الجمع بين الفقه والأدب والشعر في شخص واحد، نماذج مضيئة تكررت في تراثنا العلمي والأدبي عبر التاريخ الإسلامي وحتى عصرنا الحالي، فمنذ عهد الرسالة المحمدية، برز من الصحابة شعراء قرضوا الشعر، ورووا الأحاديث النبوية، وكانوا من فقهاء الصحابة مثل عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، ثم برز بعد ذلك الإمام الشافعي أحد فقهاء المذاهب الأربعة، والذي اشتهر بقول شعر الحكمة والمواعظ، وجمع له ديوان كامل، وتنتشر أشعاره على ألسنة الدعاة والمربين في العديد من المناسبات.
وفي العصر الحديث برز مجموعة من العلماء والفقهاء الذين جمعوا بين الفقه والشعر، على رأسهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله، وهو من كبار الدعاة والفقهاء الذين تبحروا في الفقه والدين وملكوا موهبة الشعر والبيان.
1- الشافعي الفقيه الشاعر
ففي تراثنا القديم يعد الإمام الشافعي أشهر نموذج للفقيه الشاعر، ففي مجال الفقه عُرف الإمام “أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي” كإمام من أئمة الفقه الأربعة، وهو عالم قرشي ينتهي نسبه الى عبد المطلب بن عبد مناف، ولد في مدينة غزة سنة 150هـ، وحمل الى مكة وهو ابن سنتين، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وأولع بالنحو والشعر واللغة، ورحل الى البادية في طلبها، ولم يناهز سن البلوغ حتى حفظ منها شيئا كثيرا، ثم اتجه إلى الفقه فحفظ موطأ مالك، وأفتى وهو بن خمسة عشرة سنة، ثم رحل في هذا السن الى الإمام مالك في المدينة المنورة، وقرأ عليه الموطأ من حفظه، فقال مالك: إن يكن أحد يفلح فهذا الغلام، وأضافه في بيته، وخدمه بنفسه، ثم رجع الشافعي إلى مكة، وعلّم بها العربية والفقه، وصحح عليه الأصمعي شعر الهذليين، ثم دخل بغداد سنة 195هـ فاجتمع عليه علماؤها وأخذوا عنه. وفي سنة 200هـ خرج إلى مصر وسكن الفسطاط، فكانت دار هجرته، وبها أملى مذهبه بجامع عمرو وتوفى سنة 204هـ، ليدفن في مصر.
وفي مجال الأدب والشعر كان الشافعي شاعرًا بارعًا، جمع من البيان والحكمة، ما لم يجتمع لفقيه من قبل، وقد تفرقت أشعاره في كتب التراث حتى جمعها “زهدي يكن”، ونشرها في ديوان ببيروت، ثم جمعها “محمد عفيف الزغبي” منذ أكثر من ربع قرن، فاستدرك بها ما فات زهدي يكن.
- شاعر حكيم
والقراءة الأدبية المتأنية في ديوان الإمام الشافعي تبين أننا أمام شاعر كبير وفقيه بارع، أثر فقهه وعلمه على شعرة، فجاءت قصائده في معظمها لتفوح بالحكمة، وتجارب الحياة التي عاشها هذا الفقيه، وأثر فيها وتأثر بها، حتى صارت مقاصــد شــعره لا تختلف عن مقاصــد فقهه ومؤلفـــاته الشرعية.
وكان الشعر يصدر عنه تلقائيًّا معبرًا عما يدور في ذهنه، لذلك انتشر شعره بين جماهير العربية، وأصبح كثير منه من الأمثال السائرة التي يتداولها الناس، ولا يعرف معظمهم أنها من شعره، ومن أمثلة ذلك قوله:
مَــا حَــكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكَ فَتَوَلَّ أنــتَ جميعَ أَمْـــرِكَ
وقوله: مَـــا طَــارَ طَــيرٌ وَارتَفَع إلاَّ كَـمَا طَـــارَ وَقَــــع
وقوله: ضَــاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا فــرَجَتْ وكُنْتُ أَظُنُّهَا لا تُفْرَجُ
وقوله: نَـعيبُ زَمَــانَنَا وَالعَيبُ فــــــيـنَا وَمَــا لِزَمَانِنَا عَـــيبٌ سِوَانَا
وقوله: وَعَـينُ الرِّضَا عنْ كُلِّ عيبٍ كَلِيْلَةٌ وَلَكِنَّ عينَ السُّخْطِ تُبدِي المَسَاوِيَا
وقوله: تَغَرَّبْ عَنِ الأوطانِ في طَلَبِ العُلا وَسَافِرْ فَفِي الأسفارِ خمسُ فَوَائِد
وكانت معظم أشعاره تندرج تحت شعر الحكمة والوعظ والإرشاد، وهذا نابع من طبيعته باعتباره فقيه كبير، طوع الشعر والبيان لخدمة مقصده من العلم والفقه. فنجده يحض على طلب العلم والحرص عليه للخروج من ذل الجهالة فيقول:
ومن لم يذق ذل التعلم ســـــــاعة تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبــــــــابه فكبر عليه أربعًا لوفاتـــــــه
