التاريخ مرآة، يرسم هوية الأمم، ويحفظ ذاكرتها، وينقل ثقافتها، ويورث قيمها إلى أجيالها القادمة. والتاريخ هو الشاهد على اندثار الأمم واضمحلالها، أو هو الشاهد على امّحاء الأقوام التي انبتَتْ عن ماضيها؛ فاغتربت عن قيمها الروحية وابتعدتْ عن ثقافتها الذاتية. ولا شك أن التقدم الذي حصل في التاريخ، كان مبعث إلهام في حمْل الأمانة، والتحليق بها في سماء الإنسانية الشاسعة. ومن هذا المنطلق يعد التاريخ باعثًا ديناميًّا يوقد في الشعوب آمالاً لا تنطفئ؛ يشحذ الهمم، ويقوّي العزائم، ويثبّت الإرادات دائمًا، لتبلغ تلك الشعوب قمم الآمال، وتحقق أسمى الغايات.
يشير المؤرخ التركي محمد كابْلان إلى حقيقة التاريخ فيقول: “إن الأجيال التي تجهل تاريخها، تفقد شعورها بالمسؤولية تجاه أمتها.. ولا تبلغ تلك الأجيال مستوى الكمال إلا بالاندماج مع أمتها وتاريخها”. وفي السياق نفسه يقول المؤرخ التركي نور الدين طوبجو: “كما يستحيل لإنسانٍ العيش بروح الآخرين، فيستحيل لأمةٍ -كذلك- البقاء على قيد الحياة بتاريخ أمم أخرى”.
عندما خلق الله البشر جعل من طبيعتهم الخطأ “كل ابن آدم خطّاء”، وهو أمر جُبل الناس عليه.. وهذا ما يجعل الإنسان في محاسبة نفسية دائمة، وضبط لسلوكه وتحركاته باستمرار، لكي لا يبقى منحرفًا عن الطريق السوي ويظل مبتعدًا عن الصواب المؤدي إلى الراحة والاطمئنان في الدنيا والآخرة، والتاريخ بدوره يعدّ من أهم العناصر التي تساعد هذا الإنسان على ضبط أهواء النفس والإمساك بزمامها. ولا ننكر أن جلّ الأزمات التي نعاني منها اليوم، والعقبات التي تعرقل علينا طريق التقدم، هي ثمرة لشجرة الأخطاء التي زرعناها في تربة الماضي. ولا سبيل لاجتياز هذه العقبات، إلا بعقد صلة وثيقة بيننا وبين تاريخنا، ثم تحويل هذا التاريخ إلى مصدر نستلهم منه طاقتنا ونعزز قوتنا لنقيم عالمنا الجدير بأن يكون نموذجًا للإنسانية جمعاء بقيمه ومبادئه السامية.
التاريخ والمنظور القرآني
يجب أن ننظر إلى التاريخ بعين البصيرة والعبرة كما ننظر إلى القصص القرآني ونستخلص منه العبر. فالقصة القرآنية تقدّم لنا أسلوبًا ومنهجًا منتظمًا وفكرًا مرشدًا حول معاني التاريخ وجوانبه التي يمكن أن نتتبّعها ونستفيد منها. القرآن الكريم لم يتناول الوقائع والأحداث عشوائيًّا دون هدف، بل يتغيّا غاية سامية هي توجيه الإنسان إلى سبيل الرشد والصواب. وإذا جمعنا هذه الغايات في مكان واحد، تظهر لنا جليًّا المبادئ التي لها الدور المهم في تشكيل المجتمعات وتعيين مستقبلهم. وفي الوقت الذي تكشف هذه المبادئ عن خصائص الإنسان والمجتمعات، وكذلك عن أسباب السعادة والحزن، والتطورات، والعلل، ونقاط الضعف، والأمن والسلام.. فإنها بالمقابل تلقي الضوء على الأسباب التي تؤدي إلى عز الأمم أو ذلها، ومن ثم إلى السلوك الأخلاقي، والعادات والتقاليد التي تنجم من هذه الأسباب.
