الأسرة تعرَّف بشكل عام على أنها الوحدة الأساسية التي يتكون منها المجتمع، وهي حاضنة الأفراد، وهي التي تمنحهم ثقتهم بأنفسهم، وتنمّي مواهبهم، وتعزز فيهم القيم الأخلاقية، والدينية، والإنسانية.. فينشأ مجتمع متكافل متراحم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه جزء، اشتكت لشكوته باقي الأجزاء.
إن الأسرة هي أهم ركن في المجتمع، وسلامة هذا الركن تعني سلامة الأمة والدولة. وعلى ذلك فعلينا ألا ندع هذا الركن الأساس في الأمة والمجتمع بلا خطة أو برنامج ألبتة؛ لأن الإهمال في هذا الركن بمثابة إهمال للأمة بأسرها. فمن الضروري إذن، التزامُ الجِدّية عند إقامة الأسرة وتنشئتها، فهذا أمرٌ في غاية الأهمية، خصوصًا وأن مجتمعنا اليوم تُثْخِنه الجروح بسبب العلاقات غير المشروعة.
أن تبني مجتمعًا، يعني أن تنشئ أسرة. فالأسرة حجر الأساس في أي بناء مجتمعي، والعناية بالمجتمعات عمومًا تبدأ من العناية بالأسرة، فإذا صلح الأساس صلح سائر البناء، وإذا اختلّ الأساس اختلّ البناء كله. ولكي تصلح الأسرة لا بد من توافر عدد من الصفات في ركنَيْها الأساسيين، أي الزوج والزوجة، تساعدهما على إنشاء الأسرة أولاً، وتنميتها تنمية صالحة وسليمة ثانيًا، والمحافظة عليها ثالثًا.
ومن جملة الصفات المُعِينة على تحقيق ذلك، والواجب توافرها في الزوجين: صفتا الوعي بالمستقبل، والقدرة على تحمل المسؤولية، والمعروف أن مستوى هاتين الصفتين، يتفاوت من شخص إلى آخر بتأثير عوامل عديدة، من بينها:
المستوى التعليمي، والوضع الاجتماعي، والاستقرار النفسي، والفئة العمرية التي ينتمي إليها الفرد.
وهذه العوامل، وغيرها، تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الفرد عند إقدامه على الزواج، وبالتالي تؤثر على المجتمع. ويحسُن بنا، من باب التخطيط لمستقبل مجتمعنا، أن نولي كل عامل من هذه العوامل أهمية خاصة، وأن ندرك دورَه في تحديد طريق المجتمع، بناء على درجة اهتمامنا به.
أجل، إن بيتًا لم يقم على الجدية وإنما بُني على الأهواء والرغبات، لا يعِدُ بمستقبل زاهر، وسيظل هذا البيت عنصرًا سلبيًّا أصيلاً في جسد الأمة، وقد يُخرِّج لنا أبناء مشرّدين في الشوارع؛ لأن هذا البيت لم يعتمد على حسابات دقيقة وخطة متكاملة عند تأسيسه، وهذه الخطة نطلق عليها اسم “النكاح”. ومن الضروري أن ينطلق هذا الطريق المؤدي إلى النكاح، من المنطق والفكر والقلب لا من الرغبات والشهوات، فمثلُ هذا الشعور والفكر الديني سيكون نافعًا جدًّا في الحياة الزوجية، فإن انعدمت الصلة بين الأبوين وبين الله، فمن المتعذّر أن يَحمل أولادُهما شعورًا واعيًا متوازنًا منتظمًا، بلهَ أيّ شعور بالمسؤولية، فلو جاءت النتيجة إيجابية -رغم صعوبة ذلك- فعلينا أن نعتبر هذا فضلاً وتلطفًا كبيرًا من الله تعالى، وأن ننكّس رؤوسنا وننحني امتنانًا له .
إن كل ما في الكون متوقف على الأسباب، وبمراعاة الأسباب نحصُل على ما نرمي إليه بنفس الشكل الذي أمّلناه وأجهدنا فكرَنا فيه، ولا نصِل إلى الثمرة المرجوة غالبًا إذا ما غضضنا الطرف عن الأخذ بالأسباب في أعمالنا وتصرفاتنا.. فإن كنا لا نريد الوقوع في الخيبة والخسران، فعلينا أن نتناول كل مسألة بأسبابها ومقدماتها، ونراعي الدقة البالغة في هذا الأمر، ثم ننتظر النتيجة الرابحة منه -سبحانه وتعالى- دون سواه، ثقةً في فضله وعنايته تعالى.
أجل، علينا أن نثق ثقة كاملة بالله، وألا نقصّر في الأخذ بالأسباب في كل أفعالنا التي هي بمثابة الدعاء الفعلي، ويشرح هذا الأمرَ قولُ القائل: “مراعاةُ الأسباب لا تُنافي التوكّل”، هذا مبدأ إسلامي، ونحن نعتقد بضرورة مراعاة هذه المبادئ عند تشكيل مؤسسة حيوية مثل الأسرة.
