خلق الإنسان ليبحث عن المعنى، ومن دون شك، إن إنسان اليوم أعياه البحث المضني عن هذا المعنى، فوفق مستريحا في باحة اللامعنى. فاللامعنى هو البديل الوجودي، والعزاء الوحيد والمعادل الموضوعي لهذا الإنسان المبلبل.
فرغم التقدم العلمي والتكنولوجي الكبيرين اللذين حققا رفاهية البشرية في شقها المادي بالخصوص، فإن هذا التقدم فشل في شق أخر، لا يقل أهمية عن الأول إن لم نقل هو الأهم، حيث جعل هاته البشرية تعاني اليوم أزمة عميقة،هي أزمة ” غياب المعنى” ،فالكائن الإنساني ليس شيئا واحداً، بل أشياء أخرى كثيرة ومتعددة! منها المعلوم وكثير منها مجهول..، لذلك نقول إن الإنسان اليوم في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى، إلى ما يسمى”بالعلاج بالمعنى”، وممارسة “رياضة التأويل” بغاية إزالة الكثير من الزوائد الفكرية التي تحتل عقله قسرا وتسكن وعيه قهرا، وتسببت له في أزمات مزمنة،وجعلت حياته بالمعنى،و “الإنسان الذي يعتبر حياته بلا معنى ليس مجرد إنسان غير سعيد، ولكنه يكاد لا يصلح للحياة” كما ذهب انشتاين. إن الإنسان في تطلع دائم إلى تحقيق معنى يجعل حياته تستحق أن تعاش.
الإنسان معنى، بمعنى من المعاني
لقد ظهرت حالات مرضية كثيرة ومتعددة بسبب تفشمدحي هذا “الوباء” بين الناس، وباء فقدان المعنى، أمراض ثقافية ونفسية وفكرية، فجاء مضاد حيوي جديد للعلاج أسمه “العلاج بالمعنى ” Logotherapy” كنوع من أنواع العلاج النفسي والثقافي والفكري. وهو علاج ارتبط بالنمساوي فيكتور ايميل فرانكل الذي يعد رمزا لأهم حركة في علم النفس المعاصر: ما يُعرفُ بالعلاج الوجودي الفلسفي، أحد كبرى علائق البحث الابستيمولوجي الفلسفي في التحليل النفسي الوجودي.
إن الإنسان لا يستطيع العيش إلا إذا عرف أن لحياته معنى،فهو لا يتعامل مع الأشياء باعتبارها ما هي عليه لكن يتعامل معها من خلال ما تعنيه بالنسبة إليه،بمعنى إن الأشياء لا “شيء” من دون تدخل الذات العانية،فهي شيء له معنى بوجود ذات عانية.ذات تملأ الأشياء بالمعنى.وهي شي عديم المعنى بعدم وجود ذات عانية.إن الأشياء لا تحمل معانيها على ظهرها.فالأشياء نفهمها من خلال ما نهبها من معنى، ومن خلال ما فهمناه منها وليس بما هي عليه فعلا. فالأشياء أحادية في وجودها متعددة في معانيها ودلالاتها. فارغة إلا من حضورها المادي، لكنَّها في الآن نفسه متعدِّدة كما هي في إدراك البشر، ولهذا يصبح الشيء الواحد كثيرا ومتعددا، ويصير العالم أكثر ممَّا هو في الأصل. بهذا تتعدّد المعاني بتعدد النظر، فيصبح الاختلاف سيِّد الأشياء، ويضيعُ المعنى بلا عودة بسبب هذه الكوميديا الموجعة:الكلُّ واحد، والواحد جمعٌ لا نهائي.
من هنا تتعدد معاني الموجودات بتعدد رؤية الإنسان إليها، فــ”الشمس جديدة كل يوم” كما قال هيراقليطس، لأنَّها تكتسبُ كلَّ يوم معنى جديدًا باعتبارها موضوعا مُدرَكًا من طرف النَّاس. والقصدُ هنا هو أنَّ الأشياء موجودة في العالم، لكنَّها فارغة من المعنى، لأنَّها مندرجة في نظام الطبيعة، لكنَّها تأخذ معناها مما يراها عليه الإنسان، وهذا الأخير ينسى أنَّه مختلق المعاني، وأنَّه بشكلٍ ما مختلق الموجوداتِ أيضا.إن الأشياء لا تصبح ذات معنى إلا حين تفهم الإنسان لها.وعلى هذا الأساس فالتأويل يسلم بوجود مادة سابقة على الفعل التأويلي،ذاته،ولكنها مادة لا يمكن لها أن تصبح دالة إلا ضمن سيرورة تأويلية،وبعبارة أخرى، فإن الموضوع “مستهدف” بوعي هو ذاته لا يمكن أن يوجد إلا من خلال تجسده في موضوع”.
إن فعل البحث عن المعنى ليس بالفعل الطارئ على الإنسان،ولا بالفعل الكمالي،وإنما هو فعل متأصل عنده،داخل في كينونته،خاصة وأن مسألة الشفافية في المعنى هي حالات استثنائية،ومن لم يمارس هذا الفعل لم ينفصل بعد” عن الكائنات اللحظية التي لا يلعب الزمن في حياتها أي دور، فهي بلا ذاكرة،لا ماضي عندها ولا حاضر،لذلك لا نستعيد من خلال النشاط التأويلي معنى فقط، بل نبعث الحياة من رمادها ونستعيدها كما تم تثبيتها في نواة دلالية خفية لا يمكن إدراك سرها إلا من خلال نشاط تأويلي لا تغريه واجهات النصوص.
