لا شك أن التربية على النهج السليم والخلق العظيم والتزام قيمه وتمثل مبادئه حسًّا ومعنًا، تحتاج إلى القدوة المثالية إذ هي الكفيل بضمان الطريق السليم إلى مستقبل زاهر وزاخر يحفظ عقول الناشئة وقيمهم ودينهم، فتهذب الأفراد وترقى بهم كما تجعل المجتمع وحدة مترابطة عقائديًّا ووجدانيًّا واجتماعيًّا.
ولذا كان المنهجُ الرباني في إصلاح البشريَّةِ جمعاء -أفرادًا ومجتمعات- وهدايتها إلى طريق الحق المبين والخلق العظيم معتمدًا على وجود القدوة المثالية التي تترجم تعاليم الإسلام ومبادئ الشريعة إلى سلوك عملي واقعي على مرأى من البشر قاطبة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلى صورة مشاهدة وحقيقة مرئية، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب: 21)، ولما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة -ضي الله عنها- عن خُلُقِهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: كان خُلُقُهُ القُرآنَ.
مفهوم القدوة
فالقدوة هي مثال من الكمال النسبي المطلوب، يثير في الوجدان الإعجاب فتتأثر به تأثرًا عميقًا من حيث الحس والمعنى، فتنجذب إليه بصورة تولد في الإنسان القناعة التامة به، والإخلاص الكامل له، فيصبح الامتثال والاقتداء جبلة وسجية لا ينأى عنه الإنسان أبدًا:
يعتمد القرآن الكريم أسلوب التربية بالقدوة حينما أمر الله سبحانه نبيه بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين ، فقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)(الأنعام:90) بمعنى أيها الرسول اتبع ملة هؤلاء الأنبياء الأخيار، وقد امتثل فاهتدى بهدي الرسل من قبله وجمع كل كمال فيهم فاجتمعت لديه فضائل وخصائص فاق بها جميع العالمين.
كما حذر القرآن الكريم في ثناياه على من يحيد عن منهج العظيم، وبين حسرت من يعدل عنه إلى غيره، قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا)(الفرقان: 27-28).
وقد أكدت السنة النبوية المطهرة مبدأ القدوة في التربية وجعلته أصلا تتفرع من خلاله الدعوة إلى الاقتداء بكل من دعا الناس إلى الخير والصلاح والهدى الذي جاء به النبي الكريم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي: ما أوصى صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعدهم، حيث بينت السنة النبوية في أكثر من حديث آثار هذا الاتباع الحميدة والطيبة على الفرد المسلم في حياته التربوية، ويدركها ويلمسها في ذاته عندما يقتدي بصالح فيتأثر به ويظهر ذلك في سلوكه الحياتي وفكره ومنهجه، وقد قيل “الصاحب ساحب” فالقدوة الحسنة سبب فعّال في مصير حياة الإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية، فالإنسان يتأثر بقدوته ويصطبغ بصبغته فكرًا ومعتقدًا وسلوكًا، وقد برهن على ذلك أيضًا والعقل والواقع والتجربة.
القدوة المطلقة
وإذا بحث الناس في ميادين التربية وجدوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتربع على عروش المربين، إذ نجد أن أفضل ممثل لتجلي اسم “الرب” هو سيدنا -محمد صلى الله عليه وسلم- فهو من يتمثل هذا الاسم من أسماء الله الحسنى حتى بين سائر الأنبياء، لأنه كان صاحب فطرة سليمة ومتميزة، ولاشك أن الصحابة الذين تلقوا التربية عنه مباشرة واقتدوا به كانوا من أفضل الناس بعد الأنبياء، إذ هو المربي الكريم والقائد العظيم والمعلم الحليم الذي ربى أصحابه الكرام على الفضيلة والقيم العليا النبيلة وصدق الشاعر إذ قال:
أتطلبونَ منَ المختَار معجزَة يَكفيه شعب من الصحراء أحيَاه
ولقد اعتلى صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب الأخلاق والعلم، لأنه تربية رب العالمين ليكون السراج المنير والمثل الأعلى والقدوة العظمى للإنسانية جمعاء، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكان قرآنًا نابضًا حيًّا متحركًا.
