأدب… فالسخرية فعل لغوي غير مباشر، إضافة إلى كونها شكلاً بوليفونيًّا كما هو الشأن عند “ديكرو”، ومفارقة حجاجية كما هو عند “ألان بيروندوني”. فالقيمة الحجاجية لجملة ما مثلاً، ترتبط بانتمائها إلى مجموعتين منفصلتين من الاستدلالات، وهما الاستدلال في المعنى وفي ضده.
ولتحقيق نوع من التأويل وفهم الملفوظات في ظل المقاربة التداولية، تستحضر المؤلفة ففي الفصل الثاني من الكتاب العديد من المباحث التي تحاول من خلالها الوقوف عند المقاربة الحجاجية التداولية، حيث تستحضر العديد من المفاهيم المسعفة في تحليل الخطاب القرآني، ومنها القصدية، والأفعال اللغوية، والأفعال اللغوية غير المباشرة؛ لتنتهي إلى الحديث عن معنى الحجاج وتصوراته المنطقية والبلاغية والتقنية، والآليات والتقنيات الحجاجية والتي تحددها في مبدأ الأنفع الحجاجي، ووسائل السلم الحجاجي اللغوية.
حجاجية السخرية في الخطاب القرآني
ترى المؤلفة أن إعادة قراءة النص القرآني الساخر في ظل المقاربات الجديدة، لا يتنافى وصيرورة المعرفة، لأنها تهدف إلى تحيينه وفق مستجدات العلوم والإضافة إليه، والتي استجابت لمعيار التفاعل وكثير من المنطلقات الحجاجية ووظائفها بيِّنة في نصوص هذه الآيات المجادِلة لغيرها. وفي هذا الإطار توقفت الباحثة “سميرة مصلوحي” عند تجليات السخرية القرآنية ومجالات استعمالها، ودواعي السخرية وأقسامها والمتمثلة في السخرية الموجهة إلى الكفار أو المنافقين؛ والتي تهدف إلى تحقيق إرادة الإصلاح والتغيير، والتأثير وإقامة الحجة حتى يحصل الإقناع، وتحديد مجالاتها على المستوى العقدي والأخلاقي والثقافي. إن فعالية السخرية الحجاجية ترتبط أساسًا بالإقناع والاستفزاز والتغيير في الوقت ذاته.
إن النظر إلى حجاجية المظاهر اللسانية للفعل اللغوي الساخر في النص القرآني يرتبط بالضرورة بالعديد من الأساليب واستخدامها الحجاجي فيه؛ حيث تستحضر المؤلفة منها: استعمال ألفاظ البشارة في موضع الإنذار، واستعمال ألفاظ الوعد في مكان الوعيد، واستعمال ألفاظ المدح، واستعمال ألفاظ الإجلال في موضع التحقير. أما على مستوى الصيغ فنجد: صيغ الأمر، الاستفهام، الإشارة، الموصول، الحصر، الشرط، وغيرها. أما الخصائص والتقنيات الأسلوبية المميزة للخطاب القرآني الساخر، فقد توقفت المؤلفة عند طريقة بناء الفعل الساخر معجميًّا وتشكيله من خلال تحديد ما يلي: خصائص الكلمة الحجاجية (اقتضائية، تداولية، تقويمية)، المميزات المعجمية للمفردة الساخرة وطاقتها الحجاجية (البشرى، نفحة، نُزُل، ظل)، الكفاية التداولية لمفردات المعجم القرآني الساخر (المرض، تصعّر، يمدهم، حبطت، التناوش)، دور الخصيصة التقويمية في صنع البعد الحجاجي (تقويم غير أخلاقي تقويم أخلاقي).
إن استراتيجية استعمال الأفعال اللغوية الإنجازية غير المباشرة، ترى المؤلفة، من بين الاستراتيجيات التي يقع عليها اختيار المتكلم أو يلجأ إليها، لاعتبارها البديل الأفضل في بعض السياقات ومراعاة مبدأ التأدب والتعاون الذي يحكم العملية التخاطبية ويساعد على تنامي واستمرار الحوار وعدم انقطاعه. ومن أجل الوقوف على عملية بناء الفعل الساخر تركيبيًّا وتشكيله فقد حددت خصائصها فيما يلي: الفعل اللغوي الساخر ودوره الحجاجي، الاستفهام الساخر، العدول عن التعبير الخبري إلى التعبير الإنشائي، العدول النسقي وبعده الحجاجي، آليات الحجاج الكامنة في التوكيد، الإيجاز في الخطاب الساخر وبعده الحجاجي، حذف الفاعل والبناء للمجهول.
القوة الحجاجية من خلال الصورة القرآنية الساخرة
تقصد المؤلفة بالصورة في القرآن مضمونها الذي يُعتمد فيه على عالم خطاب متلقيه الأول لغاية الإقناع، وذلك من خلال الوقوف على مجمل كفاءات المتلقين المعرفية والنفسية والثقافية والعقدية التي يأتي مضمون الصورة في القرآن مستندًا إليها ومشكلاً بها. فطاقة الصورة تكمن في طاقتها وقوتها الحجاجية التي تجعل المعاني المستعارة مما لا يجادل فيه متلقو القرآن؛ ومن هنا يمكن الحديث عن: الوظيفة الحجاجية للصورة القرآنية الساخرة التي تقوم على توجيه سلوك المخاطب نحو وجهة معينة باتخاذ الصورة وسيلة للتحسين والتقبيح؛ الطاقة الحجاجية لشكل الصورة في القرآن والتي تعتبر الصورة فيها بمثابة خطاب يهدف إلى التأثير في المتلقي وإقناعه بتوجيه فكره ووجدانه معًا.
إن الفعل الساخر يهدف إلى محاربة الوهم الديني الزائف، وإماطة اللثام عن زيف الحقائق والكشف عن التناقض فيها، من أجل البحث في مسائل مثيرة للجدل تستفز الصمت المعتم عن الحقيقة؛ حيث تؤكد المؤلفة على أن مسألة العقيدة وجدليتها أولوية من أولويات مواضيعها التي تكشف فيها عن المفارقات الكبيرة والتناقضات التي تشوبها. وفي المقابل يصبح الفعل الساخر أيضًا بمثابة دعوة لبناء النموذج الأعلى للأخلاق من خلال تحقير الأفعال الوضيعة والخصال المذمومة كالكذب والنفاق والغش والتكبر والنرجسية والأنانية، والهدف هو ترسيخ القيم النبيلة والارتقاء بالمثل العليا ونشر روح المواطنة والتسامح والعدل والتكافل الاجتماعي… إضافة إلى أن هذا الفعل هو تأسيس لنظام اجتماعي متوازن يحقق العدالة الاجتماعية بين الجميع دون تمييز أو عنصرية.
وأخيرًا: تقول المؤلفة: إن الخطاب القرآني الساخر هو خطاب ذو قوة حجاجية ملزمة للتغيير والإصلاح، حيث يقوم على المقابلة بين الواقع والمعطى والمثل العالي لإتقان فن المواجهة الإنسانية للظواهر والأحداث، باعتباره استراتيجية للحوار المضمر الهادف إلى ربط الخطاب بعناصره الفاعلة وجعلها تتفاعل مع بعضها بهدف التوصل إلى نتائج مرضية دون تسلط ولا عنف رمزي أو فكري.