الوقاية من الضرر قاعدة أساسية من قواعد الشرع الإسلامي، ويدخل في ذلك الوقاية من الآفات والأمراض، فحفظ الأنفس ضمانًا لاستمرار الحياة مقصد أساسي من مقاصد الشريعة وأحد ضرورياتها الخمس.
وعرّف البروفيسور ونسلو “Winslow” الطب الوقائي بأنه: “العلم المتعلق بمنع انتشار الأمراض الجرثومية والنفسية والعضوية لتحسين أداء الأفراد والمجتمعات”.
وقد شكّلت تعاليم الإسلام الصحية نظامًا متكاملاً للطب الوقائي يحفظ على الإنسان حياته وصحته، ويحث أتباعه على التداوي والتعرف على طبيعة المرض وبحث أسبابه وتداعياته، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء”.
أولاً: الأوبئة والعدوى في نصوص السنة النبوية
تعرف العدوى بأنها انتقال كائنات دقيقة من حيوان أو إنسان مريض لآخر صحيح. وقد حذرت تعاليم السنة مما يعرف بـ”موسمية نزول الأمراض الوبائية“، فقد روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”إن في السَنَة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء”.
وقد تبين أن الأمراض المعدية تسري في مواسم معينة من السنة، بل إن بعضها يظهر كل عدد معين من السنوات، وحسب نظام دقيق لا يعرف تعليله حتى الآن، من أمثلة ذلك: الحصبة وشلل الأطفال، حيث تكثر الإصابة بهما في شهري سبتمبر وأكتوبر، والتيفود خلال أشهر الصيف، وتظهر الكوليرا في دورة كل سبع سنوات، والجدري كل ثلاث سنوات.
وروى أبو داود عن يحيى بن عبد الله بن بحير، قال: أخبرني من سمع فروة بن مسيك يقول: قلت يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين، هي أرض رفقتنا وميرتنا، وإن وباءها شديد، فقال النبي “أدعها، فإن من القرف التلف”.
وهذا لا يتعارض وما رواه الأمام البخاري عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: “لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر”، قال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فمن أعدى الأول؟!”. فالمقصود أن شيئاً لا يعدي بطبعه، نفياً لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي اعتقادهم ذلك وبيَّن لهم أن الله هو الذي يُمرِض ويشفي. كما قال القرطبي في “المفهم”: إنما نهى رسول الله عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدوى، أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام. والحديث إنما هو رد على عقيدة المشركين، وهو لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب، فالمسلم مأمور بأن يجمع بين عبودية السعي والأخذ بالأسباب مع عبودية التوكل على الله.
ثانياً: إجراءات الوقاية من الأمراض الوبائية في تعاليم السنة النبوية
حث الإسلام وتعاليمه على النظافة وإزالة الوسائط الناقلة للأمراض، فقد أخرج البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال:”عُرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن”. وفي صحيح ابن حبان، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لا يبولن الرجل في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب”.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل أن يطهرها، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده”. ونهي كذلك عن الشرب من فم السقاء، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: “نهى النبي أن يشرب من فيّ السقاء”. كما نهى عن التنفس في إناء الشرب وعن النفخ فيه، لمنع تغير رائحته ووصول لعاب الإنسان ورذاذ فمه إليه.
ويحذر الطب الحديث من الاستخدام الجماعي لإناء واحد في الشرب، حتى لا يتحول إلى أداة لنقل العدوى بين الأفراد من خلال التنفس في الإناء واختلاط أرياق الشاربين، ومن أمثلة ذلك التهابات الفم واللثة والحلق، والدفتريا، وأمراض الجهاز التنفسي وغيرها.
ويندب إبعاد اليد اليمنى عن مجالات الأقذار والتلوث، وإن كان التطهير تناولها. فقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى” .
كما نوهت تعاليم السنة النبوية إلى عدم طهارة سؤر الكلب وكيفية التعامل معه، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة y أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب”.
ويرجع ذلك إلى ما تحويه أمعاء الكلاب من ديدان تعرف باسم “الشريطية المكورة المشوكة” والتي يمتلئ برازها ببعوض هذه الديدان. وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.
وود بالشريعة الإسلامية تعليمات واضحة وإجراءات حازمة وممارسات عملية في التوقي من خطورة الأمراض الوبائية والحد من انتشارها، يمكن إيجازها فيما يلي:
(أ) الحجر الصحي
الحجر لغة هو المنع، وقد عرف المسلمون الأوائل دور للحجر الصحي المسماة بـ “الكرنتينات”، وكان من آثارها أول مستشفى أنشئ للمجذومين في الإسلام في عهد الوليد بن عبد الملك عام 88هـ-706م، في حين لم تعرف أوروبا هذا النوع من المستشفيات قبل القرن الثاني عشر الميلادي حين نقلها الصليبيين عن المسلمين(1).
- العزل:
قضت شريعة الإسلام بعزل المريض بمرض معدي حتى لا يصيب بمرضه الأصحاء، لما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: “وفرّ من المجذوم كما تفر من الأسد”. وروى مسلم وابن ماجه وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل له النبي صلى الله عليه وسلم “أن ارجع قد بايعناك”.
وذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية، تحت عنوان “شيء من أخبار طاعون عمواس“، طرفاً من فقه الصحابة رضي الله عنهم في هذا الشأن، حيث قال:” قال طارق بن شهاب البجلي: “فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيباً، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا منه في الجبال. وقال: ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.
ومن أغراض الإسلام الوقائية أيضاً حضه على التعجيل بدفن الموتى وعزلهم عند تحقق الوفاة؛ وذلك لسرعة تعفن الجثث والخوف من انتشار الأوبئة والأمراض بين الأصحاء.
– إغلاق المناطق الموبوءة:
أخرج البخاري في صحيحة عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها”.
وروى عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فنادى عمر في الناس: إني مُصبح على ظَهر فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله ، فقال عمر: لو غَيرك قالها يا أبا عُبيدة ، نعم نفر من قَدَر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت وادياً له عَدوتان : إحداهما خَصيبة والأخرى جَدبة، أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيَّباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علماً سمعت رسول الله r يقول: “إذا سمعتُم به بأرض فلا تَقدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه“، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف”.
ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم سوراً منيعاً حول مكان الوباء ضماناً لتنفيذ وصيته، فوعد الصابر والمحتسب بالبقاء في مكان المرض بأجر الشهداء، وحذر الفار منه بالويل والثبور، قال: “الفار من الطاعون كالفار من الزحف، ومن صبر فيه كان له أجر شهيد“. رواه أحمد.
وقد كان المسلمون هم الوحيدون الذين لا يفرون من مكان الوباء منفذين أمر نبيهم ولا يدركون لذلك حكمة، حتى اكُتشف أن الأصحاء ذوا المناعة الأقوى؛ الذين لا تبدو عليهم أعراض المرض في مكان الوباء هم حاملون لميكروب المرض الوبائي، وأنهم يشكلون مصدر الخطر الحقيقي في نقل الوباء إلى أماكن أخرى إذا انتقلوا إليها، ولأنهم يتحركون ويختلطون بالأصحاء بلا حذر أو خوف فينقلون لهم جرثومة الوباء.