سؤال: ما هي المعاني التي قرأتها في وجوه التجار المحسنين والشباب العاملين من أبناء دعوة الأستاذ فتح الله كولن أثناء التقائك بهم؟
ليس فقط الشباب وطلاب الجامعة من هؤلاء الرجال، ليس هذا فقط، ولكن مشاهدات كلّ التجلّيات.. نعم إنّني أسمّيها “التجلّيات”، التجلّيات النورانية التي تجلّت في دعوة معماريّة.. و”المعمار” هاهنا ليس فقط البناء، ولكن المعمار هو الإنسان الذي يسكن هذا البناء، والذي يصنع هذا البناء، أي “الروح”.. “المعمار” روح، و”العمران” روح.. هذا الروح العمراني المتميّز الذي نهض الآن في تركيا وله تجلّيات عديدة على الإنسان من كل الأصناف ومن كل المؤسسات على المستوى الثقافي والمستوى الاقتصادي..الخ. في حقيقة الأمر هي تجلّيات شُمولية، لا يمْكن أبدًا أن أحْصُرها في الجانب الطلاّبي، أو جانب الأصناف من التجّار، نظرًا لأن التأثّر الذي حصل في وجداني وفي قلبي وخاطري، كان من هذه الجهات جميعًا..
في مثل هذه اللقاءات توصّلنا إلى نتيجة واحدة: أن هذا الأمر هو أثر ربّاني إلهي سامٍ عالٍ.. يستحيل أن يكون في مقدور البشر وفي طاقته.. فمعنى ذلك أننا إذا شاهدنا شخصًا صنع كلَّ هذه الكرامات مثل الأستاذ فتح الله كولن، فلا ينبغي أبدًا أن نقول إن هذا الشخص بذكائه وبعبقريته صَنع هذا، لا يمكن أبدًا.. أنا شخصيًّا لحدّ الساعة لا يمكن أن يدْخل في دماغي هذا المعنى.. ولكن الذي وقر في قلبي أنه شخص مُؤيَّد، هنالك تأييد إلهي، هنالك تسديد ربّاني، هنالك اتّصال غيبي عند هذا الشخص بالملإ الأعلى، فيستمدّ قوةً خارقةً، ويستمدُّ مددًا وسنَدًا إلهيًّا لسرٍّ هو فيه، ولذلك أَنتج ما أنتج من هذا العمران.
سر وراثة النوة
لقد وصفت الأستاذ فتح الله كولن بـ”وارث السر”.. فما هذا السر؟
إذا أردتَ أنْ تسمّي هذا من حيث الاصطلاح، تقول “وراثة النبوّة”.. لكن الاصطلاح يدلّ على معنى هو الذي ينبغي شرحه. لقد جاء في الحديث أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكنّهم ورَّثوا العلم. هذه “الإرث” ليس بالمعنى الجافّ للكلمة.. فكثيرٌ منَّا انصرف إلى العلم، ليكون وارثًا للنبي، وقالوا هو “العلم الشرعي”، فتعلّموا الفقهَ والأصول، وكذا وكذا، لكن ما أنتجوا شيئًا..
إذا دقّقنا النظر في حقيقة الأمر، ما “العلم” المقصود إذنْ في الحديث النبوي الشريف؟ “العلم” هو العلم الذي كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. والعلم الذي كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان علمًا مخصوصًا. أقصِدُ بـ”الخصوصية” هذه أنّه علمٌ نظرًا لأنّه عن الله، في كتابه وفي السنّة النبويّة التي هي مصدرٌ ثانٍ للتشريع. هنالك صلْبُ العلم، ومظاهر العلم. “صلب العلم” هو ذلك المعنى الوجداني القلْبي الذي كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. سيّدُنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، يحدّث في أحاديث صحيحة أنّه كان خليلاً لله كما كان إبراهيم -عليه السلام- خليلاً لله.. ومن ذلك مثلاً حديثُه -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً»، وأيضًا في حديث آخر «لو كنتُ مُتّخِذًا خليلاً لاتّخذتُ ابن أبي قُحافة (أي سيّدنا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه) خليلاً، ولكن صاحبكم اتّخذ الرحمنَ خليلاً».. الخلّة هذه أعلى درجة من الصفاء الروحي على الإطلاق، وأعلى مرتبة من الولاية، وأعلى مرتبة من المحبّة التي لمْ يبْلُغْها وليٌّ ولا نبيٌّ قطّ، إلا إبراهيم -عليه السلام- وسيّدنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم..
