توسيع لدائرة المشترك الإنساني
الهوية انطلاقًا من منظور إسلامي، لا تقصي الآخر ولا تعمل على طمس هويته، إنما تثبت أمرًا هامًّا وهو علاقة الهوية بالمرجعية الدينية التي تؤسس للوجود الإنساني بكامله. فالمنهجية الإسلامية تطرح مفهوم “عالمية الهوية” بشكل لا يقصي وجود هوية الآخر وثقافته، ليصبح وجود الآخر أمرًا ضروريًّا ليس فقط في الخريطة الإنسانية فحسب، بل لا يمكن أن تتحقق عالمية الإسلام دون اعتراف بهذا الآخر مهما اختُلف معه. فالتصور الإسلامي يعترف بالتنوع والاختلاف البشري على كثير من الأصعدة من اللون والجنس إلى الثقافة والطبائع. فالناس وإن كانت أفرادهم متشابهة في التكوين العضوي والهئية الخلقية، لكنهم ليسوا كذلك في الاستعدادات والتكوينات النفسية، والتجارب التاريخية، والألسن اللغوية والعلاقات والعادات الاجتماعية.. وهذه كلها تشكل عوامل الاختلاف والتمايز بين الناس. هذا التنوع والتعدد الإنساني حقيقة موضوعية يؤكدها القرآن الكريم، وهي آية من آياته الباهرة: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)(الروم:٢٢).
فالتجربة الإسلامية تبين أن “الدولة الإسلامية، كان يوجد بها هويات مختلفة، لكن مع ذلك غير متنازعة. فالإسلام قبل التنوع داخل إطار شامل من الوحدة، وحدة ليست عضوية وإنما فضفاضة، هو تنوع قد سمح للجماعات الإثنية المختلفة بأن تبدع من خلاله، مثل إبداع الأكراد وإبداع العرب المسيحيين واليهود”(١).
فالهوية من منظور إسلامي هوية منفتحة على كل الحساسيات الثقافية المنضوية والمكونة للمجتمع الإسلامي، وليست هوية عضوية كما طرحها الفكر الغربي، والتي انتهت في الأخير إلى هوية عنصرية ترفض الأقليات الأخرى وثقافتها وعاداتها ولهجاتها. يقول الجابري: “فكان العربي هو المسلم، والمسلم هو العربي، لم تكن الهوية تتحدد بالنسب، بل كانت تتحدد حضاريًّا بالانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية، وسياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا بالانتماء إلى إحدى الهويات الصغرى عرقية مذهبية دينية طائفية”(٢).
من معالم التجربة الإسلامية، الاستيعاب التام لكل القوميات والأقليات، والاعتراف بحقوق كل المواطنين على اختلاف لغاتهم ومعتقداتهم وأجناسهم. فليس من منطق الإسلام البتة الإقصاء وعدم الاعتراف بالحقوق الفكرية والثقافية للآخر. فالإسلام أسس مسلكًا فكريًّا ثقافيًّا استطاعت من خلاله كلُّ الهويات والحساسيات التعبير عن ذاتها، وتمكين أهلها من ممارسة عاداتهم وطقوسهم كما تمليها عليهم ثقافتهم وعاداتهم.
تفاعل الهويات داخل المجتمع الإسلامي
المنهجية القرآنية تنظر إلى ثنائية الأنا والآخر نظرة تكاملية لا إقصائية، فالأنا في فلسفة الإسلام لا يحدد وجوده وقيمته باستحضار الصراع مع الآخر، لأن الأنا والآخر -مهما اختلفا- فهما في نهاية المطاف إنسان تربط بينهما كثير من الروابط، رغم حصول الاختلاف والتمايز الطبيعي بينهما. “فالآخر وأنا، وأنا والآخر في الرؤية القرآنية الكونية في الحقيقة كلٌّ واحدٌ، متعدد الجوانب والانتماءات، وذلك هو الإنسان قرآنيًّا، وحدة في تنوع، وتنوع في وحدة، لا تفاضل إلا في مدارج تحقيق الذات الإنسانية السوية، التي هي أصل الفطرة وغاية وجودها ومناط مسؤوليتها واستخلافها في هذه الحياة الدنيا”(٣).
تعتبر الآية ١٣من سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الأساس في نشر الوعي الحضاري بقيمة التعارف، وإفشاء خلق التعاون والتعايش بين بني البشر جميعًا، دون اعتبار لعامل اللون أو الجنس أو المعتقد. فهذه الآية تؤسس لمجتمع إنساني عالمي، تسوده أخلاق التواصل والتعارف والتعاون، وتسقط كل دعوات العصبية المقيتة التي تجعل الإنسانية عبارة عن جزر متناثرة هنا وهناك، كل جزيرة ترتاب مما عند الأخرى. كما تبين هذه الآية كذلك، خلق الاعتراف بالآخر، وإبداء الرغبة في التعامل والتعاون معه، خدمةً للبشرية جمعاء دون النزوح إلى الإقصاء والتجاوز.
