ولقد وضع التشريع الإسلامي منارات على طريق تربية الأولاد ليهتدي بها الآباء والأمهات، وتربية الوالدين في الحقيقة هي العمود الفقري في تربية الأولاد، فعن طريقها يرقى مستقبل حياتهم أو يسوء، ولقد سئل سقراط متي نبدأ بتربية الطفل؟ فأجاب قبل أن يولد بمائة عام فسئل وكيف يكون ذلك؟ فقال يجب أن نربي أبويه قبله وأجداده الأربعة، وصدق رسول الله حينما قال: “كل مولود يولد علي الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه”. رواه البخاري.
وليست هذه النتيجة مقصورة على التدين، بل تمتد إلى المبادئ والأخلاق والقيم، وعلى السلوك والعادات والنظم، ومما لا ريب فيه أن أخطر مرحلة من مراحل التربية هي مرحلة الطفولة إلى سن البلوغ والرشد، أما مرحلة الشباب فهي مرحلة توجيه، فالأطفال سريعو التأثر بالقدوة، ولديهم القدرة الفائقة على التقليد، ومن ثم لابد أن يشبوا على كريم الخصال وجميل العادات، وتوجيههم نحو المثل العليا والوعي الإسلامي الصحيح.
فالعقل في مرحلة الطفولة يكون مستعدًا لاكتساب العلوم والمعارف، وحواسه مفتوحة على العوالم المحيطة به لتلتقط كل ما يقع عليها والمثل العربي يقول: “التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر”، ومن هنا يجب أن يكون نقشًا محمودًا طيبًا.
وخبرات الطفولة المختلفة كل ما يكتسبه الطفل من قيم واتجاهات ومعارف النافع منها والضار، ما هي إلا نتاج لعملية من العمليات المهمة في حياة الطفل، ألا وهي عملية التنشئة الأسرية أو الاجتماعية أحيانًا، أو عملية التربية أحيانًا أخرى.
العقل في مرحلة الطفولة يكون مستعدًا لاكتساب العلوم والمعارف، وحواسه مفتوحة على العوالم المحيطة به لتلتقط كل ما يقع عليها
وهذه الخبرات تؤثر دائمًا في حياة الطفل، فهي خبرات قد تيسر اكتساب خبرات جديدة خصوصًا إذا كانت تلك الخبرة تتعارض أو تتناقض مع الخبرات السابقة، وبالتالي يدخل الطفل في حالة من الصراع مع خبرات لا يدري عنها الكثير، وكأنه يقاوم عدوًّا مجهولاً، فأساليب الرضاعة وطرق الفطام، وأساليب الثواب والعقاب قد تكون نواة لتكوين اتجاهات عميقة الجذور يصعب تعديلها بعد ذلك.
ولعل إسهام الأم في مرحلة الطفولة أكثر بكثير من دور الأب، فالمرأة راعية في بيتها وقيمة على تربية أطفالها، فهي من وجهة نظر الزوجية مسؤولة عن البيت، ومن وجهة نظر الأمومة مسؤولة عن الأولاد، ولاشك أن خير منهج يلتزم به الوالدين هو منهج التربية الإسلامية، فهو منذ أن يستهل الطفل صارخًا من بطن أمه توصي أن تتخذ معه أقوم الطرق وأحسن الوسائل في التربية.
ولست مبالغًا إن قلت إن مستقبل أي أمة يتحدد إلى حد بعيد بالظروف التربوية التي يتعرض لها أطفالها، من هنا كان الاهتمام بالطفولة اهتمامًا بمستقبل الأمة كلها، وفي هذا الصدد يصدق ما قاله أفلاطون: “طالما كان الجيل الصغير حسن التربية ويستمر كذلك، فإن سفينة دولتنا ستحظى بسفرة طيبة، وإلا فمن الخير عدم التحدث عن النتائج”.