إذن هنالك سرّ كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، به صار عليًّا عند الله جلّ وعَلا.. فمِنْ هذا السرّ يَقْبِسُ الأولياء والصدّيقون والصالحون، أي يأخذون قبَس الخير والنور والعلم. والذي لم يَقْبِس من هذا المعنى، لا علْمَ له، لأن الله في مُحكَم الكتاب يقول قاصدًا الذي كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم عند الصالحين والصدّيقين: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).. وإذا أردنا أن نطبّق هذه الآية حرفيًّا، أي أن نأخذ معنى “العلم” بالعلوم الشرعية، لوجدْنا علماء في الشريعة -مع الأسف- ليسوا كذلك.. فكيف إذن تنطبق الآية على واقعٍ غير صحيح.. وإنّما القصد أن العلمَ المقصودَ هو “العلم الذي فيه إرثُ النبوّة” أي أن الإنسان العالِم الحقّ اقتبس من نور النبوّة الوِلايةَ..
إذن هذا المعنى الذي هو “إرثُ النبوّة” هو الذي نجده فعلاً متجلّيًا في هذه الآثار، ممّا يدلّ على أن الإنسان الذي استطاع أن يصل وأن يُنتج آثارًا مثل هذه، لا شكّ وأن له إرْثًا من هذا المعنى.. هذا واضح والحمد لله من الشهادات ومِن كتُب الأستاذ فتح الله، وممّن تتلمذ عليه.. لا شكّ أن هنالك تأثيرًا غريبًا وواضحًا جدًّا وقويًّا..
أوصاف المجدد
هل المجددون حملة هذا “السر”؟
حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة مَن يُجدِّد لها دينها».. هذا الحديث إذا أخذناه بالمعنى الذي ذكرت من “وراثة النبوة”، وبمعنى العلم، بالمعنى الخاص الذي هو في القرآن وفي السنّة النبوية، نجد فعلاً أنّ البشارات وكل الدلائل تشير -وتصرّح أكثر- إلى أنّ الأستاذ فتح الله يُعتبَر من روّاد التجديد في هذه المرحلة. وهنالك أدلّة أيضًا تاريخية في أنّنا نعيش الآن مرحلةً تاريخيةً على مستوى الأمّة الإسلامية جمعاء.. مرحلةً تاريخيةً جديدة بالضبط، جديدة كل الجد.. لأننا الآن نعيش مواجهة استعمارٍ بمعنى جديد.. هذا الاستعمار الجديد الذي يُسمَّى الآن في الفقه السياسي المعاصر بـ”العولمة”.. هذا الاستعمار يختلف اختلافًا جذريًّا عن الاستعمار القديم الذي كان في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الماضي..
الاختلاف بين الاستعمارَين أن الاستعمار الأول كان يستعمر الأوطان، والاستعمار الجديد يستعمر الإنسان.. فالاستعمار الذي استعمر الأوطان كان هدفه الثروات والأموال، وأن يسيطر سيطرةً عسكريّةً واقتصادية وسياسية، ثم ثقافيةً على العالم الإسلامي.. فتأثيره كان أن دمّر البنية الاقتصادية للعالَم الإسلامي، ومزّق وشتّت العالَم الإسلامي عسكريًّا وسياسيًّا.. لكن مع ذلك لم يستطع أن يُطفئ جذوة الروح الوطنيّة والإيمانية التي كانت عند المسلمين.. فلذك استطاع المسلمون أن ينهضوا من جديد وأن يقاوموا هذا الاستعمار على مستوى معيَّن..