فالتصور الإسلامي يسقط كل موازين التفاضل بين الناس، المبنية على اعتبارات عرقية أو دينية أو لغوية كما يدعي بعضهم اليوم، فمنهم من يرى أنهم شعب الله المختار، ومنهم من يرى أن عرقه أرقى الأعراق.. وهكذا تتوزع أوصال الإنسانية بحسب رغبات دعاة القطيعة والتنافر، الذين لا يحلو لهم أن تتواصل البشرية وتتعاون فيما بينها.
لهذا نجد الشريعة الإسلامية أقرت ضرورة حسن التعامل مع الناس كافة، كما حثت على حسن التعامل مع أهل الكتاب. ومن الآيات الجامعة التي تؤطر هذا الاتجاه قوله الله عز وجل: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة:٨)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيبِ نفسٍ، فأنا حجيجُه يوم القيامة” (رواه أبو داود)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا من قتل نفسًا معاهَدًا له ذمةُ الله وذمةُ رسوله، فقد أخفر بذمة الله فلا يرِح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا” (رواه الترمذي).
فإذا كانت نصوص القرآن والسنة، شكلت الخلفية الفكرية والثقافية التي أصَّلت في عقل المسلم خلُقَ التعايش واحترام ثقافة الآخر، فإن التجربة الإسلامية التاريخية ممثلة في السيرة النبوية، كانت نموذجًا عمليًّا وتطبيقًا راقيًا في الاستيعاب والتعايش مع الآخر كيفما كان هذا الآخر، مسلمًا أو كتابيًّا. فالأمر لم يبق متروكًا للمسلمين، كل يتعامل ويتفاعل مع هذه الأخلاق الإسلامية حسب سجيته ومزاجه ورغباته، بل الأمر تعدّى هوى الأشخاص. لهذا نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قنن هذه التوجيهات والمبادئ، فصارت وثيقة مكتوبة ملزمة لكل مسلم، سيَّجها النبي صلى الله عليه وسلم بوعيد شديد لكل من سولت له نفسه خَرْق بنودها وتجاوز أحكامها.
الهوية انطلاقًا من منظور إسلامي، لا تقصي الآخر ولا تعمل على طمس هويته، إنما تثبت أمرًا هامًّا وهو علاقة الهوية بالمرجعية الدينية التي تؤسس للوجود الإنساني بكامله.
فكتب السير والتاريخ، تؤكد أنه بمجرد وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، بادر إلى كتابة وثيقة لاستيعاب الواقع البشري الذي تميز بالتعدد والاختلاف، على أساس من العدل وعدم الإقصاء. يقول الجابري: “لقد بدأ هذا الكيان في التشكل دستوريًّا مع الصحيفة المعروفة بصحيفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عبارة عن ميثاق قومي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مع سكان المدينة من عرب ويهود. فكان هذا الميثاق قوميًّا بالفعل، لأنه اعتبر في إحدى بنوده أن المهاجرين والأنصار واليهود هم جميعًا أمة واحدة متضامنون ضد أي اعتداء خارجي. فها هنا وحدة قومية بين المهاجرين الآتين من مكة، والأنصار سكان المدينة، واليهود القاطنين فيها، في إطار هذه الوحدة القومية، والهوية الجامعة. حافظت الوثيقة لكل قبيلة من قبائل يثرب اليهودية منها والعربية وللمهاجرين من قريش، على أعرافهم”(٤).
لقد كانت هذه الوثيقة علامة شامخة في سماء الاعتراف المتبادل بين كل الهويات والمكونات الثقافية والعرقية التي اختارت العيش داخل المجتمع الإسلامي، بحيث اعترف الإسلام بالشخصية المستقلة لهذه الجماعات والأقليات، واعتبرتهم مواطنين كاملي المواطنة، وأسست لمبدأ أن المواطنة ليست تصنيفًا على أساس الدين واللون أو العرق، بل على أساس الانتماء للوطن. لهذا جعلت الوثيقة كل سكان المدينة “أمة” من الناحية السياسية، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات كما للمسلم. ومما يؤيد ذلك، أن فقهاء الشريعة في جميع المذاهب، اعتبروا أهل الذمة من “أهل دار الإسلام”؛ وأهل الدار يعني أهل الوطن، بمعنى أنهم مواطنون مشتركون مع المسلمين في المواطنة. يقول الشيخ محمد الغزالي في هذا الاتجاه: اليهود والنصارى الساكنون في ديار الإسلام “أصبحوا من الناحية السياسية أو الجنسية، مسلمين، في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وإنْ بقوا من الناحية الشخصية على عقائدهم وعباداتهم وأحوالهم الخاصة”(٥).
