تعتبر التربية الأساس الذي تبنى عليه صرح كل حضارة إنسانية، ولقيمتها الكبرى نجد التركيز عليها عند كل الأمم والمجتمعات السابقة التي كانت تريد النهوض بشعوبها والمضي بها إلى التقدم والازدهار. فقد كانت التربية قديما الروح التي تبعث الحياة في القلوب، وتشع الأمل في الوجود، وتعيد البسمة إلى المقهورين، وتكوّن أجيالا يحترمون أسباب وجودهم وتواصلهم مع الآخرين.
مرّت قرون من الزمن والتربية لا تزال تحتفظ بمكانتها ومنزلتها لدى الشعوب والمجتمعات، فقد كانت رسالة يرثها جيل بعد جيل إلى أن فقدت بريقها ولمعانها في القرون المتأخرة خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
فقد حافظ الغرب على قيمه المادية التي كانت تشكل البناء الفلسفي والتصوري للفكر والفعل التربويين، فأعطانا هذا النموذج الغربي إنسانا يحترم -ولو نسبيا- مبادئ وجوده ويعمل جاهدا من أجل الإعمار والتقدم والابتكار.
هذا النموذج التربوي الغربي، رغم أن عجينته تشكلت من طغيان المادي على الروحي، فإنه حقق طفرة نوعية وفعالة في مجال التنمية البشرية والتقدم التكنولوجي. فدافع الحاجة ودافع الرغبة في الوجود ودافع إثبات الذات وغيرها من الدوافع جعلت الإنسان الغربي يحس أنه مطالب بالتغيير والتجديد واستشراف غد مشرق يعود بالنفع العميم على بلاده والإنسانية جمعاء.
إن هذه التطلعات والطموحات لم تكن شعارات جوفاء أو أحلاما يستلذ بها لحظات ثم تزول، بل رافقها عامل آخر هو الخروج بهذه الآمال العريضة من القوة إلى الفعل، أي تحويل هذه الأماني الجميلة من عالمها الميتافيزيقي إلى العالم الفيزيقي نتلمسها في واقع المجتمع سلوكيات وأفعالا مشخصة وواقعية.
لقد كان الإنسان عبر التاريخ يحلم ويفكر كيف يحلق ويطير في الفضاء ويضرب في الأرض طيا للمسافات فاهتدي به تفكيره إلى صنع السيارة والطائرة. وكان الإنسان كذلك دائم التفكير في علاقة الأشياء بالأرض والأجرام السماوية فردّه تفكيره إلى اكتشاف قانون الجاذبية وهكذا دواليك سائر الاكتشافات والابتكارات والاختراعات.
كانت هناك علاقة وطيدة ومتينة بين المفكر فيه والواقع المنشود أو المراد إقامته وبناء صرحه. ولعل هذا كله كان سببه الفعل التربوي. فالتربية هي التي كانت تدفع الإنسان إلى التطور والتحول إلى الأفضل. فقد شبّت الأجيال السابقة على حب التغيير البناء وإثبات الذات وخدمة الإنسانية. فالتربية رسخت في الإنسان جذوة العطاء والفعالية، وأن يكون دائما إيجابيا وفعالا في كل تحركاته وكل أنماط سلوكه.
إن المرء ليقف منبهرا عندما يجد حضارات إنسانية لها الريادة والباع الطويل في جميع الميادين ويتساءل استغرابا قائلا: كيف وصلت هذه المجتمعات الإنسانية إلى الرقي والازدهار الحضاريين؟
إن مشكلتنا اليوم، نحن، في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي أن لدينا من أسباب التقدم والرقي الكثير لكننا بكل أسف لم نع بعد هذه الأسباب ولم نفقهها جيدا، وكذلك لم نستوعب الدرس من غيرنا، علما أن التربية هي التي جعلت الإنسان يوما ما يعترف بجريرته، ويؤثر أخاه على نفسه ويتآخى ويتقاسم معه جميع ممتلكاته. وهي التي جعلت الأفراد متساوين كأسنان المشط كلهم سواء إلا في الخير والعمل الصالح. وهي التي حثت الإنسان على العلم والمعرفة والإبداع والعطاء، وحذرته من الركون إلى الكسل والتواكل والخنوع والتبعية العمياء..