لكن جاء بعد قرنٍ من الزمان من نهاية القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين من تلك المرحلة إلى المرحلة الآن التي من نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وأيضًا بالعدّ الهجري من نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الهجري إلى بداية القرن الخامس عشر الهجري، هذه مرحلةٌ فعلاً تَغيّر فيها كلُّ شيء؛ وصار الاستعمار الجديد الآن يستعمر الإنسان قبل أن يستعمر الأوطان. لأنّه حينما يستعمر الإنسان فقد استعمر كلَّ شيء بالتّبع، وقضى على كل أمَلٍ في المقاومة.. لأن الإنسان يُصبح إذن تابعًا وجدانيًّا وذوْقيًّا للغرب وللآخر..
من هنا إذن أعتبر أن مرحلة هي الآن تقتضي وجود شخص أو عدّة أشخاص يقومون بتجديد دين الأمة في وجدانها. إن الدين جديد دائمًا، لكن شوق الدين هذا يحتاج إلى تجديد.. ونجد أن مدرسة فتح الله كولن تستجيب كل الاستجابة لهذا، إضافة إلى الآيات والأحاديث من المؤشِّرات القوية على أن هذه الدعوة بما بذلت وبما أسّست وبما عمَّرتْ فعلاً تُعتَبَرُ جوابًا لهذا الإشكال، وتعبيرًا عن هذه المرحلة بالضبط، لأن كلّ كتُب الأستاذ فتح الله، وكلُّ مشروعه -نعم كلُّ مشروعه- قائمٌ أساسًا على “تجديد الإنسان”.. لأنه حينما يجدّد الإنسان يتجدّد كلُّ شيء بالتّبع، فتكُون الشركات، وتكون المؤسسات بسبب أنّه صنَع “الإنسان”.. وهذه هي العبقرية الاستراتيجية التي يُمكنها -ووحْدها دون سواها- أن تُواجه الاستعمار الجديد بتجلّياته الثقافية والعقَدية المدمِّرة للبنْية التحتية في العالَم الإسلامي..
دعوة الخدمة والعالم العربي
ماذا تعني دعوة الأستاذ فتح الله كولن بالنسبة للعالم العربي والإسلامي؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه في ظل التحولات التي تعيشها المنطقة؟
إن الحركة الإسلامية في بداية القرن الماضي بدأت بصورةٍ معيَّنة، واستجابت لظروفٍ معيَّنة، في شخص الأستاذ بديع الزمان النورسي رحمه الله. كانتْ الظروف آنئذ خاصّة، كانت مرحلة الاستعمار بالمعنى القديم، وأيضًا في مصر الأستاذ حسن البنّا، وبعده الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وفي الهند محمد إلياس الحيدَرْآبادي الهندي، ومَن جاء بعده الأستاذ أبو الأعلى المودودي، وغيرُه كثير.. فهؤلاء جميعًا ظهروا في نفس الفترة، ومن المقادير الإلهية العجيبة أن الأستاذ بديع الزمان النورسي كتَب أو بدأ كتابة رسائل النور 1928م، في نفس التاريخ بالضبط وفي نفس السنَة، وقبل هذا التاريخ (1928م) بأربع سنوات كانت قد سقطت الخلافة الإسلامية 1924م.
فإذن هنالك زلزال وقَع للعالَم الإسلامي وتمزُّق كبير جدًّا… انفجار على مستوى كيان وحدة الأمّة الإسلامية، فكان إذن ردُّ الفعل هو هذا، أي هذه الحركة الإسلامية الداعية إلى تجديد دين الأمّة، ومواجة الاستعمار بوجهه العسكري..