إن وثيقة المدينة باعتبارها عقدًا تاريخيًّا للمواطنة تعد نموذجًا حضاريًّا أبدعته الحضارة الإسلامية؛ لتثبت أن جميع مواطنيها سواسية في الحقوق والواجبات، ولا فرق بين مواطن وآخر وإن اختلفت توجهات ومعتقدات هؤلاء المواطنين. تعد هذه الصحيفة من الناحية التاريخية، هي أول وثيقة في تاريخ البشرية تقر بحقوق المواطنة. فهي وثيقة أسست للمواطنة الصالحة التي يتعايش في ظلها جميع المواطنين والمقيمين في انسجام وتعاون واحترام متبادل، مع تحملهم جميعًا مسؤولية هذه المواطنة وحقوقها، ضامنة لجميع المواطنين حقوقًا متساوية ليمارسوا دورهم كاملاً في خدمة ورقي وتقدم وطنهم ومجتمعهم، حيث لا مكان في هذه المواطنة لمن يخرق بنودها، ويعمل ضد وطنه وأبناء جلدته. ويؤكد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أن الذمي “مواطنٌ يملك من حقِّ المواطنة ما يملكه المسلمون دون أي تفاوت في الدرجات”(٦).
وفي السياق الإسلامي، تمتّع أهل الديانات المختلفة بحقوق المواطنة -أو بكثير منها- في ظل حكومات إسلامية عبر تاريخ الإسلام، بدءًا بدولة المدينة التي تأسست على دستور مكتوب اعترف بحقوق المواطنة لجميع المكونات الدينية والعرقية للسكان باعتبارهم أمة من دون الناس حسب تعبير دستور المدينة المعروف باسم “الصحيفة”، حيث نصت على أن “اليهود أمة والمسلمين أمة” (أي أمة العقيدة)، وأن “المسلمين واليهود أمة” (هي أمة المواطنة) بالتعبير الحديث أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقًا متساوية باعتبارهم مواطنين حاملين لجنسية الدولة المسلمة. قال عنهم الخليفة الراشد علي كرم الله وجهه “إنما أعطوا الذمة ليكون لهم مالنا وعليهم ما علينا”.. “تكون البنود الأولى من الوثيقة قد حددت أساس المواطنة في دولة المدينة في أساس مهم هو الارتباط التعاقدي بالأمة الجديدة، إلى جانب تقاسمهم جميعًا الوطن الجديد (المدينة)، فإن الإقامة المرتبطة به عند نشأة الدولة هي التي أعطت هؤلاء اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمنت لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها الوثيقة لهم”(٧).
إذن، فالانتماء أو المواطنة ليست تصنيفًا على أساس الدين، لأن الإسلام اعتبر أهل الأديان الأخرى المسالمين من أهل دار الإسلام؛ أي أن لهم حق المواطنة الكاملة. ومن مظاهر المواطنة المساواة بين الجميع.
ومن الأمثلة كذلك؛ لقد تولت أسرة مسيحية في العهد الأموي الإدارة المالية للدولة الإسلامية لمدة طويلة جدًّا، أشهر أعضاء هذه الأسرة “يوحنا الدمشقي”، كما عين معاوية بن أبي سفيان كاتبًا مسيحيًّا له وهو “سركون”، وتولى جباية خراج حمص طبيبه المسيحي “ابن آثال”، باعتبارهم مواطنين لهم كامل المواطنة.
خاتمة
الإشكال في حقيقته، يكمن في طريقة تناول موضوع الهوية، واستحضار بعض المداخل الغريبة عن الثقافة العربية الإسلامية، فعندما يطرح بعض المفكرين مفهوم “الصراع حول الهوية” فهذه مقاربة تناقض الثقافة الإسلامية، إذ الأصل هو التعايش والتواصل بين كل الهويات المكونة للأمة الإسلامية، رغم تعددها واختلافها. وكلما أمعنا النظر في مفهوم “الهوية” انطلاقًا من منظورها الإسلامي، وجدناها أكثر رحابة واتساعًا بالمخالف، بل وأكثر استيعابًا له، لأنه يجد من خلالها فسحة لممارسة شعائره، والاحتكام إلى أعرافه، والمساهمة في تطوير مجتمعه ووطنه.. ولا يحق لأحد مهما كان، أن يطمس هويته أو يتجاوزها بدعوة أنه ثقافة أقلية تخالف توجهات الأغلبية.
(*) أستاذ باحث في الفكر الإسلامي، مكوّن بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، بني ملال / المغرب.
الهوامش
(١) الهوية و الحركية الإسلامية، عبد الوهاب المسيري، دار الفكر، ط١، السنة ٢٠٠٩، ص:٢٤.
(٢) مواقف، عابد الجابري، عدد:٦٦، ط١، السنة ٢٠٠٧، ص:٣٣.
(٣) الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، د. عبد الحميد أبو سليمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط١، السنة ٢٠٠٩، ص:٨٣.
(٤) مواقف، د. عابد الجابري، عدد:٦٦، ط١، السنة ٢٠٠٧، ص:٣٤.
(٥) التعصُّب والتسامح، الغزالي، ص:٥٢.
(٦) الجهاد في الإسلام، محمد سعيد رمضان البوطي، ص:١٤٠.
(٧) في النظام السياسي للدولة الإسلامية، محمد سليم العوا، ص:٥٦.