منذ الصغر وأنا أحب القراءة وخصوصًا قراءة القصص وكتابتها، ومع انشغالي في الدراسة ومشاغل الحياة تركت هذه الهواية الجميلة فترة من الزمن، لكن في خضم الحياة كان لا بد لي أن أعود إلى القراءة مرة أخرى لعلي أجد ما يلهمني فأتجاوز عقبات الحياة.
جميعنا يعلم أهمية القراءة، فليس هناك أحد على وجه البسيطة ينكر ما للقراءة من فوائد، وما تضفيه على حياتنا وعقولنا من استنارة ورقي في الأفكار.. فهي غذاء للفكر والعقل، وهي استثمار في الذات والعقل.. القراءة حياة الأفراد والشعوب والأمم، وبها نستكشف العلوم والحكم، ونأخذ الدروس والعبر.. والقراءة الواعية النافعة مفتاح كل خير وطريق كل حضارة وتنمية. وقد سُطِرَت فيها ألوف الكتب، ودُبِّجتْ حولها ملايين المقالات والرسائل والأبحاث. فلم تعد أهميةُ القراءة محلَّ نقاش أو جدال أو شك أو معارضة. لا يختلف على القراءة أحد، ولكن قد يحدث الاختلاف عليها كأولوية وقوة تأثير ونوعية.
إن مقولة “خير جليس في الزمان كتاب” لم تأت من فراغ، بل أتت عن تجربة لا يدركها إلا من ذاق متعة قراءة الكتب وحلاوة التنقل من صفحة إلى أخرى، وفرحة الانتهاء من قراءة الكتاب، فمتعة القراءة لا يعرفها إلا من جربها واعتبرها غذاء لعقله وروحه.. فالقراءة نشاط ذهني يستهدف المزيد من فهم الذات، وهي تلك العملية المعرفية الإدراكية التي يتم فيها استخدام العقل، إنها استيعاب لكل ما يكتب وتراه عين الإنسان.. والقراءة ليست هواية، بل حاجة داخلية أولاً وقبل أي شيء آخر، ذلك أننا نقرأ كي نفهم، أو من أجل أن نصل إلى الفهم.. فالقراءة ضرورة أساسية في حياة البشرية، وليست ممارسة تتوخى الترفيه؛ ذلك أننا لا نقرأ لكي نتسلى.. فعالم القراءة عالم ثري لامتناهي، لديه دائمًا ما يقدمه لنا.. فالقراءة غذاء الروح، بها يهتز كياننا وتنمو حواسنا مما يسمح لنا بالعمل بشكل أفضل.
هل سأل أحدُنا نفسه: لماذا كانتْ أول كلمة في الوحي الخالد الذي هبط به جبريل من الأعالي إلى الرسول الأعظم “اقْرأْ”؟ ليس عبثًا أن كانت “اقْرَأْ” أول كلمة أُنزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكأنما حَددتْ نقطة الانطلاق، ورَسمتْ خارطة الطريق، وكشفت سرَّ الخلاص والسمو والتحرر على المستويين الفردي والجماعي. “اقْرَأْ” بكل ما تحمل من مدلولات ومعان وإحالات وآفاق: قراءة الكتب، وقراءة الكون، وقِراءةُ المشاعر والأفكار، قِراءةُ الأحداث، قِراءةُ الرؤى والأحلام، قِراءةُ كلَّ ما يُمكنُ أن يُقرأ. وكلُّ شيءٍ يُقرأ.
يَرحل الإنسان من بلد لآخر ويدفع أموالاً، ويبذل أوقاتًا ليقتني كتبًا، فهل يستحق الكتاب كل هذا، وخصوصًا في هذا الزمن الذي أصبحت فيه الكتب متوفرة في الشبكة العنكبوتية؟ الحقيقة أن للقراءة واقتناء الكتب لذة ومتعة كمتعة السفر والتنزه، بل هي أجمل بكثير من ذلك لمن تمرَّس بالقراءة وعاش فترة مع الكتب.. فالقراءة فيها استثارة للذهن، فهي تجعل الذهن في حالة نشطة، إذ جمال القراءة، في تعاملها مع الجزء المميَّز للإنسان؛ مع عقله، تستثيره وتحفزه، تقلقه حينًا وتُقرُّه حينًا آخر.. ومتعة الاستثارة الذهنية لا يعلوها متعة.
لذة القراءة
لماذا نقرأ؟ سؤال يبدو غريبًا؛ إذ تبدو الحياة طبيعية دون قراءة، ها نحن نعيش، نتوالد، نعمل في كل اتجاه، نأكل، نموت.. ما حاجتنا إلى القراءة إذن؟ ما الذي سيتغير لو رمينا الكتاب خلفنا، وذهبنا بعيدًا في مسارب الحياة ومجاهلها؟ ما الذي سينقصنا إن لم نقرأ؟ وما الذي ستضيفه القراءة إلينا.. وغير ذلك الكثير والكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابة.
يقول العقاد: “أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تُطيلها بمقادير الحساب”.
اقرأ لتستنير ويزداد وعيك وتوسع مجال تفكيرك وتتعلم كيف تفكر؛ فالقراءة وسيلة لتوسيع المدارك والقدرات، ووسيلة للإفادة من تجارب الآخرين، وليست فقط مجرد تسلية ومتعة، بل هي أعلى من ذلك وأسمى، فهي طريق للجنان.