طيّب.. هذه الموجة التي ظهرتْ في هذه المرحلة استجابتْ لظروفٍ معيَّنة، وأدّتْ دورًا تاريخيًّا رائدًا ومهمًّا جدًّا.. الآن عندنا مشكلة، وهذه المشكلة هي أن الحركة الإسلامية في العالَم -في العالَم العربي والإسلامي جميعًا- لا تزال تقتات على المرحلة القديمة السابقة، أي أنّ أغلب الحركات الإسلامية في العالَم العربي -في المشرق والمغرب- لا تزال تسير على نفْس النمط، نمط الحركة الإسلامية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.. هذا النمط إذا لم يتجدّدْ ستكون هنالك مشكلة.. لمَ؟ لأنّ الظروف التي أفرزتْ نموذج الإصلاح القديم تغيّرتْ، فهاهنا ظروفٌ جديدة تستدعي نمطًا جديدًا للعمَل.. ولذلك إن الأستاذ فتح الله بتركيزه على الإنسان قبل الأشياء، وقبل العالَم المادّي، وبتركيزه على العالَم الروحي، يستجيب بكلّ وعْيه وبكلّ عمق لطبيعة المرحلة، لأنّ هذه المرحلة تدمّر الإنسان من حيث هو ثقافة، ومن حيث هو كيان، ومن حيث هو انتماء لحضارة.. فصار الإنسان -مع الأسف الشديد كما نشاهده في كثير من بلاد العرَب، بلاد المسلمين عمومًا- يشتاق ويتمنّى لو كان فرنسيًّا، لو كان أمريكيًّا، لو كان، لو كان.. هذا عدَم الإحساس بـ”الذات” وزهده في الانتماء الحضاري لأمّة الإسلام، مرضٌ خطير جدًّا، سببُه هذه القوّة الإعلامية والثقافية والأيديولوجية التي تنزل على قلوب المسلمين في كل مكان، وتدمّر إحساسَهم بهويّتهم وبانتمائهم الحضاري إلى الإسلام..
إذن المشكل المطلوب هو إعادة التشكيل الوجداني للمسلم، وليس فقط العقل المسلم.. نعم، إعادة تشكيل وجدان المسلم، إحساسُه، ذوقُه، انتماؤه الحضاري.. فإذن هذا الحلّ هو الوصفة التي تستجيب لِمَوعد التاريخ، جاءت مع موعد التاريخ، وتستجيب أيضًا للأصول القرآنية والنبوية..
أحسِب -وأقولها بكل تجرُّأ إن شاء الله- أن الأمّة الإسلامية في كثير من البلاد العربية بشكلٍ خاص، سترجع إلى هذا المنهج، وهي الآن في طوْر المراجعة، لأنّها اصطدمت بمنهجها العتيق ذاك، اصطدمت بالواقع، اصطدمت سياسيًّا، ثم -هذا هو المؤسف-اصطدمت شعبيًّا مع الناس.. فحينما تَفشَل الحركة الإسلامية في خطاب الجماهير، وتصطدم مع الجمهور ومع الشعب، هذا دليل قاطع على أن هذه الحركة فاشلة فاشلة فاشلة..
فإذن حينما تقع أزمة لحركةٍ ما في البلدان العربية وفي رمشة عين بين عشيّة وضحاها، يتخلّى عنها الشعب، وتتبرّأ منها الجماهير، معنى ذلك أنها لا تملك رأسمال إنساني وجْداني.. فالذي يملك قلوب الناس لنْ يتخلّى عنه الناس ولو في أحلك الظروف.. ولو اصْطدم سياسيًّا، ولو وقعت له مشكلات، ولو دخَل السجون والمنافي، الناس لا يتخلّون عنه، كما لم يتخلّوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في معارِك وفي مواقع شديدة جدًّا.. لأنه حتّى وإن لم يملك السلطان في مرحلة مكّة، كان سلطانًا على قلوب كثيرٍ من الناس ممن تربّوا بدار الأرقم بن أبي الأرقم..
الآن أعرف شخصيًّا أن كثيرًا من الحركات الإسلامية وكثيرًا من الدعاة يُعيدون حساباتهم من جديد، ويُراجعون، وفي كثيرٍ من الأحيان يجِدون أنفسهم مضطرّين للعودة إلى المنهج القرآني.. سَمِّيه ما شئت، المهمّ أنّه في المضمون هو تكوينٌ روحيّ.. تكْوين الإنسان قبل تكوين الجانب الفكْري فقط، أو الاقتصادي فقط، أو الدخول في حزبٍ سياسيّ فقط.. الآن الأمّة ستجد نفسها مضطرّةً -أحبّتْ أم كرِهت ستضطر، لأن الظروف ستُكرهها على ذلك- إلى العودة إلى هذا المنهج..