ومن الخطأ أن نظن أن اهتمام المجتمعات بالطفولة بدأ منذ عهد قريب، إذ أن الاهتمام بالطفولة قديم قدم التاريخ الإنساني، منذ بدء الخليقة اهتم الآباء بتربية أبنائهم ورعايتهم وحمايتهم، وحين ظهرت الحضارات القديمة زاد الاهتمام بالطفل وتربيته.
ومنذ أشرقت شمس الإسلام على العالم، أصبح الطفل انطلاقًا من المبادئ الإسلامية السامية التي خطها القرآن الكريم وسطرتها السنة النبوية موضع العناية بتربيته وتنميته وترشيده.
وأصبح الطفل ذا حقوق في وقت كان ظلام الفكر في أوروبا في القرون الوسطى قد حرم الطفولة من أبسط حقوقها فياله من سبق حضاري عظيم، إن تنشئة الطفل وتربيته على الاعتزاز بالهوية وعلى الشعور بالانتماء الحضاري والإنساني مع التشبع بثقافة التآخي والتسامح واحترام وحب الآخرين والانفتاح على المجتمعات الأخرى، ونبذ التعصب بجميع أشكاله الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية هي مسؤولية الحاضنة الأولى للطفل أي الأسرة، ومن ثم المدرسة والمجتمع بصورة عامة.
ومن أسلم الطرق وأفضلها في تعزيز شخصية الطفل هي احترامه والامتناع عن تحقيره وإهانته، وقد أشار علماء النفس إلى أهمية هذين الأمرين، احترام الطفل وعدم تحقيره، ومن هنا ينبغي على الوالدين احترام الطفل في الأسرة والاهتمام بشخصيته، وكلما التزم الأبوان باحترام طفلهما، توجه هو إلى الآخرين بالحب والاحترام كذلك، وإلا قد تنموا لديه نزعة الاحتكار لنفسه وللآخرين.
ومن الوسائل المعبرة عن الاحترام التحية والسلام، ينبغي على الآباء أن يردوا التحية إذا بادر إليها الطفل بكل احترام ولطف ولين، وأن يعودوه على بدء السلام مع الآخرين، وأن يبدأوه هو بالسلام، ولذلك آثار نفسية عظيمة، فقد كان رسول الله يبدأ الأطفال بالسلام ويحترم شخصيتهم .
ومن الأمور المهمة التي لابد من مراعاتها عند تربية الأطفال تربية سوية، هي التوازن والمساوة بينهم، ينبغي على الآباء أن ينظروا إلى جميع أبنائهم بعين واحدة دون تمييز بينهم، بنين وبنات، ويعاملونهم بعدالة ومساواة، ليزرعوا حب العدالة والمساوة في أنفسهم، وهؤلاء الذين لا يراعون المساواة ويرجحون واحدًا على آخر أو الولد على البنت في العطف والحنو إنما هم يحبطون أطفالهم ويحطمون شخصياتهم مما يؤدي إلى احتقار أنفسهم.
فالأطفال الذين يشاهدون أحدهم يحظى بحب وحنان الوالدين أكثر مما يحظون به سيتألمون كثيرًا، ويشعرون بالحقارة والذل في صدورهم مما ينعكس على سلوكهم وتصرفاتهم في المستقبل يومًا بعد يوم طيلة حياتهم، ولكن الشعور بالعدالة والمساواة والعطف والحنان يشيع الأمن والأمان في نفوس الأطفال، ويزيدهم ثقة بالنفس.
والطفل الذي يتربى على الاستبداد والقهر، والعنف في المعاملة يعيش خاملاً مهلهل الشخصية عديم الثقة بنفسه، لا هدف له ولا قصد مما ينعكس على أسرته والمجتمع ككل.
