اللغة وعاء حامل للفكر والشعور، ولقد قيل عنها إنها كائن حي، ولكن لماذا؟ لأن اللغة انعكاس لهوية الإنسان؛ فما هذا المخلوق (الإنسان) إلا عقل وقلب، أي فكر وعاطفة، لذا كان من البَدَهي أن يشير نبينا صلى الله عليه وسلم إلى تأثير الكلمة التي ما زالت تمنح للكلمة الشاعرة المربية قيمة تحيا بها عبر الزمن، يقول صلى الله عليه وسلم: “إن من البيان لسحرًا وإن من الشعر لحكمًا” (رواه الطبراني). ولعل قصيدة كعب بن زهير التي جاء يعتذر له فيها عن سلوك كان في حقبة الجاهلية التي قدر الله لها أن تتبدد بنور الهدى والإيمان من أبرز الأمثلة لذلك.. وإذا كان الناس ينكبون على مناخيرهم في النار بحصائد ألسنتهم، إذن يمكن القول إن الكلم الطيب الذي تدفعه نية يرضى عنها الله، يورد صاحبه موارد النجاة ومراتب السعادة.
وكعب بن زهير شاعر مخضرم عاش الجاهلية بقوانينها، وعندما جاء الإسلام كانت له كبوة جعلت من مكوثه على الكفر حالاً سلبيًّا بقي عليه سنين، حتى بعد أن فتح الله لنبيه مكة وخرج بعدها إلى الطائف غازيًّا، لم يتحرك قلبه لنور الإسلام إلا بعد أن خاطبه أخوه بُجير بن زهير يدعوه إلى الإسلام، وهما ولدا الشاعر الفحل زهير بن أبي سلمى من قبيلة مزينة، الذي علمهما كيف يقرضون الشعر، فكانت النتيجة شهرة تُرضي غرور المبدع الباحث عن الحضور والانتشار والمكانة، لكن هذا الانتشار بالكلمة الشاعرة كان له وجهان عند كعب:
الأول: جاهلي ظهر واضحًا بعد خروج دعوة الإسلام إلى النور بقصائد يعلن فيها الحرب بالكلمة على الدين ومتبعيه.
الثاني: مسلم يتجلى نوره ساطعًا في قصيدته التي جاء بها معتذرًا إلى النبي ، وكان ذلك بعد الفتح في العام الثامن للهجرة.
رحلة بانت سعادة
والرحلة في “بانت سعاد” تكشف عن أمور عديدة وهي كالتالي:
الأول: كونها تقوم على غرض شعري تقليدي معروف منذ النابغة الذبياني في عصر ما قبل الإسلام، ألا وهو غرض الاعتذار.
الثاني: ارتباطها الوثيق بكثير من قوانين القصيدة العربية التي جرت مجراها منذ القديم، ومن ذلك بدايتها الطللية: بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ
متـيَّـمٌ إِثْـرَها لـمْ يُـفد مكبولُ
الثالث: هذا اللقاء بالتاريخ الذي يقيمه كعب في داخل عالمه الشعري، يبدو ذلك في تقاطع “بانت سعاد” مع محطات مرت على النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة بعثه ودعوته وهجرته، إنها تلتقي مع سيرته صلى الله عليه وسلم بطريقة تعتمد على ما يسمى في علم السرديات “الاسترجاع” (Flashback)، ولأن الشعر فن فإن معانقته لما هو تاريخي لا تأتي وفق الترتيب الزمني له كما جرى في عالم الحقيقة والواقع، إنما تأتي عبر منطق تداخلي ينسجم وروح الشعر عمومًا المؤسِّسة على آلية التداعي بناءً على حوار الذات الشاعرة مع نفسها، وما يمليه عليها خاطرها وترتضيه اللغة التي تتشكل في القصيدة.
ففي رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع الدعوة والنبوة: البعث، الهجرة، نصرة الأنصار، الغزوات، هزيمة الشرك وأهله.