أحسِب أنه إذا عرَف العرَبُ الأستاذ فتح الله كولن كاملَ المعرفة، فإنّهم لن يجدوا بديلاً ولا أفضل من منهجه.. ليس لأنّه هو “منهج فتح الله” من حيث هو شخص، ولكنه “منهج القرآن الكريم”.. لأنّ الرجُل مؤيَّد، له صلَة بالله جلّ وعلا، إن شاء الله صافيةً، صلة الوِلاية التي في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- القدسي «مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنْتُه بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتّى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسْمع به، وبصره الذي يُبْصِر به، ويدَه التي يبْطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأُعيذنّه».. فهذا المستوى الراقي العالي الرفيع الذي هو تأمين -نعم هذا تأمين وضمان من الله جلّ وعلا يُنْزله على عبده-، إذا كان عبدٌ على مثل هذا المستوى فيا ويْل مَن تُسَوِّلُ له نفسُه أن تمتدّ يدُه إليه، أو إلى حركته، أو إلى دعوته، لأنه هو مضمون، مضمون من لدُنْ ربِّ السموات والأرض.. فإذن هذا الضمان العالي إذا حصّله العبد فقد حصّل كلَّ شيء، وإذا لم يُحصّله العبد وأخطأه فقد أخطأ كل شيء، وأضاع كلّ شيء.. فهذا المعنى -مع الأسف- هو الذي نفتقده في كثير من البلاد العربية..
العالم الإسلامي وتأويل يوسف -عليه السلام- لرؤيا الملك
سمعنا منكم مقاربة شيقة حول رؤيا سيدنا يوسف -عليه السلام- والمراحل التي مرّت بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها. فهل يمكن أن تفصلوا لنا تلك المقاربة؟
هذا كلام سمعتُه من بعض أشياخنا، فقمتُ بتطبيقه على واقع مشروع الأستاذ فتح الله كولن، وهذا الجديد الذي عندي.. وإلاّ فهو ذُكر عند بعض أهل الفضل وبعض أهل العلم وأهل الذكر.. وذلك أنّ تاريخ الأمّة الإسلامية الآن هو تاريخ يمكن أن نقسّمه إلى مراحل ثلاثة:
1- المرحلة الأولى هي مرحلة النهوض والصعود..
2- ثم المرحلة الثانية مرحلة النزول والانحدار..
3- ثم المرحلة الثالثة هي مرحلة بدء النهوض، وهي المرحلة التي نعيشها الآن..
المرحلة الأولى: دامت المرحلة الأولى سبعة قرون، بدءً من القرن الأوّل الهجري، أي حيث بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوة وبناء الدولة الإسلامية الأولى، وما تلا ذلك من فعلِ الصحابة رضوان الله عليهم في العهد الراشد، وما تلا ذلك من الخلافات الإسلامية المختلفة إلى القرن السابع الهجري..
المرحلة الثانية: في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الهجري وقَع للأمّة الإسلامية زلزال.. لمْ يكن قد بقي من الأندلس في القرن الثامن الهجري إلا شريط غرناطة.. كانت قرطبة قد سقطت بيد الإسبان، ووقع احتلال واستعمار يسمّونه في تاريخ الأندلس بـ”معارك الاسترداد” أي أن النصارى كانوا يستردّون الأندلس وما بقي آنئذ في القرن الثامن الهجري إلا شريط غرناطة. وكان الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله يؤرّخ من خلال فتاواه للوضْعيّة الإيمانية والدينية التي كانت آنئذ مُنهارةً جدًّا، حيث كان يُستفتَى في الشخص يُسْلِم ويَكفر، ويكفر ويُسْلم.. فشخصٌ مثلاً، كان مُسلمًا ثم ارتدّ وصار نصرانيًّا، ثم مات أبوه، ثم هو يَعرض على إخوته بعد ذلك أن يُسْلِم بشرط أن يأخذ نصيبه من الإرث.. فالوضعية كانت تدلّ على أنّ الإنسان ما صار انتماؤه للإسلام انتماءً حقيقيًّا في مرحلة السقوط والانهيار للأندلس.. في تلك الفترة بالذات كان العالَم الإسلامي في الشرق تحت وطأة المغول، لأن القرن الثامن الهجري فيه عاش ابن تيمية في الشرق وتلامذته الذين واجهوا المغول وإحراق بغْداد ومكتبة بغداد. كان هنالك انهيار عسكري وحضاري في العالَم الإسلامي في القرن الثامن الهجري..
