ثمة علاقة جدلية بين الموروث الشعبي والتاريخ، فالموروث الشعبي مادة من مواد التدوين التاريخي التي تساعد في تفسير وفهم الظواهر التاريخية والجغرافية والاجتماعية. وبدوره، يشترك التاريخ مع ذلك الموروث في ثلاث: الناس، المكان، الزمان.
فقديمًا وحديثًا ارتبط المصريون بالنيل ارتباطًا وثيقًا، وجمعتهم به علاقة عجيبة؛ فهو شريان حياتهم، وصانع حضارتهم، ومحور ثقافتهم، وعنوان شخصياتهم، وترنيمة أدبهم.. الشفاهي والكتابي، التقليدي والشعبي. فإذا غاض أو جف نبعه زحف الموت، وأرخي سدوله على هذه الجوانب جميعها، لذا كانت مقولة المؤرخ “هيرودوت” الشهيرة: “مصر هبة النيل”. والنيل ليس نهراً تسري به الحياة فى مصر، فيرتوي منه البشر والشجر، والحيوان والطير. لكنه صنع حضارة، وصاغ ثقافة. فهو لحن أساس فى معزوفة الحضارة المصرية، متن أغلب الأنشطة البشرية، و”عمدة” المخيلة، والمرويات العقائدية والشعبية.
ويرجع هذا الاهـتـمـام بـالـنـيل إلى أن جـمـيع من سَـكَنَ مـصـر أو خـالط أهــلـهـا أو زارها أو جاورها يـعـلـم تـمـام الـعـلم أن الــنـيل هـو السبب الرئيس فى ثراء مصر ورخائـها. وأنه الركيزة الأولى التى قامت عليها حـضـارتهـا المبكرة تـلك الحضارة الـنبـيلـة الراقيـة منـذ آلاف السـنين والـتى كـان لـهـا الـفـضـل عـلى الـعـالم كـله حـيث نـهل أبـنـاؤه من وادي النيل مبادئ هذه الحضارة والعمران يوم لم يكن حضارة ولا عمران إلا ما نشأ ونما فى أحضان هذا الوادي الخصيب. لذا فـ”ظاهرة النيل” تمثل “إطاراً حاكماً” لشكل وتفاصيل الثقافة الشعبية المصرية. فهو “بطلها”، وعلامتها “الأم”. فله فى نفوس المصريين مكانة عالية، وله فى الأدب الشعبي نقوش عميقة، وأصداء بعيدة. فبجريانه نشأت واحدة من أقدم “الحضارات الزراعية”. فكان المصري القديم يحرث الأرض، ويبذر الحَب، وينتظر حصته من مياه الري، ويترقب الحصد، ويدفع المُكس، ويطحن الغلال، ويصنع “رغيف العيش”، فيتناوله، ويحفظه، ويتبادله “كنقود، و أجر” مقابل عمل.
وللنيل أثره فى اللغة الشعبية، فسكان المناطق النيلية الخصيبة يستمدون مفرداتهم من الزرع، والخصب والظلال والورود. كما أفاض المصري في المفردات التي تصف النيل، فهو: البحر، والنهر، والنيل، والترعة، والقناية، والفحل، والفيضان، والسد الخ. وفى مائه العذب لحم طرى من البلطى، والبنى، والقراميط. وعلى شطآنه يحتفلون بالوفاء، وشم النسيم. وفيه تسجن “الجنيات”، وينجذب إليه المسحورن، وتنتشر عادة “رش المية”. وإذا تخاصم المصري: “شرب من البحر”، وإذا فرح فسعادته “أربعة وعشرون قيراطاً”. كما نمت على ضفافه حرف، وصناعات منها: صناعة الطوب، والمعداوى، والسقاية، والمعمارجية (صناعة السواقى وإصلاحها).
الفاروق “عمر” رضي الله عنه ووفاء النيل
كان الفراعنة قد خصصوا للنيل (الإله حابى) “رمز الخصوبة”، ومن أجله كان المصري القديم يقدم القرابين سنويًّا فى موعد الفيضان (15 أغسطس) تزامنا مع بدء السنة المائية بداية أغسطس. وحول هذا التقديس والعلاقة الفريدة، اشتهرت قصص مستوحاة من هذا الواقع كحكاية “عروس النيل” الذي توقع الكثيرون صحتها بأن المصري القديم كان يقدم للنيل فتاة بكراً كى ينعم عليهم النيل كل عام بالماء الوفير. وحكى المؤرخون كما في كتاب “النجوم الزاهرة” لابن تغري بردي، أنه لما ولي عمرو بن العاص مصر أتاه أهلها حين دخل بؤونة من أشهر القبط فقالوا له؛ إن لنيلنا عادة وسنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان في اثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من عند أبويها، وأرضينا أبويها واخذناها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل فيجري، فقال لهم عمرو بن العاص: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرَى لا يجري النيل قليلًا ولا كثيرًا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى أمير المؤمنين، فأجابه عمر: “قد أصبت؛ إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي”. فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها: “من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قِبَلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك!”، فعرفهم عمرو بهذا الكتاب وبالبطاقة، ثم ألقى البطاقة في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم؛ وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقيم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ست عشرة ذراعًا في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة القبيحة عن أهل مصر.
