للكاتب العربي والإسلامي، الدور الكبير في الاستعانة بالتاريخ الإسلامي بكل رموزه الثورية والأخلاقية التي ارتبطت بالأغلبية العظمي من الناس. وبمضي الزمن وبرغم التطور الواضح في خطط الإخراج أو أجهزة التكنولوجيا الحديثة، ومدارس التمثيل التي ارتقت بأداء الممثل نحو الأفضل، إلا أن مسرحنا العربي -رغم نجاحه وتألقه في أواسط الستينات والسبعينات- أخذ يتراجع ويغرق في التنظير الإخراجي، والمذاهب المسرحية العديدة والبعيدة عن مجتمعنا العربي والإسلامي؛ كاستخدام الأسطورة والميثولوجيا اليونانية بدون وعي، ووصل الحد ببعض المسرحيين إلى اللجوء لعدة طرق ميتافيزيقية لا ترتبط بأي علم من علوم المسرح، ليقفزوا فوق تقاليدنا وعادتنا وتراثنا بعروض مسرحية هابظة.. وعمد الكثير منهم إلى إشاعة المفاهيم المتخلفة، والهزء من قيمنا ومبادئنا وتقاليدنا التي ورثناها عن الأجداد، ودعوا إلى تقليد الغرب في المسلك والملبس دون الجوهر والعلم، وبث النكات البعيدة عن الذوق والحشمة والمنطق، مستجدين الضحك والتسلية الساذجة الفارغة من أي مضمون، همهم الربح المادي، وغايتهم جيب الإنسان لا عقله.
المسرح الهوية
منذ أكثر من قرن وما زال مسرحنا العربي لم يؤسس له تقاليد مسرحية خاصة به، أو يجد له هوية واضحة المعالم ضمن المدارس المسرحية العالمية، بل وساهم -بقصد أو بغير قصد- في إنجاب مسرح هجين يدعوه “المسرح التجاري” الذي لا يهتم بتربية الأجيال، ولا بالخلق القويم، ولا تاريخ الأمة ومستقبلها.
لذا فقد آن الأوان لإيجاد البديل النموذجي، الذي يستطيع استيعاب روح العصر بقدرة ووعي قائم على عقيدة ذهنية عالية، تتسم بالتوجه الإسلامي للمسرح الذي يرتبط بالتجربة الإنسانية المميزة والملتزمة، دون فقدان هويته واستقلاليته، سواء في التعبير أو الهدف أو الشكل الفني العام، لأن منطق العصر وروح الحضارة والوعي المتزايد في المجتمع، يطالبنا كمثقفين وأدباء وفنانين، أن نولي هذا المسرح الأهمية.
مسرح التعليم الأخلاقي
إن المسرح الذي ننشده اليوم ونسعى لأن نراه غدًا، هو المسرح الذي يستنبط من التاريخ الإسلامي أقدس وأنبل وأعظم ما فيه من قيم ومبادئ ومآثر تربوية وأخلاقية، تبني الإنسان المسلم، وتشده إلى أخيه المسلم في أي قِطر أو بقعة في العالم، ليحاور ويتعاون مع الآخرين، محاولاً البحث دومًا عن أشكال جديدة، مفسرًا الأحداث والمواقف والمعضلات الكونية، بعيدًا عن الابتذال والتهريج، ساعيًا إلى التغيير الذي يخدم الإنسان ويحصن الجيل الناشئ ويرتقي به، ويسموا بقدراته العقلية، وتطويع قواه الجبارة لخدمة المجتمع الإسلامي الذي يعاني من ثغرات في موكب مسيرة أجياله.. وقوانين المسرح بإمكانها أن تحول تلك التعاليم الأخلاقية، من كلمات صامتة إلى صورة حية مؤثرة.
إن المسرح الإسلامي ينطلق متوهجًا من كنز روحي ثمين هو القرآن الكريم، وما فيه من قصص وحكم وملاحم شعرية، ومآثر وأحاديث الرسول والصحابة الكرام، والقادة المسلمين وجندهم، ومواقفهم الرجولية والمبدئية الرائعة، سواء في نشر مبادئ الإسلام السمحة، أو في نكران الذات واحترام الإنسان، وعلو قيمة المبادئ وتقديس العلم والمعرفة. إن تاريخ الإسلام مليء بالمواقف العظيمة، سواء في تحقيق العدالة الاجتماعية واحترام حرية الفرد والجماعة والشورى في الحكم، أو في الاستشهاد والأمانة وتقديس العهد والميثاق، أو في التسامح الإنساني واحترام الأديان الأخرى وتبادل الحوار معها لما فيه الخير للجميع.. ولا أحد ينكر دور الحضارة الإسلامية في الغرب.
