حينما ندرس موضوع غريزة التدين التي فطر الله عليها الإنسان نجد حاله أنه كان موحِّدًا في أصل تكوينه الروحي وشعوره الوجداني، وهو الأمر الذي سيؤدي بنا بعد الاستقراء والاستدلال إلى الاستنتاج عقلاً و نصًّا بوجود تأصل العقيدة لدى كل أصناف البشر بدون استثناء، كما قد ينتهي بنا البرهان وسلامة الاستقصاء والتحري إلى اعتبار أن وحدة التأصل هاته لا بد وبالضرورة والإلزام العقلي والنفسي ،وكذا العادة الطبيعية، أن تكون نابعة عن وحدة الأصل المقصود ابتداءً بالاعتقاد فيه، والذي هو ذاته من هيأ هذه الأرواح أو القلوب إلى التقبل لمعنى الوحدانية التي لا تقبل الانقسام أو التعدد والتوارد بالتزاحم على مكان أو محل واحد ،سواء أكان معنويًّا أو حسيًّا خلقيًّا وإبداعيًّا أو إيجادًا وإحداثًا.
وربطًا لموضوع التأصل الغريزي لدى الإنسان لتوحيد الله تعالى بمسألة البرهان النفسي والكوني على هذه الوحدانية كما هو الشأن في إثبات الوجود، فإننا سنستلهم هذا المعنى من النصوص القرآنية ذاتها، أصل البراهين، التي تعطي لنا كل ما نحتاجه من دليل وإشارة وعلى أي صعيد وعند أي مطلب.
أ) فبخصوص التكوين النفسي ومطابقته للجسدي لدى الإنسان، وخاصة من جانب أداة التقبل والاستعداد للتلقي المعرفي لديه، نجد هذا الربط البرهاني بين وحدة السبب ووحدة النسب ووحدة الشخصية في تكوين الإنسان، وذلك بحصر صدور الوجود الممكن في أصل واحد لا يتغير ولا ينقسم بحال، وباعتبار تسلسل الموجودات الممكنات على سبيل التوالد والتولد، كأصل لفرع أو كانقسام لفرع وهكذا بحسب ما هو مشاهد وملحوظ في هذا الوجود المرئي.
ومن نماذج هذا الربط نجد قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(النساء:1)،
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾(الأنعام:98)،
﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الأحزاب:5،4)،
ويقول الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “إن ربكم واحد وإن أباكم واحد فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى….”. “كلكم لآدم وآدم من تراب…”.
وبين الآيات والأحاديث معنى موحد، إذ الآية الأولى فيها نص على وحدة الشخصية الإنسانية في أصل تكوينها وإشارة إلى أن ما يسمى باندماجية الشخصية في علم النفس الحديث ليس سوى تعبير عن حالة مرضية شاذة تتداخل فيها الأوهام والخيالات الشاردة غير المستقرة، مما قد يؤدي بصاحبها إلى التشتت وفساد التصور وكذا السلوك.
فالإنسان واحد في شخصه واحد في نسبه، وهذه الوحدانية ستكون دليلاً قطعيًّا على ضرورة حصر الاعتقاد الواحد في مصدر وجوده، لأن الاعتقاد توجه وقصد واستمداد وتعبد، ولهذا فلا بد لكي تستقر الشخصية الإنسانية أن يكون اعتقادها مركزًا نحو الواحد، إذ القلب محل للاعتقاد، وحيث إنه كذلك مجازًا فإنه يكون من المستحيل أن يخصص هذا المحل لمعتقدين متضادين ومتغايرين يحلان به في آن واحد. إذن ف “ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه” إذ تعدد القلوب يؤدي إلى فساده وجودًا وتوجهًا وتصورًا وشعورًا وإدراكًا وسلوكًا.
وكما يستحيل أن ينسب الولد إلى أبوين ذكرين عادة وسنة في خلق الله، فإنه يستحيل عقلاً على سبيل القياس الأولى أن ينسب هذا الوجود الممكن إلى غير الواحد في أصله ومصدره خلقًا وإيجادًا، وبهذا فكان الوجود الإنساني وتسلسله النسلي المتوالد برهانًا أوليًّا ونسَبيًّا على وحدانية الله تعالى وذلك على مستوى رفيع ودقيق، خاصة وأن الإنسان هو المقصود تكليفًا بالاعتقاد الإرادي بوحدانية الله تعالى، وذلك باعتباره مخلوقًا مفطورًا على هذه العقيدة منذ عالم الذر ومدعوًا إلى الحفاظ بالعهد على سلامتها من أية شائبة أو شرك حسي ومعنوي، كما أنه مفروض عليه أن يلتزم بعقيدة التوحيد إيمانًا وعملاً.