إننا أمام خطاب من “أنا” متكلمة إلى مخاطب مستمع هو النبي صلى الله عليه وسلم، اتساقًا مع الحال القائم خارج القصيدة؛ لقد جاء كعب إليه صلى الله عليه وسلم ليظهر الإيمان ومعه الاعتذار وجها لوجه.. ومن ثم فإن حضور ضمير الخطاب في داخل نص القصيدة، يبدو مبررًا إلى حد كبير بالنظر إلى التجربة الشعورية، وسيرة الشاعر والمرحلة التي شهدت ظهور مُنتجه الشعري إلى النور.. إذن يمكن القول إن الاعتذار، بوصفه غرضًا ومعنى، هو بمثابة رحم حاضن لما هو تاريخي يتعلق بالسيرة النبوية، لذا نقف عند هذا البيت ثم ننطلق منه:
أُنْبِئْتُ أن رسولَ الله أوْعدني
والعفوُ عند رسولِ الله مأمولُ
فمن هذا القريب زمنًا، أي وعيد النبي صلى الله عليه وسلم ونية كعب في الاعتراف بالخطأ بالاعتذار، نتوقف عند بعثه عليه أفضل الصلاة والتسليم، ونبوته، وتكذيب قومه له:
إن الرسولَ لنورٌ يُسْتَضَاءُ به
مُهَنَّدٌ مِنْ سيوفِ اللهِ مَسْلُولُ
إننا ها هنا أمام مزية تمنح لعالم الفن خصوصيته، إنه يختزل المفصل الواقعي على اتساعه في أقل عدد ممكن من الكلمات في تكثيف يدفع الوعي المتلقي إلى الرحيل خارجه، للبحث عن التفصيلات المتصلة بهذا المجمل الفني؛ ففي هذا البيت علامات لغوية على جوانب تاريخية عديدة، هي البعث، والنبوة، والغزوات التي يكشف عنها قوله “مهنّد من سيوف الله مسلولُ”.
ثم يأخذنا كعب بن زهير في بيتٍ آخر، إلى دعوته صلى الله عليه وسلم في الحقبة المكية، وتكذيب قريش له الذي انتهى به إلى حدث الهجرة:
في عُصبةٍ من قُريْشٍ قال قائلهم
ببطن مكةَ لمَّا أسلموا زولوا
إن هذا المشهد يأخذنا إلى حدث مفصلي في تاريخ الدعوة الإسلامية بصفة عامة، ألا وهو حدث الهجرة الذي من خلاله هيأ الله لدينه ولنبيه وللعصبة المؤمنة معه، أنفاس حياة فوق أرض جديدة مستعدة ومرحبة بهذا الدين وأهله، ترى فيه لها شرفًا وتمكينًا وقربى إلى ربها، وهذا مشهد تاريخي صاغه كعب بن زهير شعرًا وأسكنه قصيدته:
يمشونَ مشيَ الجَمالِ الزُّهْرِ يعْصمُهُم
ضرْبٌ إذا عرَّدَ السُّوْدُ التنابيلُ
إنه ها هنا في معرض الحديث عن المهاجرين، مادحًا إياهم، مفتخرًا بشجاعتهم وقوتهم.. ومنهم ينتقل بعدسته الشاعرة إلى الجناح الثاني في طائر هذا الدين:
من سرَّه كرم الحياة فلا يزل
في مِقْنَبٍ من صالحي الأنصـــــــارِ
الــباذلــين نـفــوسـهم لنـبـيـهــم
يـــوم الهَــيَاجِ وســطـوة الجبَّــــــــــــار
يتطهَّرون كأنه نُسُكٌ لهـــم
بــدمــاء مــن علِــقُوا من الكفَّـــــــــــــارِ
إن هذا اللقاء بين ما هو تاريخي وما هو فني عبر قصيدة كعب، يرحل بنا إلى مرحلة ما بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث يخط الدين لنفسه صفحات جديدة، فيها الاستقرار، وفيها الغزو بدفع الشرك، والسعي إلى إخماد ناره المشتعلة التي يحاول بها عبثًا القضاء على الدعوة ومنتسبيها.. لذا فنحن في هذا المشهد والذي سبق أمام مكونين، أو لو شئنا قلنا عمودين قامت عليهما عمارة الدين في عهدها الأول، إنهما المهاجرون والأنصار الذين بهما تحقق لهذا الدين عزه ومجده ونصره على القوم الكافرين، والفضل في ذلك -لما أراد الله له أن يكون- يعود إلى محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، الذي آخى بين هذين الفريقين، إذعانًا لهذا القانون الذي نزل في قرآن يُتلى إلى يوم القيامة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(الحجرات:10).
إذن، فنحن في هذه النماذج من “بانت سعاد”، أمام ما يمكن تسميته إجمالاً فنيًّا، يأتي بعد تفصيل تاريخي واقعي، له أسبقية الحدوث من حيث الزمن.. كأننا مع كعب بن زهير، أمام عرض بانورامي سريع لحدث جلل هز شبه جزيرة العرب ومعه العالم كله؛ هو حدث خروج نبي آخر الزمان الذي أرسله ربه ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور، وما كان ذلك ليحدث لولا المرور على امتحانات الابتلاء للتمحيص وتثبيت الإيمان، وتأكيد فضيلة الصبر التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله، التي لولاها ما كان كعب ولا غيره مؤمنًا ينعم بنعمة الإسلام.. نلمح ذلك في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)(العنكبوت:2). لقد صبر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنه، فكان نتاج ذلك روحًا مؤمنة جديدة تنضاف إلى بنيان هذه الأمة، لتكون وقودًا مضافًا إلى طاقتها في العمل وفي الحركة.. ولعل أمارات هذا الامتحان نجدها تاريخيًّا في الإيذاء الذي تعرض له مسلمو مكة قبل الهجرة، وفي محنة الطرد والبعد عن الأوطان، وفي الغزو.. إن القتال فُرض على المؤمنين وهو كرهٌ لهم، كما قال ربنا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ(البقرة:216).