يقول العالم الأثري الأستاذ “سليم حسن” أن ما قيل عن الوثيقة التي بعث بها عمر بن الخطاب فألقيت في النيل ليفيض، لا يزيد، إن صح، على أنه كان مجاراة من الخليفة للمصريين في عادة لهم لا ضرر من مجاراتهم فيها. فقد كان من عادة الكهنة المصريين، ومن عادة بعض ملوكهم، أن يقيموا لإله النيل احتفالًا في بدء الانقلاب الصيفي يقربون فيه للإله ثورًا وإِوَزَّة وقرابين أخرى من الخبز وغيره ثم يلقون في النيل وثيقة مختومة من ورق البردي مخطوطًا عليها أمر للنيل أن يجري في فيضان معتدل يكفل للبلاد الخير والرخاء. وكان هذا الاحتفال يقام في اليوم الذي تصل فيه مياه النيل الصيفية قادمة من أسوان إلى بلدة السلسلة، مبشرة بفيضان عظيم، والظاهر أن المسيحية عفَّتْ على القرابين فلم تكن تُقَدَّم في عهد الرومان المسيحيين؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون للنيل إلهًا، ثم بقيت الوثيقة تُلقى في النيل ليجري فيضانه فتعم البلاد خيراته، فلما دخل المسلمون مصر كانت الوثيقة الإسلامية الأولى هي هذه التي يعزوها المؤرخون إلى عمر بن الخطاب، والتي يأمر النيل فيها بأن يجري كما كان يأمره الأمير الروماني في العهد المسيحي، وكما كان يأمره الكهنة وبعض الملوك في عهد الفراعنة.
في المراثي والحكايات
كما يتغلغل النيل فى المراثي الشعبية في صور غنائية لها دلالاتها في الوجدان الشعبي. وبخاصة أن الموت، الحزن، الرثاء، الفقد..الخ، جوانب تضرب بجذورها العميقة في الشخصية الشعبية المصرية. كما ارتبط بالموالد الشعبية.. قديماً وحديثاً. فبعض الموالد يُحتفل بها يوم 16 يونيو، وهو يوم نزلت فيه دموع “إيزيس” فى “نهر أوزوريس” (أى النيل)، فحفرته.
ومن أمثلة “الحكايات الشعبية” التي نسجت حوله، حكاية “صندل مع ورد”. وفيها يغذ “الشاطر حسن” السير حتى تدمى قدماه. فيجلس تحت شجرة، والشجرة تحتها نهر أحمر بلون الدم، يصد الوارد عنه الثعبان فيقتل الثعبان وتصفو المياه وتشرب الطيور والناس. وهذا يذكر بما جاء فى أساطير مصرية من أن “أباتون” قد تمثله الكهنة جبلاً به كهف غائر، يقر فيه “أوزوريس” على هيئة النيل ويحرسه ثعبان. ومن الحكايات الخرافية: حكاية “الجنية والمسحور”، وحكايات عن “نوم النيل” كالإنسان لثوان أو دقائق.
وفى الـسيَّـر والملاحم العـربـية الـتى أخذها الشـعب المصري كـما يأخذ الـفـنـان مـوضـوعا بـارزاً من موضوعات الـتاريخ أو واقعة عظيمة من وقائع الأبطال ويلائم بينها وبين مطالب حياته الوجدانية وخير مثال على ذلك سيرة (سيف بن ذي يزن) والسيرة الهلالية (سيرة بني هلال) وتردد فيهما كثيرا صفات بارزة مكتسبة من النيل. وكذلك عوالم مائية أسطورية بالنسبة لعالم السير. وفي “سرد النيل” أرتبط كل تغير أصابه -باعتباره مركز الثقافة الشعبية- بتغير فى المرويات المرتبطة به. ومن شواهد ذلك تلاشى سيرة “سيف بن ذى يزن” مقابل بقاء السيرة الهلالية فى الذاكرة الشعبية إلى الآن. وذلك لأن الأولى نُسجت علي منوال البحث عن منابع النيل واكتشافها، ولما أن اكتشفت منابعه، فقدت السيرة غايتها وهدفها. كما أدى النهر دوراً كبيراً في الروايات المصرية. وكان له دور اجتماعي وحياتي في بناء بعضها، مثل “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي، حيث لم يظهر النيل بشكله، ولكن كان له تأثير كبير في أحداث الرواية والفيلم السينمائي المأخوذ عنها، وشخصياتهم. وكذلك رواية “واحة الغروب” للأديب “بهاء طاهر” الذي تتبع رحلة “الإسكندر الأكبر” إلى جنوب مصر، وكأنها رحلة النيل في البحث عن البداية.