فقلب الشيء هو لبه وجوهره، وحينما ينقسم هذا الجوهر يفقد خاصيته التي يتحدد بها، فلا يعود حينئذ يسمى بالاسم الذي هو له أصلاً، لأنه حينئذ يكون قد فسد وانشطر إلى غير صورته، ولم يعد له وجود أو وظيفة، ومن هنا يمكن القول بأن الجواهر غير قابلة للانشطار إذا أردنا أن نحافظ على هويتها أو خاصيتها، وإلا أصبحت غير ذات معنى أو غير ذات اسم أو محل لما يقتضيه.
وإذا كان الشيء في حفاظه على وحدة جوهره لا يقبل الانشطار أو التحلل إلى أجزاء مستقلة بذاتها فكيف يمكن تفسير مبدأ الزوجية المترتبة عن وحدة الخالق الذي لا يقبل القسمة أو التفرع إلى العدد والتراكيب؟
ب) إننا حينما نعود إلى القرآن الكريم نجده قد برهن بإيجاز وإعجاز من مبدأ الكثرة النوعية والفرعية على وحدانية الله تعالى وتنزيهه التنزيه المطلق الذي فاق كل تنزيه توصلت إليه العقول والأفهام في تفسيره، ويتجلى هذا البرهان الدقيق والعميق في قول الله تعالى ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الشورى:11).
إذ ظاهرة الزوجية قائمة في الكون بعناصره الكبيرة والصغيرة، الجامدة والحية، الإنسانية والحيوانية، وهكذا، ومع ذلك فهي ذات أصل واحد سواء في بداية تكوينها الكوني أو الإنساني الجسدي والنفسي وكذا الحيوان…إلخ.
فالزوجية في الكائن الممكن الوجود دليل الحاجة ونقص الكمال، فلا معنى للسموات بغير أرض كما لا معنى لرجل بغير امرأة، وأيضًا فلا تمييز للإنسان بغير حيوان…
وهذا التزواج بين المضادات في الأزمنة والأمكنة، وفي الهياكل والأشكال ضروري لتحصيل الكمالات في الموجودات الممكنة من حيث إدراك الحكمة والغاية من الوجود، والحدود ومستواها الممدود.
فالسماء لا تسمى سماء إلا إذا كانت أرض والرجل لا يسمى رجلاً إلا إذا كانت امرأة، ولهذا فوجود التنوع دليل على وحدانية ووجود المنوع، ووجود الأزواج برهان على وجود الواحد الذي خلق وخصص الزوجين الذكر والأنثى.
إذ وجود كائنين موحدين في الإمكان من جهة ومختلفين في الأشكال ووجه الانقسام والتنوع من جهة أخرى يفيد بالضرورة أن الكامل غير قابل للازدواجية أو الكثرة، وإلا كان المعنى الذي اقتضاه التفريق بين الموجودين الموحدين في النوع أو الجنس على زعم كمالهما توهمًا هو عبارة عن نقصانهما واحتياجهما للكمال، بحيث لا يكون سوى للواحد الذي لا يقارنه غيره ولا يتميز عنه من مستوى نوعه، وهذه الوحدانية لا تليق سوى بمقام الألوهية التي لا تقبل العدد أو التعدد.
ومن هنا فالزوجية النوعية والعددية تمييز، والتمييز تنقيص وتعجيز. كما أنها تفيد التداخل بين الذوات والتشابه والتباين في آن واحد في الصفات النوعية أو الجنسية، فيكون الاستنتاج القطعي الذي ينفي التشابه والتداخل وحتى التباين الذاتي مع التوهم الوجودي، هو أن الوحدانية المفيدة للكمال ينبغي ألا تعرف زوجية في أي معنى من المعاني، أو صورة من الصور حسية كانت أو معنوية، مما يمكن فهمه من معنى ورود التنزيه بصيغته المحكمة والمفيد لنفي المثلية عن الله تعالى نفيًا مطلقًا في قوله “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”.