فإذن سبعة القرون الأولى كانت قرونًا على العموم في هذه القرون الثلاث الأولى خيّرة، ولكن تلاها إشعاع حضاري وعسْكري كبير استفاد من الانطلاقة الحضارية القوية التي بدأت في القرون الهجرية الثلاثة الأولى والتي أسّسها سيدُنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لكن مع القرن الثامن الهجري بدأ الانهيار، فبعد وفاة الإمام الشاطبي بقرن واحد سقطت الأندلس تمامًا، وما بقي فيها موضع إصبع للمسلمين.. ودخل الإسبان إلى المغرب وتونس والجزائر، وصار يحتلّون شواطئ المغرب وشواطئ العالَم الإسلامي الذي في مُقابلتهم. وحدَث انهيار في العقائد، وفي الفهم للدين، وانتشرت الخرافة في المشرق وفي المغرب، ولم يزل العالَم الإسلامي في انهيار وتردٍّ مستمرّ طيلة القرن الثامن والتاسع والعاشر، وهكذا إلى أن تمّت سبعة قرون كاملةً إلى حدود القرن الرابع عشر الهجري الذي كان هو قرن الاستعمار القديم في العالَم الإسلامي.
المرحلة الثالثة: إذن نحن الآن في بداية قرنٍ جديد وهو القرن الخامس عشر..
هذا الوضع الآن أشبه ما يكون برؤيا يوسف -عليه السلام- في قصته التي عُرضت عليه النازلة التي كان قد رآها الملك -ملِك مصر آنئذ- وأوَّلَها يوسف عليه الصلاة والسلام. فذلك التأويل الذي شرح به يوسف الوضع آنئذٍ في مصر ينطبق -لكن بعدّ القرون لا بعدّ السنوات- على تاريخ الأمّة الإسلامية..
وليس عبثًا في كتاب الله جلّ وعَلا -هذه من الإشارات واللطائف التي يذكرُها ساداتنا العلماء- أن ترِد بعض الإحصاءات أو بعض الأرقام أو بعض العدّ أو بعض الإشارات في كتاب الله هكذا فقط لمجرّد التاريخ، أبدًا.. ما من مسألة ذُكرتْ في الكتاب -ولو تعلّقت بعبادة العجْل عند بني إسرائيل، أو أي شيء- إلاّ وفي ذلك دليل على أن ذلك المرَض -إن كان من الأمراض- ستُصابُ به الأمّة الإسلامية في وقتٍ ما، وتحتاج إلى عِلاج يُؤْخذ من القرآن الكريم.. أو إذا كان صفةً إيجابية أو دواءً، دليل على أنّ ذلك الدواء ستحتاجه الأمة الإسلامية في وقتٍ ما، في المستقبل.. ومن ههنا ينطلق بعض العلماء فيقولون بأنّ “النسخ” في القرآن بمعنى أن هذه الآية الفلانية أو الكلمات أو الأحكام الشرعية الفلانية في هذه الآية أو تلك، “نُسِخت” بمعنى “أنها عُطِّلت من العمَل، ولا فائدةَ منها ألبتّة”، هذا غير صحيح مطلقًا، ولا يجوز عقيدةً ولا عقلاً أن يُنْسَبَ مثلُ هذا الأمر لله -عز وجل-.. لا يجوز عقلاً ولا شرعًا أن يكون في كتاب الله آية لا فائدة منها، تُتْلى فقط.. لا، هذا لا يجوز.. فلذلك ما من آية حتّى ولو كانت منسوخةً، فمعناها أنّها باقية تُتْلى في القرآن، معنى أنّ الأمّة ستحتاج إلى ذلك الحكم في وقتٍ ما.. ربّما في مرحلة إعادة البناء، أو في أيّ وقتٍ، ما ترَك اللهُ جلّ وعَلا تلك الآيةَ إلا لحكمة، أي أننا سنحتاجها في وقتٍ ما..