حياة الفتي – واللّه – بالعلم والتقي إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
ويضع الوسائل التي تعين المرء على تحصيل العلم فيقول:
أخي لـن تنال العلمَ إلا بستةٍ سَأُنْبيكَ عـن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبَلْغَةٍ وصحبةُ أستـاذٍٍ وطولُ زمانِ
وفيما يتعلق بالصاحب والصديق واختيار الأصحاب، ومواصفات الخليل التقي المخلص، نجده يدعو الى الإكثار من الأخلاء والأصحاب الأتقياء فيقول:
وليس كثيرًا ألفُ خلٍّ لواحدٍ وإنَّ عَدوًّا واحدًا لكثير
ويحدد مواصفات الصديق المثالي الذي يجب الإكثار منه فيقول:
أحب من الإخوان كل مُـــواتي وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريـــــــده ويحفظني حيـًّا وبعـد مماتــي
– قواعد لمعاملة البشر
ويضع الشافعي في ديوانه مجموعة من القواعد الأخلاقية لمعاملة الناس، ففي مداواة السفاهة بالحلم يقول:
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبًا
يزيد سفاهة فأزيـد حلمًا كعودٍ زاده الإحراق طيباً
وفي الإعراض عن الجاهلين يقول:
أعرض عن الجاهل السفيه فكل مـا قـال فهـو فيـه
ما ضَرّ بحر الفرات يومًا أن خاض بعض الكلاب فيـه
2- ابن القيم شاعرًا
ومن أشهر نماذج الفقيه الشاعر في تراثنا الإمام ابن القيم، وهو من كبار علماء السلف، فهو عالم وفقيه كبير من علماء أهل السنة، ومن أعلام الإصلاح الديني في القرن الثامن الهجري (الثالث عشر الميلادي)، ويعد علما من أعلام المسلمين الذي كان له فضلٌ كبير في نصرة الإسلام، وفي نشر سنة النبي – صلى الله عليه وسلم، فقد تكلم وناظر وألف في تبيانه للإسلام، حتى غدت مؤلفاته منابع خير يتلقى منها العلم ملايين المسلمين من بعده.
ولد ابن القيم في دمشق في السابع من شهر صفر عام 691هـ /1292م، وعاش حتى سنة 751هـ/1350م، حيث مات وهو في الستين من عمره، وقد نشأ في جوٍ علمي، ودرس على يد ابن تيمية الدمشقي وتأثر به، وبرع في علوم كثيرة لا تكاد تحصى، وهي سائر علوم الشريعة، مثل: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والفرائض، واللغة، والنحو، وكان من المتفننين، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان عارفاً في التفسير لا يجارى، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم.
وكان ابن القيم شاعرا كتب العديد من القصائد الطويلة، فقد ذكر العلامة الصفدي قصيدته الميمية الرقيقة التي يتحدث فيها عن هضمه لنفسه، ويفي بتواضعه من خلال أبيات تلك القصيدة، التي يقول عن نفسه فيها:
بُني أبي بكرٍ كثيرٌ ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكرٍ جهولٌ بنفسه جهولٌ بأمر الله أنَّى له العلمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له همَّ
بُني أبي بكرٍ يروم مترقيًا إذا جنت المأوى وليس له عزمُ
بُني أبي بكرٍ لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهمُ
3- ابن حجر العسقلاني شاعرًا
وتتعدد نماذج الفقيه الشاعر في تراثنا العربي والإسلامي، فنجد المحدث المشهور الإمام الحافظ “ابن حجر العسقلاني”، الذي اشتهر بموسوعته القيمة “فتح الباري في شرح صحيح البخاري”، وكان حافظا، ورعا، زاهدا، عابدا، مفسرا، فقيها، حرر ترجمته جمع من الأعيان، وعدّوه في جملة البالغين إلى درجة الاجتهاد في هذا الشأن.
ولد ابن حجر بالفسطاط بمصر في 12 شعبان سنة 773 هـ وتوفي سنة 852هـ عن تسعة وسبعين عاما، وقد نشأ يتيما، فما كاد يتم الرضاعة حتى فقد أمه، ثم مات والده وهو طفل صغير، فأدخل الكتاب وهو في الخامسة من عمره، وحفظ القرآن الكريم وجوَّده وعمره لم يبلغ التاسعة، وكان له ذكاء وسرعة في الحفظ، وهاجر الى مكة المكرمة فدرس الحديث النبوي الشريف على يد علماء مكة المكرمة، وهو في سن الثانية عشر من عمره، ولما عاد إلى القاهرة درس الفقه واللغة وعلوم القرآن وشغف بالحديث، وتتلمذ على يد جماعة كبيرة من علماء عصره.