يهدف القرآن الكريم إلى هداية الإنسان وإسعاده، ويدعو هذا الإنسان -وبإلحاح- إلى إحقاق الحق، وتطبيق العدل، وبلوغ الكمال، وتقديم الخير، والأمر بالمعروف، وإحلال الأمن والسلام.. فيقوم بتقديم نموذج الإنسان الصالح والإنسان الطالح من جانب، ومن جانب آخر بتقديم المجتمع الصالح والمجتمع الفاسد؛ وذلك من أجل تربية الإنسان الفرد، وإكسابه الشعور بالمسؤولية تجاه أمته والإنسانية جمعاء. فمثلاً يقدم لنا نماذج من الأنبياء الصالحين؛ كسيدنا نوح، وهود، وصالح، ولوط، وموسى، وإبراهيم عليهم السلام.. وبالمقابل، يقدم لنا أمثلة من الفاسدين الأشرار؛ مثل فرعون، والنمرود، وقارون وغيرهم.. مبرزًا أفعالهم الشنيعة، وتصرفاتهم الظالمة.
ومن ثم يقوم القرآن الكريم بالنصائح والإرشادات التي تحول بين الإنسان وبين شَرك الأخطاء التي اقترفتها الأمم البائدة، والتي أدت إلى سقوطها وانهيارها في القديم الغابر حيث يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ((يوسف:109)، (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ ((السجدة:26)، (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ((هود:120).
فرصٌ يقدمها التاريخ
من الأدوار الهامة التي يؤديها التاريخ، هو إقامة الجسور بين الماضي والحاضر، ومن ثم تنوير الحاضر بإيجابيات الماضي، وذلك لأن الماضي هو جوهر الحاضر ونواة المستقبل.
إن ما جنيناه من روضة التاريخ، هو ضمان وجودنا في الحاضر، وإن استثمار مكتسبات الماضي استثمارًا جيدًا، يوطد لنا المكانة التي سنتربع عليها في المستقبل. ولذلك لا يمكن أن نستغني عن خبرة الماضي وتجاربه التي ستعمر لنا عالمنا وتنشئ مستقبلنا، لأن التاريخ هو بمثابة وعاء تجتمع فيه أسباب ارتقاء الأمم وكذلك أسباب انحطاطها. وفي هذا السياق يقول المؤرخ الفيلسوف ليون أ. هالكين: “الوعي بالتاريخ ضروري لاستشراف المستقبل”.
يعد التاريخ دليلاً ماهرًا في إرشاد الإنسانية، وتبيين الطريق لها كالنجم القطبي تمامًا. والتاريخ أيضًا هو الذي يقدم إمكانية استشراف المستقبل، والإطلال عليه من أعلى برج الرصد. ولعل كلمات المؤرخ التركي عبد الحميد صديقي شاهدة على ما نقول: “لا شك أن التاريخ هو فنارٌ ينبئ راكبين بحرَ الحياة الجدد، بالصخور الخطيرة المختبئة في قيعان بحر الوجود”. لذا يجب أن نعي التاريخ جيدًا ونسير على الدرب الذي خطّه لنا، لكي نستعيد مكانتنا بين الأمم، ونرتقي في التوازن العالمي إلى القمم.
شحذ الماضي للهمم
ومما لا يرقى إليه أدنى شك هو أن التاريخ يحمل في طياته قيمًا ترفع من معنويات الشعوب وتشحذ هممها ثم تدفعها إلى تبني الدولة والأوطان التي تعيش على تربتها. وبالتالي لا يمكن أن ننشئ المستقبل دون الاستعانة بالقيم التاريخية والمعنوية والذاتية.. وفي ضوء ذلك يقول الشاعر والأديب التركي الشهير يحيى كمال بياتلي: “أنا المستقبل الذي تمتد جذوره من الماضي”. ويقول الأديب التركي أحمد حمدي تانبينار أيضًا: “لا يمكن تصور مستقبل دون ماضيه”.
وكذلك المفكر الفرنسي فولتير يؤكد هذه الحقيقة فيقول: “التاريخ هو روضة الأمم، وكل أمة تحصد ما غرسته في هذه الروضة لبناء مستقبلها”. أي إن حصاد الآمال المستقبلية، وثيق الصلة بالبذور التي نثرت في روضة التاريخ.
وفي إطار مقولة “أنا المستقبل الذي تمتد جذوره من الماضي” نؤكد أن إنشاء مستقبل قوي، وثيق الصلة باستلهام الماضي والنهل من قيمه الروحية والمعنوية. وإذا تشبعنا قيم ماضينا السامية، وتشربنا من معينه الفياض، وجددنا أنفسنا وفق متطلبات العصر، وبقينا حركيين نشطين، ثم وفّينا بعزم وحزم إرادتنا حقها، فإننا -بلا شك- سنسترجع في المستقبل القريب مكانتنا في التوازن العالمي، وقوتنا بين الدول.
(*) كاتب هذا المقال: د. إسماعيل جولاك، والترجمة عن التركية: نور الدين صواش.