القراءة تخرجك من عالَمك المحدود الصغير إلى عالم واسع كبير للغاية.. فالكتاب ربما يأخذك في رحلة كونية فتسير بين الكواكب والنجوم، أو يأخذك في عالَم صغير للغاية لا يدركه بصرك المجرد فتنتقل بين الذرات تجوب في عالم النواة ومكوناتها، أو ينقلك إلى عالمٍ من الخيال لا صلة له بواقعك، أو يبعدك عن المحسوسات فينقلك للمعاني والتصورات، فعالَم القراءة عالمٌ واسع جدًّا، وكلُّ كتاب رحلة مميزة.
حين تقرأ كتابًا فأنت تزيد من قدراتك الذهنية، فتزداد لديك مهارات التحليل والتركيب، وتنشط المعلومات، فالعقل عضَلة تنفعل وتزدهر وتنمو بكثرة الاستعمال، وتذبل وتضعف عند ترك استعمالها، وقد قيل: إن القراء أقل الناس إصابة بالزهايمر؛ لأن الذهن لديهم في حالة عمل مستمر، فمستوى الانتباه يكون حاضرًا حال القراءة، والقراءة تزيد وتقوي التركيز، وهذا يجعل الإنسان أكثر قدرة على الاستيعاب.
فأنا أقرأ لأن الكتاب أفضل من كثير من البشر، أكثر حكمة منهم، أشد وفاء، وأصدق لهجة.. أنا أقرأ لأنه قد لا تسنح لي فرصة لألتقي كاتبي المفضل إلا عبر أوراقه، ذلك الكاتب الذي يخطفني مني.. أنا أقرأ لأنني أعتقد أن في القراءة غموضًا ومغامرة، غموضًا مثل من يدخل غابة في الليل فيها ألف سر، ومغامرة مثل من يمشي في حقل مزروع بالألغام.. أنا أقرأ لأنني أريد أن أتجول في عقول الآخرين، وأدخل دروبهم التي دخلوها، وأبيت في المنامات التي باتوا فيها.
أنا أقرأ لأنني لا أريد أن أحيا الحياة التي أرادها الآخرون لي، ولا أن أسير في الدروب التي سارها الناس أمامي، ولا أن أتوقف في المحطات التي توقف فيها كل الناس.
القراءة في هذا الزمن الصعب من ضغط وجهد المرء الذي يواجهه في حياته؛ فالحياة اليومية مرهِقة بأعمالها وارتباطاتها، فينزع المرء للكتاب ليخفف من هذا الضغط الذي يشعر به، فرواية ماتعة تنقلك لعالَم آخر ينسيك لحظات الشد التي تمر بها، وكتابٌ علمي يجعلك في اندهاش وتساؤل يشتت لحظات الضغط التي حلت بك، وكتاب في الرقاق يزهدك في الحياة فلا ترى الحياة شيئًا، فهذا هو جمال الكتاب أنه يطرد ويزيل الشد النفسي اليومي.
القراءة تقدم لك المعرفة.. فلا زال الكتاب هو أفضل سبيل لنيل المعرفة، وبقدر ما تزداد معرفتك تكون أقدر على فهم كثير من القضايا، وأقدر على مواجهة مشاكل الحياة.. فالقراءة تمنحك قوة معرفية يثمر عنها إزالة الجهل الذاتي.. المعرفة التي تحصل عليها هي سلاح تواجه به تحديات الحياة، والمعرفة قوة، قد يُسلَب منك كل شيء إلا معرفتك؛ فهي ملك خاص لا ينتزع منك إلا حين تفقد قواك العقلية. نحن نقرأ لأننا أمة “اقْرَأ”.. نقرأ كي نتقرب إلى ربنا، فالعِلم يؤدي إلى معرفة الله تعالى.
وأخيرًا فالقراءة ترياق ضد الوحدة، ضد السأم، ضد الملل، ضد القلق، ضد الجهل، ضد رفاق السوء.. القراءة سباحة مأمونة العواقب، مضمونة النتائج في بحار العلم والمعرفة على مراكب السطور.. القراءة صيد لكل ثمين ونفيس من الكتب والمؤلفات، والقراءة مضاد حيوي للتطرف والتعصب والإقصاء.. فكلما ازداد المرء قراءة ازداد تسامحًا وانفتاحًا ومرونة، ومعرفة بالآخر وتقبلاً له، وبالتالي تفهمًا له وتعاونًا معه والتقاء به.. القراءة وطن لمن لا وطن له، وطن رحب شاسع الأرجاء لا ضرر فيه ولا ضرار.
القراءة متعة خالصة دون شوائب أو مكدرات، والقراءة قوة وسطوة ومنعة، والقراءة جنة تدخلها بإرادتك، ولك مطلق الحرية في اختيار أهلها، والقراءة ضرورة كالهواء والماء والطعام، والقراءة ثورة على الجهل وقوى التخلف والظلام.
لا تقرأ لتنهي كتابًا، ولكن اقرأ لتستنير ويزداد وعيك وتوسع مجال تفكيرك وتتعلم كيف تفكر؛ فالقراءة وسيلة لتوسيع المدارك والقدرات، ووسيلة للإفادة من تجارب الآخرين، وليست فقط مجرد تسلية ومتعة، بل هي أعلى من ذلك وأسمى، فهي طريق للجنان.. اقرأ لتعيش، اقرأ لترتق، اقرأ لتسمو.. اقرأ لأن في القراءة لذة ومتعة، عزة وشموخًا، لو علمها أصحاب الجاه والسلطان لما تركوها لنا.