أما عن العلامات النصية في شعر كعب بن زهير الدالة على ذلك، فنجدها في ألفاظ وتراكيب، مثل: قريش، لما أسلموا زولوا، في مِقْنَب من صالحي الأنصار، الباذلين نفوسهم لنبيهم.
إن المقنب ها هنا، الذي يأخذنا إلى الحقل الدلالي الخاص بالخيل والفرسان، يفتح عدسة الرؤية واسعة على واقع حركي يشير إلى أن انتقال هذا الدين من مرحلة الضعف، والامتهان إلى مرحلة النصر والتمكين، لم تأت إلا بتضحيات تم بذلها، لتكون النتيجة كما عبر عنها كعب بن زهير مجملةً في قوله:
صَدَمُوا عليَّا يوم بدْرٍ صدْمَةً
دانـتْ لــوَقْـعَتِها جـميعُ نزارِ
إن علي بن مسعود المقصود ها هنا في البيت، بمثابة شخصية مفتاحية تأخذنا إلى جماعة الشرك على اتساعها. فمن علي بن مسعود الذي كان يناصب نبينا العداء إلى بني كنانة إلى حزب الكفر ومن ينضوي تحته.. كل هؤلاء جاءوا في موقع المصدوم الخاسر بالنظر إلى منطوق كعب الشعري، يأتي في مقابلها فتح من الله للفئة المؤمنة، ظل يتمدد ويقوى وتتسع رقعته أفقيًّا؛ حتى وصل الأمر إلى الفتح المبين في العام الثامن للهجرة. لذا يمكن القول بأن كلمة “جميع” ها هنا في بيت كعب، تنطوي على دلالة قلقة لا تنغلق عند معناها الظاهر المحدود البادي في النص “جميع نزار”، بل تشجع على الخروج إلى ما هو تاريخي تمثله السيرة النبوية عند من كتب فيها، كابن هشام، والواقدي في كتابه المغازي، وغيرهما.. ويفسر هذه الهزيمة لآل الكفر، في مقابل اتساع رقعة أهل الإيمان قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)(الرعد:41).
ويبدو أن إيقاع المعنى في داخل اعتذارية كعب بن زهير، كان يسير وفق نسق يقوم على التنوع بالانتقال مما هو تاريخي إلى ما هو إنساني عام، إنها الحِكَم التي تضمنتها قصيدته التي بها يخاطب قارئًا غير محدد الزمان ولا معلوم المكان؛ انسجامًا ليس فقط مع طبيعة القصيدة العربية منذ عصر الجاهلية التي كانت تحفل بهذه الحكم، ولكن اتساقًا كذلك مع عالمية هذا الدين.. فهو بما فيه من قيم وفضائل، ليس حكرًا على العرب دون غيرهم، ولا على شبه جزيرة العرب دون باقي أجزاء الأرض. إن نبينا صلى الله عليه وسلم جاء لينذر أم القرى ومن حولها، جاء رحمة للعالمين وليس لقومه وحدهم في زمان ظهوره. لذا يمكن القول، إن الحكمة في اعتذارية كعب بن زهير على وجه الخصوص، يلتقي عندها ما هو فني يشير إلى قانون القصيدة العربية كما رأينا عند زهير بن أبي سلمى أبيه وغيرهم ممن أسكنوا قصائدهم بشعر الحكمة، وما هو متصل بعمومية رسالة الإسلام وكونها للناس كافة وليس للعرب خاصة، ونموذجها في “بانت سعاد” قوله:
وقلْتُ خلُّوا طريقِي لا أبا لكم
فكلُّ ما قدَّر الرحمنُ مفْعُـــــــــوْلُ
كلُّ ابنٍ أنْثَى وإن طالت سلامته
يــومًا عــلى آلـة حــدباءِ مـحـمولُ
وبناء على ما سبق، يمكن القول: إننا بصدد ما يشبه السرد بالشعر لشيء من السيرة النبوية، يلتقي فيه الواقعي مع المتخيل الفني في علاقة بين الاثنين تقوم على التكثيف والإجمال الفني بإزاء تفصيل لما هو تاريخي.. وقد جاء كل ذلك تحت عباءة دلالية وثيقة الصلة بتجربة الشاعر الشعورية وبحياته، ألا وهي عباءة الاعتذار، وقد أتت النتيجة المنتظرة متوقعة مع شخصية نبي عُرف عنه الحلم والعفو؛ إذ أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنه، وأضحى مؤمنًا صحابيًّا جليلاً رضي الله عنه وعن كل الصحب الكرام.
(*) كلية الألسن، جامعة عين شمس / مصر.