حقا، لقد سار الإنسان العربي المسلم ردحا من الزمن يشق طريقه نحو العلا والمجد والسؤدد تدفعه إلى ذلك طاقته التربوية المختزنة، فتراه دائما كان مهتما بالتغيير والتحول والتجديد مع الحفاظ على ثوابته القيمية والأخلاقية، فرأينا أعلاما كبارا تقف منارات شامخات تضيء درب الطلبة والمتعلمين في شتى الحقول العلمية والمعرفية.
فقد تمخض عن هذه التربية المتميزة مجتمعا يعرف ما له وما عليه، يقف عند حدوده، ولا يتطاول على حقوق الآخرين، مجتمعا معطاء غيورا يتفانى في خدمة الواجب، ويضحي من أجل إسعاد الآخرين متجاوزا كل الفوارق الأرضية والدنيوية الزائفة. ويعمل بكل إخلاص وصدق لنشر ثقافة السلام والحب، والعمل، والإعمار، والفاعلية. كان ديدنه نشر ثقافة شاملة سداها ولحمتها الإيمان والعمل والاستقامة والعدل والإحسان والمساواة وحب الخير والفضيلة للإنسانية جمعاء. إن هذه الثقافة التربوية كانت ترخي بظلالها الوارفة على كل شرائح المجتمع، وعليها نما ونشأ وترعرع كل أفراده.
إن طبيعة هذه الثقافة التربوية لم تكن يوما ما تفصل بين المعرفة والسلوك الأخلاقي لدى الأفراد. فقد كانت مبنية على أساس روحي ومادي، أخلاقي وعلمي، أخروي ودنيوي. وكل فصل أو قطيعة بين هذه الثنائيات كان في تقديرها سيؤدي حتما إلى التناقض والتناحر وعدم التوازن في سلم المعرفة والقيم الإنسانية. إن مبدأها الأساس في تركيبها قائم على الاعتدال والوسطية بين الأخلاقي والمعرفي، والروحي والمادي. فمنطقها كان يتأسس على التوازن والتلازم والتفاعل، إذ كل عنصر يحتاج إلى الآخر، ولا يكتمل العقد إلا بالربط بين كل مكوناته.
وإذا كانت التربية بهذه الأهمية الكبرى، فإنها إذن الوسيلة الوحيدة التي تتطور بها المجتمعات، وتعمل على جعل أي فرد من أفرادها قادرا على مواجهة تحديات العصر.
وفي هذا الصدد يقول إسماعيل راجي الفاروقي رحمه الله: “ليس هناك أدنى ريب في أن مركز الداء ومنبعه في هذه الأمة، إنما هو النظام التعليمي السائد، إنه التربة الخصبة لتربية العلل في المدارس والكليات تولد وتؤيد عملية تغريب النفس عن الإسلام: عن تراثه وأسلوبه، إن النظام التعليمي هو المعمل الذي فيه يعجن ويشكل الشباب المسلم، وهناك يصاغ وعيهم في قالب هو صورة ممسوخة للغرب، وتفصم الرابطة بين المسلم وماضيه، وتوضع في وضع حرج، رغبته الطبيعية في التطلع لمعرفة تراث أسلافه. ونتيجة للشكوك التي بثّها هذا النظام في أعماق وعيه تصاب بالتبلد رغبته في أن يقف مع أسلافه على أرض مشتركة لينطلق منها نحو بعث للإسلام جديد وملائم للعصر”(1).
إن روح الإسلام هو الذي خلق من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له كي يبني بذلك أسرة.
فقوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في التربية الإسلامية، ولكن أي تربية إسلامية؟ التربية الإسلامية المتحركة في عقولنا وسلوكنا والمنبعثة في صورة إسلام تربوي واجتماعي.
وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة، وفي يدها-ضمانا لذلك- تجربة ألف عام، وحضارة ولدت على أرض قاحلة، وسط البدو رجال الفطرة والصحراء.
وإذا كانت التربية بهذه الأهمية الكبرى، فإنها إذن الوسيلة الوحيدة التي تتطور بها المجتمعات، وتعمل على جعل أي فرد من أفرادها قادرا على مواجهة تحديات العصر.