فإذن القصص في القرآن ليس معناها حكاية الماضي فقط، هذا لا يجوز شرعًا وعقلاً على الله جلّ وعلا.. نعم في هذا المعنى حكاية الماضي، ولكن فيه أيضًا أننا كأمّة سنحتاج فعليًّا وعمَليًّا لبعض الحلول الموجودة في ذلك القصص..
وأحسِب أنّ هذا التأويل اللطيف وأن هذه الإشارة يوجد فيه معنى، على أنّ هذا العدّ له سرّ، والذين يطبّقون هذا على واقع الأمّة الإسلامية اليوم، فيه نوع من مُقاربة الحقيقة..
أعود إلى القصّة، حينما قال يوسف -عليه السلام- (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا)(يُوسُف:47).. إذا أخذنا السنَة بالقرن في تاريخ الأمّة الإسلامية، نعم إذا فهمنا السنوات المذكورة بعدّ القرون: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) أي على لسان يوسف -عليه السلام-.. فهذا السبع السنوات للزرع، بمعنى أنه سيكون هنالك خصب، وسيكون نماء.. هذا خصب سيستمر سبع قرون من تاريخ الأمّة الإسلامية، زرعنا سبعة قرون دأبًا فعلاً.. ثم الذي حدث هو أنّ السبع الثانية كانت على العكس تمامًا، أي أنها كانت تستنزف وتأكل من السبع الأولى، والله جلّ وعلا وصَف ذلك وقال: (سَبْعٌ عِجَافٌ) (يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً)، ووصف سبع السنوات الأخيرة في قصة يوسف -عليه السلام- بأنهن (عِجَافٌ) أي أنّ هنالك ضعف، هنالك انهيار، فهذا الضعف والانهيار سيتغذّى من السنوات السابقة أو بالأحرى في التاريخ من القرون السابقة، أي تُدمِّر ما كان بُنِي.. ولذلك سبع بَقَرات سمان كان يأكلهن سبع عِجاف.. فالقرون العِجاف أكلتْ ما بنينا من السبع العِظام السِّمان.. فإذن كلُّ البناء الذي بُنِي في سبعة قرون انْهار أيضًا في سبعة قرون.. ثم جاء عامٌ من بعد ذلك (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)، فهذا العام هو ما يقابل القرن بهذا العدّ إذن.. إذن سبعٌ في سبعٍ، في عام؛ أي سبعة قرون، في سبعة قرون، في قرن، وهو الخامس عشر.. فهذا هو “الوتْر” الذي ستنطلق منه الأمّة من جديد، وهذا العام (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) فيأتي غوث، وخيْر من الله جلّ وعَلا، (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي سيُنْتجون الخيرات والبركات..
وأحسِب أن هذه الدعوة المباركة للأستاذ فتح الله كولن الذي ترعرعت فيه من الموقع الجيوسياسي الذي تحتلّه بلد تركيا باعتبارها موقعًا يربط القارّات الكثيرة، جاء في وسط آسيا، ووسط إفريقيا، أي بين وسط إفريقيا وآسيا وأوروبّا.. هذا الموقع لا يُوجد لدولةٍ إسلاميةٍ أخرى.. ولذلك من هذا الموقع يمكن أن يقع الإرسال لكلّ القارّات في كلّ مكان.. ثم وجود الأستاذ الآن في أمريكا، هذا له دلالة إذن، وبحمد الله بالخطاب المتميّز الروحاني الذي يعبّر عن جوهر الإسلام بما فيه من أخوّة، ومن حبّ، ومن سلام، ويُخاطب الإنسان أنّى كان؛ مهما كانت ثقافته، مهما كانت لغته، مهما كانت جهته.. هذا الخطاب العالمي الحق الذي غير متأثّر بالظروف النفسية والاجتماعية التي تقع للعالَم العربي والإسلامي.. في العالَم العربي عندنا هنالك مشكلة أن كثيرًا من الدعاة متأثّرون بما يقع