هويتنا في المسرح
إن مسرحنا الإسلامي الذي ننشده، مطالب بأن يسل من بطون كتب التاريخ والسيرة أعظم الرجال والمسلمين، الذين أبدعوا في شتى الفنون والمعارف، وأن يغرف من التراث أجمل وأروع وأندر ما فيه من حكايات مأثورة وطريفة.
ومن مجتمعنا الإسلامي المعاصر شذرات مضيئة في التربية والعلم والشجاعة والأخلاق والمآثر الأخرى، لذا فلا بد من إيجاد كتاب مسرح مسلمين. فلقد فشل منظروا المسرح العربي في إيجاد ملامح خاصة لمسرح عربي، لأنهم -ببساطة- قلدوا الغرب واستنسخوا ما فيه من مذاهب ومدارس فنية طيلة عشرات السنين، ورغم الدعوة للعودة إلى التراث، إلا أنهم ألبسوه رداء غربيًّا وغريبًا عنه، فظل تائهًا لا يعرف الطريق، لأن في الرداء قلنسوة عصبت عينيه ففقد بريقها، ولم يعد يتلمس طريقه إلا بإرشاد من ألبسوه الرداء.
إن ما يؤسف له جدًّا، هو اتجاه البعض إلى تقليد ما ورثناه من الآخر من تجارب مسرحية، بفعل دراستهم وتخصصهم وانقطاعهم عن المجتمع العربي والإسلامي، وفقرهم الثقافي وعجزهم عن الغوص في المجتمع وتاريخه، فبقوا يراوحون في دائرة التقليد الأعمي للمبدعين في الغرب، ويطلقون تسميات غريبة لما يدعونه من مسرح مستغلين جهل الجمهور وبعض أصحاب الرأي والقرار بما يعرضون.
والمؤسف أيضًا؛ أن تقام مهرجانات محلية أو عربية وكل نصوصها لكتاب أجانب عالجوا مواضع تخص مجتمعهم، يحللون ويحذفون ما شاء لهم بحجة التعريب، لمنح العرض المسرحي صيغة محلية أو عربية، متناسين أن لكل نص مسرحي نكهة ومعنى خاصًّا به، والأفضل لو عرض كما هو.. ومن المحزن أن يقوم بعض المخرجين بتقليد ما شاهدوه من مسرحيات أجنبية، وينقلوه حرفيًّا إلى بلدانهم، مما يؤدي إلى فقدان هذا المخرج مصداقيته.
المضامين الجادة للمسرح
المسرح الإسلامي منبه ومرشد للمسؤولين ورجال الفكر والأدب والتربية، إلى اتخاذ الحكمة والموعظة الطيبة والتسامح والصدق في تشبيه أمور الناس بعدل ومساواة، واتخاد السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ومن تبعهم، دليلاً ومنارًا.
لقد آن الأوان أن يبرز إلى الساحة العالمية ويتوهج بقوة نور المسرح الإسلامي، وتدوي صرخته الدافئة والمليئة ثقافة وفكرًا؛ لأنه الوحيد المؤهل لقيادة الحركة الفنية التي بإمكانها النهوض بالإنسان إلى مستوى يليق به كبشر أعزه الله عز وجل بالعقل دون سائر المخلوقات، لنتجاوز الرؤية المتخلفة عند البعض لهذا الميدان الذي لمسنا مشاهد منه في صدر الإسلام عبر الدعوة الإسلامية، أو في معارك الجهاد، أو في الفتح الإسلامي، أو في العصور الأموية والعباسية والأندلسية، أو في العشق والزهد والحب العذري.. ليكون أداة تنوير في العقول ولنلحق بالركب الحضاري للإنسانية.
إن مسرحنا الإسلامي يتفرد ويتميز باستقراء احتياجات العصر والواقع، مستلهمًا من النهج والتاريخ الإسلامي تصورًا واضحًا للعالم في الحاضر والمستقبل، دون أن ينسى معالجة السلبيات الدخيلة على المجتمع المسلم، والتي لامست العديد من الأفراد فتأثروا بها. لذا فلا بد من تطهيرهم بدراما الكلمات والصور المسرحية التي تنبض بأحاسيس نبيلة، لتذوب صخور الشر والحقد والحسد والكذب والسرقة.
وقد استطاع الصحابة رضي الله عنهم أن ينقلوا انفعالاتهم بأدوات فنية ذات ارتباط وثيق بهذا الاتجاه، فكان تداعي المعاني أسلوبًا عملت الحكاية والقصة والصورة على إخراجه وتجسيده، ومتى ما جعلنا الصدق الفني رديفًا للصدق الخلقي في السلوك والالتزام والعرض المسرحي، كفلنا له عمق الأثر وقوة التأثير وشدة الاستجابة والتأثر لدى المشاهد.