وكان شاعرا أريبا قرض الشعر، وصاغ رحلته للحج في قصيدة بلغت 44 بيتا، وهي قصيدته الرائعة كتبها عن رحلته للحج وبث فيها شوقه الى البيت العتيق، بدأها بدايةً غزليةً ثم تطرَّق إلى تفاصيل كثيرة، يختلط فيها الشوق بالدموع والرجاء والرغبة بالخضوع، مصوِّرًا الكثير من أمور الحج ورحلته المقدسة، يقول ابن حجر في مطلعها:
معذبتي بالصد مالي ومالها وما مال قلبي عن هواها وما لَهَا
نأت فدنا الهم القوي مسلما وأنْكَرَتِ النفسُ الضعيفةُ حَالَهَا
وقالوا صُغت نحو الوشاة ملالة ومن لي بأن تدنو وتبقى ملالها
وقيل لها مضناك مغناك قد سلا فيا صاحبيَّ استعذرا واحلفا لها
ويعرج على مشاهد من الحج كمشهد التلبية مثلاً، فنجده يصور حال الحجيج وقد رفعوا أكفهم ملبين طائعين خاضعين لله الواحد الأحد، فيقول:
ولبُّوا فبلُّــــوا بالنســـــيم غليلهم وحيوا فأحيوا للنفوس كمالها
يمينا بهبات النسيم بســـــــــحرة لقد فاز من مدت إليه شمالها
شدا باسمها الحادي فحرك ساكنًا وذكر موصول الحنين اتصالها
ثم يذكر عرفات وما يناله المسلم من رضا الله والقرب منه جل جلاله، حيث يجتمع الشمل به، وتتوحد قلوب المسلمين من كل بقاع الأرض على تعظيم شعائر الله، فيتوب المستغفر والمنيب والمذنب الذي طالت علله، فنجده يقول:
وفي عرفات عرفوا بســـــعادة عليهم بجمع الشمل شاموا اشتمالها
فكم تائب مســــــتغفر متيـــقن بمغفرة تهمي بفيض سجالها
وذي علة قد طال عمر مطالها فقصـــر عفو الله عنه مطالـــــها
وإذ نفروا فازوا فهم نفر التقى سقتهم سحاب العفو صفوا زلالها
4- الشعراوي فقيها وشاعرا
وفي العصر الحديث نرى نماذج متعددة للفقيه الشاعر، منها الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله، عالم وفقيه ومجتهد عصري، بلغت شهرته الآفاق على مستوى العالم الإسلامي، واستمتع الملايين من المسلمين خلال نصف قرن بتفسيراته العصرية للقرآن الكريم، وأسلوبه الرائع في تقريب المعاني القرآنية الى آذان المستمعين والمشاهدين للقنوات التليفزيونية العربية.
وقد جمع هذا الداعية الكبير ملكة الشعر والبيان، الى جانب العلم والفقه، حيث نظم الشعر وعمره لا يتجاوز سبعة عشر عاماً، وظهر له ديوان عام 1932م، وكان يستخدم الشعر في توصيف وشرح الآيات القرآنية وتقريب معانيها الى أذهان المستمعين، وسار على نهج الإمام الشافعي الذي أصبحت أشعاره ومأثوراته من نفائس البلاغة العربية.
وقد بدأت الشعراوي حياته شاعرا، فكان لا يجد من الفنون الأدبية أجمل من الشعر، وكان يحفظ معظم ما يقرأه من أشعار العرب، فحفظ الشعر الجاهلي والعباسي والأندلسي، وتتلمذ على شعر حافظ إبراهيم وأحمد شوقي.
وبرزت موهبته الشعرية وهو طالب بالأزهر سنة 1928م، حيث كتب قصيدة بعنوان “الباكورة” كانت المحاولة الأولى له، ونشرت عام 1932م، ثم ظهر له ديوان شعر عام 1936م تحت عنوان “بنات الفكر”. ومع مجموعة من الأدباء الشبان كون الشعراوي جمعية أدبية وتولى رئاستها، وكان سكرتيرها الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، ومن أعضائها طاهر أبو فاشا والمهدي مصطفى وحسن جاد.
- الحشمة والسفور
ومن الشعر الاجتماعي للشيخ الشعراوي قصيدة طويلة كتبها عام 1949م، عندما نظمت الشئون الاجتماعية مسابقة شعرية عن فتاة العصر، حتى لا يأخذها تيار المدنية الغربية وتجنح للسفور والعري، قال الشيخ في قصيدته:
قصرت أكماما وشلت ذيولا هلا رحمت إهابك المصقولا
أسئمت من برد الشتاء سجونه فطلبت تحرير المصيف عجولا
وخطرت تحت غلالة شفافة في فتنة تدع الحليم جهولا
محبوكة لصقت بجسم مشرق دفعته فورته فبان فصولا
هل قصر الخدان في جلب الهوى أو كان طرفك في الطعان كسولا
حتى استعنت على القلوب بمغمد وجعلت جسمك كله مسلولا