فإذا ما سلّمنا بضرورة تأسيس الأسرة على هذا المنوال، أَجْدَت هذه المبادئ في الحصول على أجيال كاملة، ولكن إن كان هناك عطبٌ في أساس المسألة، قلّ بنفس القدر تأثير العلاج.. وإن أسرة يحفّها اليمن والبركة، في بيت يتكون من أبوين مستقيمين مسلمين مؤمنين يقومان بمسؤولياتهما على أتم وجه، فلا بد أن يكون كل شيء فيها في نصابه، ويصبح هذا البيت روضة من رياض الجنة. وأحسب أن الصيحات المفعمة بالنشاط والحيوية التي يطلقها الصغار في هذا البيت ستكون عند الله بمثابة الدعاء، مقدسة وكأنها تسبيحات للملائكة.
الأسرة حجر الأساس في البناء مجتمعي، والعناية بالمجتمعات تبدأ من العناية بالأسرة، فإذا صلح الأساس صلح سائر البناء، وإذا اختلّ الأساس اختلّ البناء كله. إن بيتًا بُني على الأهواء والرغبات، لا يعِدُ بمستقبل زاهر لأمة.
وعند حديث القرآن الكريم عن المجتمع السعيد بنسائه ورجاله يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(الأحزاب:35).
إن هؤلاء الرجال والنساء -مؤمنون مسلمون- تجمعهم الأسرة التي هي أصغر خليّة في الأمة، وثقوا في الله واتجهوا إليه بإخلاص، ووصلوا إلى معيته وقضوا حياتهم في عبادة وطاعة له .
إن الصادق في كلامه وتصرّفاته -ذكرًا كان أم أنثى- هو الذي لا يكذّب كلامُه أفعَاله ولا أفعالُه كلامَه، حتى إنه من المتعذر مصادفة خلاف الواقع في هذا البيت الذي يشكله هذا الرجل وهذه المرأة، فكلّ شيء في هذا البيت صحيحٌ ويبدو في صورته الحقيقية، وكما يُصلح الإنسانُ من هندامه أمام المرآة، فكذلك الطفل سيُصلح من نفسه أمام لوحات الصدق في هذا البيت، ولن يضطلع بأيّ فعل خاطئ أو أيّ بيان يخالف الواقع، إذ كل ما يحدث في هذا البيت صحيحٌ وسليم، لأن هذا البيت يجمع الصادق والصادقة.
أجل، فإن كان الزوجان من الصابرين والصابرات، من الذين يتحملون مشقة العبادة والطاعة وقسوة المصائب التي يُبتَلَوْن بها، ويصمدون أمام الذنوب، ويحفظون فروجهم، ويكرهون أن يرتكبوا المعاصي كما يكرهون أن يُقذفوا في النار، فهم -بلسان حالهم- يؤثّرون في أولادهم كما يؤثرون في مجتمعاتهم كلها، حتى إنني أعتقد أن كل ما تتفوّه به ألسنتهم سيصغر أمام لسان حالهم.
فلا جرم أن الجدّية والوقار والحساسية والدقة البالغة، هي ما سيراه الطفل دائمًا لدى هذين الأبوين، اللذين تفيض أعماقهما بتوقير خالقهما، وتهتزّ جنباتهما دائمًا من خشيته، ويسعيان إلى أداء ما أُنيط بهما من تكاليف على أكمل وجه؛ مخافةَ ما ينتظرهما في الآخرة من حساب وجزاء، ويترقّبان في كل لحظة بلوغَ نهاية الطريق ودعوتهم إلى القبر. وسيرى الأطفال في مثل هذه الأُسَر قلقًا لطيفًا يعلو الوجوه، تتبعه عذوبةٌ ثم نشوةٌ أنشأتها مهابة الله والرجاء في الجنة، وعند ذلك ينشؤون في رفاهية ولكن مع الحذر، في سعادة ولكن مع سعة الأفق، في لذة وهناء ولكنهم أشبال المستقبل.
ولا بد أن يكون الزوجان في البيت من المتصدّقين والمتصدّقات، مهيَّئِين لعمل الخير، وأن يستمرا على هذا المنوال حتى ترتقي وتربو روح الكرم لدى أطفالهما. أجل، علينا أن نكون كرماء أولاً حتى يكونوا هم كذلك.. وإن الأولاد الذين ينشؤون في كنفِ هذه الأسرة وأمثالها، مهيّؤون لأن يكونوا كذلك.. إن أي مجتمع أو أمة تتشكل من أُسَر مثل هذه، مهيأة لتشكيل بُعد متميز من أبعاد الأمن والسكينة.. فهؤلاء هم السعداء في الدنيا والآخرة، ولقد تناول القرآن الكريم في خطابه الرجلَ والمرأةَ على السواء، ونظّم من كليهما بنية أُسَرية، فإن حقّقت هذه البنيةُ النتيجةَ المرجوة منها، عُدّت أقدس البِنى.