والأم هي مهد الطفولة الناشئة، والرائد الأول لأطفالها، والحارسة على أمور تهذيبهم وهدايتهم، إذا قصرت أو أهملت ذهبت جهود الأب وسائر الجهود الأخرى أدراج الرياح، وربة البيت المسلمة تؤدي هذا الواجب علي أكمل وجه منذ كان الإسلام وكانت تعاليمه، وكانت أمهات المؤمنين عليهن رضوان الله في الطليعة، ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم إذ يقول:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
ولا جرم أن الفضائل الأخلاقية، والسلوكية والوجدانية ماهي إلا ثمرة من ثمرات الإيمان الراسخ، والتنشئة الإسلامية الصحيحة، والعكس تمامًا، حينما يتربى الطفل بعيدًا عن العقيدة الإسلامية الصحيحة يترعرع على الفسوق والانحلال والنفاق، وينبت في قلبه عشب الضلال والإلحاد.
بناء الشخصية ينبغي أن يبدأ مع بناء الجسم واللحم، ويتطور معه ويكتمل حتى تصبح الأخلاق طبيعة ثابتة للطفل في كبره.
إن الحياة لا تستقيم، ولا يستمر للمجتمعات البشرية بقاء ولا وجود بغير الأخلاق الحميدة، إذ لو سادت في الحياة الخيانة والفاحشة والرشوة والكذب والظلم والفسوق، واختفى الإخلاص والتعاون، والأمانة والمحبة والرحمة فكيف تستقيم الحياة؟ وكيف يشعر الناس بالأمن والسكينة والاستقرار؟
وإذا كانت التربية الأخلاقية تهدف إلى بناء شخصية إنسانية كاملة، فإن الخطورة تظهر بوضوح في تربية الأطفال وهم صغار، لأن بناء الشخصية ينبغي أن يبدأ مع بناء الجسم واللحم، ويتطور معه ويكتمل حتى تصبح الأخلاق طبيعة ثابتة للطفل في كبره.
من هنا يبدوا بوضوح دور الآباء والأمهات في بناء هذه الشخصية ومسؤولياتهم إزاءها، هناك مبادئ في التربية الأخلاقية لا بد من قيام الآباء والأمهات بتطبيقها وهي:
- بث روح الثقة في نفس الطفل: الثقة في الله أولاً ثم في نفسه وفي غيره من المؤمنين ولا سيما المربي.
- بث روح الحب والتعاطف: بين الطفل وبين أفراد البيت من جهة، وبينه وبين الناس من جهة أخري، خاصة أهل العلم والتقوى.
- تكوين شعور لدي الطفل: بأن المبادئ الأخلاقية أصلها الدين، وليست قوانين مفروضة عليه من الآباء والمجتمع .
- قوة الإرادة: هي الشجاعة في مواجهة الحياة، حلوها ومرها والثبات على مبادئ الخير التي يؤمن بها مهما كلفه ذلك من تضحيات.
- خلق إحساس أخلاقي للطفل: باحترام إنسانيته وعدم زجره وعقابه على كل صغيرة تافهة، وإذا كان لابد من الزجر والعقاب، فينبغي أن يكون بأخف ما يمكن حتى لا تتبلد أحاسيس الطفل.
إن على المربين ولا سيما الآباء والأمهات مسؤولية كبري في تأديب الأولاد على الخير، وتحليتهم بكريم الأخلاق ومسؤوليتهم في هذا المجال مسؤولية شاملة بكل ما يتصل بإصلاح نفوسهم وتقويم اعوجاجهم، وترفعهم عن الدنايا وحسن معاملتهم للآخرين.
فهم مسئولون عن تخليق الأولاد منذ الصغر على الصدق والأمانة والتسامح والاستقامة، واحترام الكبير وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار، والمحبة للآخرين، ومسئولون عن تنزيه ألسنتهم من السباب والشتائم والكلمات القبيحة، ومسئولون عن ترفعهم عن دنايا الأمور وسفاسف العادات، وقبائح الأخلاق، وعن كل ما يحط عن المروءة والشرف.
فعلي الآباء والأمهات أن يدركوا أن أبنائهم أمانة غالية في أعناقهم فليحملوا هذه الأمانة بكل صدق، ولا يتركوا فرصة سانحة تمر إلا وقد زودوا الولد ببراهين تدل علي الله سبحانه، وبالإرشادات التي تثبت الإيمان وبالفئات التي تقوي فيه جانب العقيدة.