وكان صلى الله عليه وسلم في كل شيء وكأنه معجزة خالدة، وقدوة مطلقة، فإذا نظرت إلى عبادته وجدته ذاك رجل عبادة إذ كان أقرب الخلق لله تعالى، وإذا وقفنا على العلم نجده كان أفقه الناس وأعلمهم على الإطلاق ويحث الناس على العلم والتعلم ويحضهم على اكتسابه، وإذا جاهد قلت: إنه رجل جهاد تكفي قيادته للجنود الغازية في سبيل الله. أما في حياته الزوجية فكان رئيس عائلة بل أسعد عائلة في تاريخ الدنيا كلها، تشمل تسع نسوة يعدل بينهن ويعاملهن أكرم معاملة، وليس هناك مثيل للقيمة التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة لا من قبل ولا من بعد، يلاطفهم ويكرمهم ويستشير معهم ويأخذ رأيهم وحسن معاملتهم. أما الحديث عن دعوته فكان واعظًا ومرشدًا أمينًا، يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان متحليًا بمحاسن الأخلاق وجعلت منه أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، بل كان صلى الله عليه وسلم مربيًا وهاديًا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام، لهذا أمر الله المؤمنين بإتباع الرسول وطاعته، وجعل هذا من مؤشرات الحب في الله، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله)(آل عمران:31) وغيرها من المواقف والأحداث في السيرة العطرة التي تبين أنه صلى الله عليه وسلم سيد العظماء وخير الحكماء والعلماء.
أهمية القدوة في التربية
لقد أولت تعاليم الإسلام مسألة القدوة اهتمامًا كبيرًا حيث لم يقف الأمر عند إنزال الكتاب على الرسل الكرام والحديث عن قصصهم وعرض سيرتهم، وذكر ما أمرو به وما نهو عنه، بل جاء الأمر باتباعهم والاقتداء بهم، في سائر أحوالهم.
وتظهر أهمية القدوة من خلال ما يلي:
- إن القدوة المثالية تثير في نفوس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تتهيج معها دوافع الاتباع والتنافس المحمود فيتولد لديهم حوافز قوية لأن يتمثلوا أخلاقها السامية وقيمها الراقية.
- القدوة الصالحة المتحلية بالقيم والمثل العليا الحميدة تعطي للناس قناعة بأن بلوغ هذا المستوى الرفيع من الأمور الممكنة والغير مستحيلة.
- إن واقع الناس اليوم يشكو القصور والانحراف والضعف والهوان رغم انتشار العلم، ما لم يقم بذلك العلم علماء وقادة عالمون مخلصون يصنعون من أنفسهم قدوات في مجتمعاتهم، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي يفهمه الجميع، وهذا يُسهّل في إيصال المعاني الأخلاقية ويحدث التغيير المنشود إلى الأفضل .
- أهمية القدوة الحسنة في الحياة توفِّر القدوة الكثير من الوقت والجهد على الوالدين في تربية أبنائهم ومحاولة غرس السلوكيات الجيدة فيهم، فعندما يختار الطفل القدوة الجيدة فإنه يقلِّدها في سلوكياتها.
- إنتاج أفراد يتسمون بالسلوكيات والصفات الجيّدة مثل المثابرة على العمل والنجاح بعيداً عن الصفات السلبية وغير الجيدة. بناء مجتمع متماسك وقوي يستطيع مواجهة التهديدات الخارجية.
- إن غياب القدوة الصالحة من المجتمع عامل رئيس في انتشار المنكرات واستفحالها، وإفشاء الجهل بين الناس، ومن هنا تكمن أهمية القدوة الصالحة فكلما ازدادت القدوات انتشر العلم واختفت المنكرات، لذلك فنحن نحتاج إلى قدوات يدعون الناس بأفعالهم لا بأقوالهم.
- لا ينكر أحد ما للمدرس القدوة من الأثر الكبير في الرقي وإصلاح المجتمع الإنساني علميًا وخلقيًا وأدبيًا وصحيًا واجتماعيًا لأن أثر المدرس الصالح يظهر على نفوس تلاميذه فيغرس فيهم الفضائل والأخلاق الحسنة وما يراه خيرًا للأمة والوطن .
إن التربية بالقدوة من أفضل الأساليب التربوية على الإطلاق وأكثرها انتشارًا قديمًا وحديثًا؛ فهي تعمل على تهذيب الأفراد وإصلاحهم كما تجعل من المجتمع وحدة مترابطة عقائديًّا ووجدانيًّا واجتماعيًّا وتعمق مفهوم الأخوة الإيمانية، وتستوعب حقوق الأخوة الإنسانية، كما تجعل من الأمة كيانًا متضامنًا ذا قوة وتأثير وفاعلية.