فإذا ما هبّت نسائم الروح الدينية على هذه الأسرة التي تقوم على هذين الركنين؛ نال أولادهما وأحفادهما أيضًا قسطًا من هذه النسائم نفسها. والصلاح الاجتماعي مقدّر ومرهون بدوام هذا الجو بين أفراد الأسرة -أي خلايا المجتمع- وإلا تلاشت كلُّ الآمال.
مقومات الأسرة
1- قيام الرابطة الزوجية بين الرجل والمرأة على أساس الديمومة والاستمرار؛ فالزواج الذي لا يبنى على الاستمرارية يُعد حرامًا من الناحية الشرعية.
2- حسن اختيار الزوج لزوجته والحرية في ذلك، وكذلك للزوجة حرية اختيار زوجها، وأجاز الإسلام الانفصالَ عند الإكراه، وشجّع على اختيار صاحب الدّين والخُلُق؛ لأنه سيحفظ الأسرةَ وسيخاف اللهَ تعالى في أفرادها.
3- بناء العلاقات بين الأفراد في الأسرة على أساس الجَمع والتآلف والحب والإيجابية والتعاون والتواصل. فالإسلام نهى عن العلاقات السلبية والهدَّامة والمفرّقة التي تبعث على الانفصامية والانفصالية والأمراض النفسية.
4- المعاشرة بالمعروف؛ فعلى كلا الزوجين معاملةُ الآخر بالحسنى والابتعاد عن الظلم والإكراه والإجبار والتعنُّت والأذى.. وقد أعطى الإسلام حقوقًا للزوجة كما للزوج حقوقٌ، وعلى كليهما مراعاتها.. وإن الصفة التي يجب أن تتصف بها مؤسسة الأسرة هي “المعروف”، فالله سبحانه قال: “وعاشروهن بالمعروف”، وقال في موطن آخر “فإمساك بمعروف”؛ فكان هذا الإرشاد وكأنه يريد أن يجذر في قلوبنا صفة ملازمة لمؤسسة الأسرة، ألا وهي صفة المعاشرة بالمعروف.
وخلاصة العشرة بالمعروف: تطييبُ الأقوال وتحسينُ الأفعال والهيئات -حسب القدرة- واستدامة البِشْر ومداعبة الأهل وتوسيع النفقة دون إسراف، وقيام كل من الزوجين بما يحب أن يقوم به الآخر. وبناءُ الأسرة في الإسلام متينُ القواعد عميق الجذور، لا ينبغي أن يُهدَم كيانه لسبب يسير، حتى ولو شعرت النفس بالكره أحيانًا، فلربما كان فيما تكره النفوس خير كثير، وتأمّل هدي القرآن والله يقول: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(النساء:19)، وهذا يعني أن الطلاق ليس هو الحل الأول في بداية الخلافات والصدامات الزوجية، وإنما هو الحل الأخير الذي تفشل قبله كل الحلول.
5- تربية الأبناء على الأخلاق الفاضلة والكريمة، والخطوة الأولى هي أن يكون الوالدان قدوة حسنة للأبناء؛ بتأدية العبادات والطاعات، والاتصاف بالخلق الحسن، والمعاملة الطيبة.
6- اتباع الطرق المختلفة في التربية؛ فدعا الإسلام إلى الرفق واللين في بعض الأحيان، واتباع الشدة والقسوة في أحيان أخرى، ولكنه منع إلحاقَ الضرر بالأطفال، وأوجب لهم حقوقًا مختلفة من أهمها الحق في الحياة الكريمة، وتأمين المأكل والمشرب والملبس، وتعليمهم أمور دينهم وأمور دنياهم، وتنمية قدراتهم وإبداعاتهم، والابتعاد عن اضطهادهم أو كبتهم؛ إذ لا يمكن لهم أن يعيشوا بمعزل عن العالم وما يحدث به من تطور وتقدّم.. وكذلك فإنهم يتلقون المعارف المختلفة الجيدة منها والسيئة، ولا بد من تهيئتهم وتجهيزهم حتى لا يصابون بالصدمة أو الذهول، مما قد يجدونه أمامهم من أمور تتعارض مع تعاليمهم ومبادئهم.
7- المراقبة للأبناء وتقديم المشورة والنصح والتدخل في الأوقات المناسبة؛ فمن الخطأ أن ينشغل الأب بالبحث عن الرزق، أو أن تنشغل الأم بالأعمال المنزلية ويهملان الأطفال.
(*) كاتب وباحث سوري.
المرجع: من البذرة إلى الثمرة، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2015.