ولاشك في أن الإنسان “دليل وخالق للدلائل” ولا يعيش إلا بالتدليل، وقد تمكن من حيازة هذه الصفات منذ “أن تحرر من انبهاره أمام الأشياء واضعا لها تسميات،أي منذ أن انصرف إلى إنشاء الدلالة واكتشفاها مضيفا إياها على الأشياء الطبيعية والأشياء الثقافية وعلى ما وراء الأشياء”.أي أنه كانت حرية الإنسان مقرونة بالتمكين الإلهي له المتعلق بالقدرة على التسمية”وعلم آدم الأسماء كلها”. إن خلق الدلائل وتسمية الأشياء هي عمليات تأويلية بالدرجة الأولى، فالتسمية تأويل في المبتدأ والخبر.
هل الإنسان يعرف معناه حتى يمنح المعنى لغيره؟
لكن هل بالإمكان للإنسان أن يمنح للأشياء معنى والحال أنه هو ذاته لا يدرك معنى ذاته؟ هل بالإمكان أن يمنح المعنى من لا يعرف معناه؟
إن الإنسان لا يقدر أن يمنح معنى لحياة لا تملك معنى بشكل مسبق لأنه بكل بساطة لا يدرك معناه هو أصلا. وبالتالي فسلطته في وهب المعنى هي سلطة تقديرية فقط،سلطة تظل حاملة في أحكامها النسبية والاحتمال والاختلاف. في هذا المقام يجوز لنا أن نطرح أشد الأسئلة هولا: أي معنى لحياة بشرية بلا معنى طالما أن الإنسان هو الذي يفضي الى تشكل كل ما له علاقة بالمعنى؟.
ومادام الأمر كذلك، فالمعنى ليس على صواب كما نزعم، فهو شيء ناقص وغير منته، فحقيقة الأشياء لن يقدر الإنسان الإمساك بها كما هي، وسيعيش بما يفرضه عليها من معان ودلالات إلى أجل غير مسمى. وسيظل الإنسان يعيش غربته غير ضابط حتى موقع تواجده وهو يعيش فوق هذه الذرة الصغيرة الزرقاء الباهتة التي تقدر بحبة غبار سابحة في محيط الأكوان الشاسع. فما كوكب الأرض سوى أحد العوالم الكائنة بين عدد ضخم لا يعد ولا يحصى من العوالم الأخرى.
إننا نعيش على كوكب صغير محدود التخوم،وبمحدوديته تكون معرفتنا محدودة.فنحن نعرف في حدود ما يوفره لنا من قدرات للفهم والمعرفة. إن مملكة المعاني ما هي إلا مملكة الاستعارات والأخطاء. ومن هنا يأتي الإيمان بالاختلاف باعتباره الوسيلة الوحيدة لإقامة صلح، ولو مؤقتٍ، بين كل هاته الرؤى التي تدبُّ دبيب النمل في أذهان البشر.
إن الإنسان لا أستطيع أن يكون خالقا للمعنى إلا حين تحرره من سلطة تفكر بالنيابة عنه،وانتقاله من التفكير بالوكالة إلى التفكير بالأصالة،إن وجود مرجعيات “صناديق سوداء”تحكم التفكير وتحصره في زوايا ضيقة محددة الإحداثيات ودرجات الانفراج والضيق هو من معوقات إنتاج المعنى،وبالمقابل من دواعي الشعور بغياب معنى ذلك الكم الوفير من الأفكار المتوارثة التي نأكلها أكلا لما و “نحبها” حبا جما.
فالأفكار لا يكون لها معنى إلا إذا أنتجتها الذات المفكرة من خلال تجربتها الخاصة،فالتجربة شرط من شروط إضفاء معنى على الأفكار.والتجربة شرط من شروط الفهم.وبهذا المعنى فإن جملة من الأفكار الواردة علينا منذ عصر التدوين كما سماه محمد عابد الجابري تبقى غير ذات معنى إن لم نستدمجها في بنيتنا المعرفية الراهنة ونخضعها لمنطقنا في الفهم..
فلكل عصر معناه، ومن العنف الرمزي أن تجعل معنى ما صالحا لكل زمان ومكان،وقادرا عن الإجابة عن كل الأسئلة المتولدة من قضايا العصور ومستجداتها.لن يكون ذلك، في نظرنا، إلا بالقهر الإقصاء.وذلك بالنظر لقيمة مجال إنتاج المعاني،فهو في العديد من الدول الشمولية هو مجال سيادة،تحتكره لنفسها،حتى تنتج من المعاني ما يتلاءم مع نظامها الايديولوجي والديني والثقافي. وحتى لا يشب عمرو عن الطوق ويستطيع تحقيق الاستقلال الذاتي في إنتاج المعاني،والخروج من طوق التسليم بحقيقة الواحدة الثابتة والأزلية.
ولا شك أن الذات العربية،تعاني الكثير من الويلات نتيجة هذا الداء ،بل لقد وصل بها داء “غياب المعنى” إلى مراحله المتقدمة،فهي قامت بتصنيم الكثير من المعاني بواسطة عنعنات مختلفة لسلسة من الشخصيات التي اكتست صبغة الاكبرية والبطولية وشكلت الأنا الأعلى واللاوعي التاريخي الجمعي والذاكرة والتمثلات الجماعيتين لذات الإنسان العربي وادعى كل واحد من تلك الشخصيات امتلاكه الحقيقة التي لا تقبل استئناف الفهم وتمثيله الدين القويم والفرقة الناجية، وتمثيله الخلاص الفردي والجماعي.