عليهم من مظالم، نعم حقيقة هي مظالم كثيرة وشديدة، لكن ردّ الفعل فيه روح الانتقام.. ولكن الداعي إلى الله جلّ وعلا إذا لم يستطع أن يتخلص من روح الانتقام، سيبقى جُزئيًّا، لن يكون أبدًا كُليًّا.. ودعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تميّزت بهذا، فهو قُدْوتنا الأوّل، حينما كان ينزل الوحي على رسول الله بمكّة وهم مضطهدون، مغلوبون على أمرهم، تُقَطَّع أوصالُهم، يُقتَّلون، يصلَّبون، كما هو معروف في السيرة النبوية، قال لهم الله جل وعلا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ)(النِّسَاء:77).. وهذا المنهج الذي يقوم عليه الأستاذ فتح الله كولن كأنّي به يستجيب لهذه الآية العظيمة التي تربّي الإنسان وتُعطيه طاقةً عاليةً جدًّا، كيف تستطيع أن تكون تحت الظروف الظالمة المظْلِمة، تُضْرَب ولكن في نفس الوقت لا تستجيب للاسْتفزاز، بل تَبْني.. هذا لا يكون لإنسان عاديّ يا أخي الكريم.. إنه صعبٌ، صعبٌ جدًّا أن يستطيع الإنسان أن يَكْظِم عيظَه، وأن لا يستجيب للاستفزاز.. فحينما نجد شخصًا وجماعةً تفعل هذا، فمعنى ذلك -كما ذكرتُ وأُكرّر- أن هذا الأمر غير بَشَري، هذا الأمر فيه إلْهام بما علِم الله جلَ وعلا من الإخلاص في قلْب الرّجل.. ولو لم يكن مُخْلِصًا لَما جاءَه هذا السنَد وهذا السداد وهذا الرشاد.. لأن هذه نعمة يُعْطيها الله جلّ وعلا لمن أحبّ، وقدْ أحبّ رسولَه وأصحابَه من قبلُ فأعطاهم هذا المدَد وهذه القوّة العظيمة.. قوّة حقيقة، قوة تستطيع أن تضبط نفسك وتستطيع أن تكون كما جاء في الحديث: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد مَن يملك نفسَه عند الغضب»”.. هذا المعنى العظيم هو الذي يمثل الإنسان الحضاري الراقي الذي يستطيع أن يخاطب العالَم الآن، ولذلك لن يكون العالَم العربي وحدَه في حاجة إلى هذا الخطاب، بل الكُرَة الأرضية كلُّها عرَبُها وعجَمُها، والله أعلم..
اللقاء مع الأستاذ فتح الله كولن
سؤال أخير.. لو دخل الأستاذ الآن من هذا الباب ورأيتَه ماثلاً أمامك ماذا كنتَ ستقول له؟
في الحقيقة ربما لن أستطيع أن أتكلّم، ربّما أقوم بفعل وليس بكلام، وأنا تخيّلتُ هذا في نفسي.. عندي شوقٌ كبير في أن أُعانقه، ولكن أنا أعلم أنه في الحقيقة ما يَنبغي أن يُعانَق، ينبغي أن تُقَبَّل يدُه، ولكن هكذا أنا، لي شوق كبير في أن يَلتصق صدري بصدره، وأن أُحسّ نبضات قلبه تدقّ على نبضات قلبي، عسى أن أَقْبِس من ذلك السرّ الذي عنده.. فلوْ يأذن لي في هذا فعلاً سأكون محظوظًا جدًّا، مع أنه ليس من الأدَب أن يعانق شخصٌ مثلي مثلَه، وإنما الأدَب أن تُقَبَّل يدُه..
أما الكلام فلا يمكن أبدًا أن تكون هنالك جملة تُعبّر عن لقاء هذا الرجل، وإنّني أدعو في نفسي وفي خلْوتي بأن لا يحرمني الله جلّ وعلا لقاءه، لأن لقاءه بالنسبة لي فيه معنى خاص.. فإذا صدَق اللقاء وحصل، فمعنى ذلك أنّني نجحتُ في الذي أفكّر فيه.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الهوامش
*جرت هذه المحادثة الودية بين الأستاذ المرحوم فريد الأنصاري والأستاذ نوزاد صواش في أغسطس 2006م في إسطنبول. نتقاسمها مع القراء الأفاضل.