كيف ندخل المسرح في منظومة التوجيه؟
إن العمل من أجل نشر قيم أو مبادئ الإسلام، وتعميق جذوره في النفوس لبناء جيل واع لرسالته في الدنيا، ليس واقفًا على علماء الدين وحدهم، أو على من اتخذ من الدين ستارًا يكسب من ورائه منافع وغايات دنيوية أو إعلامية، أو غيرها من أطماع ومكاسب زائلة كالسراب، أو كلمات وعظ ملت لكثرة ما قيلت.. بقدر ما هو ثورة ورسالة تنطلق من العقل والوجدان، يحملها رجل الدين الصالح مع الفنان المسرحي المسلم والملتزم، ليهذبا الأجيال ويربيا النشء والفتيات، وينصحا الشباب، ويحاورا الكبار، ويناظرا المسؤولين في أقصر الطرق وأصلحها؛ لبناء المجتمع المتكامل الذي ينشد الرقي والسعادة والحضارة.
إن ريح الأفكار الجديدة والمناهج العلمية والفنية، تطرق أبوابنا بعنف وقوة، سواء رضينا أم لم نرض فهي داخلة بيوتنا رغم إرادتنا، لذا فلا يجوز أن نظل متفرجين ومستسلمين، أو رافضين بتزمت بقدر ما نستفيد ونفيد، ونطوع هذه الريح لاقتلاع الأفكار اليابسة والمستوردة والغريبة، التي أصبحت أشواكًا تسد الطريق نحو سعادة الإنسان المسلم، لأن الفعل ليس لتقنية السلاح بقدر ما هو لمهارة ودقة وشجاعة اليد التي تحمل السلاح، وللعقل الذي يتحكم فيه.. إن المسرح يجتذب الشباب رجالاً ونساء، سواء متفرجين أو طلبة علم.
ماذا نجنيه من المسرح؟
أصبح لا مصدر رزق فحسب أو شهادات جامعية تمنح باسمه لأعلى المستويات، بل لأن شخصية الفرد تكتمل فيه؛ فالمسرح يعلم الخطابة والجرأة وسهولة اللفظ والقدرة على الإلقاء الشعري والموعظة الدينية وسرعة البديهة، ويحل عقد اللسان ويذيب الخوف في قلب الإنسان، عبر مواجهة مئات وآلاف الناس برباطة جأش وجهًا لوجه.. بل ويؤثر فيهم بالحركة والانفعال والصوت الجهوري أو الشجي واللون والموسيقي.
إن المسرح يحوي كل المعارف الإنسانية، وهو موسوعة أدبية وفنية وفكرية، لذا وقبل أن يدركنا الوقت أو تعمي أبصارنا عاصفة المسارح المختلفة، أو تخفي عيوننا في الرمال، يجب -وبشجاعة- أن نحطم زاوية النظر الأحادية القائمة على رواسب الماضي، والتي تحمل الجانب السلبي بدلاً من السيطرة على قدراته الخلاقة وتطويعه لأفكار الخير، كونه الأداة الأكثر تأثيرًا في الناس، وكونه المنبر الخطابي الذي يحمل صورًا مؤثرة مع الكلمات لتصحيح ما علق من تشويهات في تاريخنا الإسلامي، مؤمنين بأن ما ساد بعض دولنا ومجتمعاتنا الإسلامية من معارك يندي لها الجبين، مرده إلى أن البعض لا يسمع رأي الجانب الآخر، بل وفتحوا الآذان والصدور للرأي الأجنبي الدخيل أن يتحكم فيهم بفعل عوامل معروفة وواضحة.. وكانت الكارثة حيث شلوا عن عمد قدرة وإبداع وموهبة الفكر والمثقف والفنان الإسلامي، وخنقوا كلماته التي تنبض صدقًا وتنشد حقًّا، والتي بإمكان خشبة المسرح أن توصلها لكل من يهمهم ويعنيهم الأمر ببساطة ووضوح، دون انفعال أو صراخ.
إننا جميعًا كتاب مسرح، وشعراء، وصحافيون، وأدباء، وكل من يهمه الإنسان والكلمة والثقافة، مدعو لتبنّي بناء المسرح الإسلامي في كل الأقطار العربية والإسلامية، الذي يمتلك خصوصية المنهج، وثراء الفكر، وعلو المبادئ، والسمو الأخلاقي، كرسالة تبدأ بتربية ذوق المسلم تربية جمالية مهذبة، وتنتهي بتشكيل عقله ووجدانه تشكيلاً موافقًا للعقيدة الإسلامية في شمول تصورها وإيجابيته وواقعيته، متفتحًا باتجاه كل ما هو خير ومفيد، من شأنه أن يعلو بالإنسان كأفضل كائن خلقه الله وأعزه على سائر المخلوقات في الأرض.
(*) كاتب وباحث مصري.