الأخبار والأغاني والأمثال الشعبية
هناك أخـبــار “أسـطـوريــة” تـعـكـس شــغف الـنـاس بتقصي أصــول ومـــنــابع الـــنــيل ومـــا جبل عليه الناس من حب الاستطلاع واستكشاف المجهول والذي يثير فيهم نوازع تدفع بهم إلى تعويض النقص الحاد فى مـعـارفهـم بالخـيـال المتـخم بـالخـرافات الــتى أدت إلى الــتـــشــويـش والارتــبـــاك فى تــصـــوراتــهـم. وقــد أشار “الـتلمـسانى” إلى ذلك بقوله: “وفى أصـل النيل أقوال للناس حتى ذهب بعضهم إلى أن مجـراه من جبال الثلج وهى بـجبل قـاف وأنـه يـخـتـرق الـبـحـر الأخضر المالح بقدرة الله تعالى إلي أنه يأتي على بحيرة الزنج، ويمر على معادن الذهب والياقوت والزمرد”(النواجي: حلبة الكميت ٢٩٦). وقـال قوم مبدؤه من جبل الـقـمـر وإنه ينبـع من اثنتي عشـرة عيـنا واختلف في سـبب زيـادته ونـقـصـانه فــقـال قـوم: لا يعلم ذلك إلا الـله عـز وجل وعده الـبـعض ” أحد عـجـائـب الـعالم إذ لا يـعـرف له مـنبع”، “ولم يعز أصله إلى مكان (ابن حوقل: صورة الأرض، ص١٧٣).
وللنيل إلهامه للشاعر الغنائي، والمطرب الشعبي. وكثرت وتنوعت المفردات الشعبية المستخدمة فى الأغاني والمواويل, كالفاظ البحر، والسقيا، والذبول، والطياب، والمرسى، والتيار، والموج، والإحياء/ والغياب، والمجئ الخ.
هجرتني يا زين وطال البحر
حرمتني نوم العشا والفجر
وإن هبهب الريح قلت لمركبي سيري
وأنا أصبر صبر الخشب تحت المناشيري.
ولقد استعان الفنان الشعبي بالنيل في التصوير والتعبير، واستمد من طبيعته اللفظ والمعنى، فمراكبه، ورياحه، وفلاحوه، وتياره، وأمواجه، وفيضانه، ونقصانه اشتركوا في تخطيط الصور وتوزيع ألوانها. كما كان وراء الفنان الشعبي عنائه ورقصه وتسليته بالفوازير. ومن أمثلة تأريخ أحدهم لبدء غرامه أثناء صيده البط على شط النيل يقول:
واجف على الشط باصطاد بط، وانا عايم
صادنى غزال زين خدوده حمر، ونعايم
من أصل عالى فى خير، ونعايم
وكيف أطوله وما بينى وبينه.. بعيد
جلبى غرق فى هواه يابا، وانا عايم.
ومن الأغانى الشعبية ما دار حول: الساقية، والشادوف، والمحراث والنورج، وغناء الفلاح لقطنه وفاكهته. وكذلك أغانى الحصاد وسمك النيل، والقلل التى تُملأ من النيل، وأيضا هناك مواويل الشكوى التى تُبث للنيل، ومنها:
بلد الحبايب بعيدة.. نوّحى يا عين، يا مين يجيب لى حبيبي، وياخد من عيونى عين
وياخد النص راخر، ويكفانى بقية العين، النيل هدف جرف، وأنا دمعى هدف جرفين
قسماً وبالله وصوم العمر يلزمنى، ما أفوت حبيبى، ولو أعدم بقية العين.
ويُنشد مُعبراً عن حبه للنيل.. ثروة مصر، والمصريين: كان ماشي على شط النيل، كان ماشي يغني المواويل، من قلبه يقول الآه، وكلامه نور قناديل.
وعديدة هي الأمثال الشعبية التي كان النيل منبعها، أو صيغت حول مفرداته كالمياه، والسُقيا، والسباحة، والمعدية، والعطش الخ. فمنها ما ارتبط بمائه: “يغرق فى شبر مية “، وأخري ارتبطت بمفردة البحر: “فلان يوعى على فحت البحر”، ثم ما هو متعلق بالمراكب: “المركب اللى تودى”، وتعبيرات تدور حول مفردة السمكة: “مقطّع السمكة وديلها”، وأخرى تتعلق به مباشرة: “إن سبقك جارك بالحرت، اسبقه بالمحاياة”، “إن جاك النيل طوفان خد ابنك تحت رجليك”، “اللي شايل قربة مخرومة تنز عليه”، “لا خير فى زاد ييجى مشحوط ولا نيل ييجى فى توت” (شهر توت الموازى لشهر سبتمبر) الخ.
لُب الثقافة الشعبية المصرية “ثقافة نيلية” صرفة. فنهر النيل، و”ثقافته، وفلكلوره” إطار حاكم لها، ومركز علاماتها. فثمة احتفاء شعبي كبير بالنهر. فهو شريان حياة نشأت على ضفتيه حرف وفنون وآداب، وتشكلت ثقافات، وتأصلت هويات.