إنسانية التصوف وعالميته جعلت منه منهج للتعبد، والزهد، والنقاء، والصفاء الروحي والجسدي، وهو حصيلة جهد وفهم للفكر الإنساني عمومًا، والإسلامي خصوصًا، والذي انطلق من مشروع الكل المتكامل، وهذا ما نجده في القران الكريم كقوله تعالى(اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِيِنكُم وَأتممتُ عَلَيكُم نِعمتِي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسلامَ ديناً)(المائدة:٣).
إن التصوف هو تقوية الروح إيمانيًا ضد خطر الماديات وشيوع المادة، فبالإيمان تستنير الروح، وتصبح نورًا يملأ سراج الوجود، هذا من جانب، من جانب أخر نجد أن التصوف واجب أخلاقي، يقول الرسول صلى الله عليه واله وسلم “أدبني رَبِّي فأحسنَ تَأديبي”، وقال أيضا “إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق”. ويعتبر التصوف جانبًا من أخص جوانب الحياة الروحية في الإسلام، وهو تجربة وسلوك قبل أن يكون مذهبًا وفكرًا، ذلك أنه يعد تعميقًا لمعاني العقيدة واستبطانًا لظواهر الشريعة، وتأملاً لأحوال الإنسان في الدنيا وتأويلاً للرموز، يعطي للشعائر قيمًا موغلة في الأسرار…
هكذا تقتضي قراءة التصوف أن تقف عند أبعاد التواصل في هذا المعنى، ومن الأكيد أن بلاغة الذات الصوفية تصنع مقومات جمالها وأسس فنونها الخاصة بها، بطرق مقصورة عليها تتخذ سماتها من الموضوعات التي تشغل الصوفي، ومن الأنواع الكتابية التي يجعلها علة إلى إيصال أحاسيسه ورؤاه وأفكاره .
فالصوفي ينكر انكارًا باتًّا أن الحقيقة هي ذلك الواقع المحسوس، لأن الواقع المحسوس الذي يتشبث به العامة ويكادون يقدسونه، لا يشبع نزعته الروحية العالية، والشوق إلى معرفة الحقيقة المجردة، ذلك أن عالم التصوف لا يكف عن إثارة الباحثين في ساحته لاجتراح التساؤلات بناء على الإرث الصوفي المتجدد الذي لم يسجل تاريخ الفكر بعد انقطاعه عن التواصل مع العصر الحديث، لكونه نتاجًا إنسانيًّا بمعنى الكلمة، وكل منتج إنساني هذا حاله لابد أن يستعصي عن الانقطاع، وأن يتعالى عن التحقيب الزمني وآثاره، خلافًا لما تكون عليه عادة النظريات المؤدلجة أو المشاريع الفكرية المنهجية.
وأخيرا التصوف ملكة فطرية، وميل طبيعي من غير اكتساب معرفي، وهو غريزة يولد عليها الإنسان؛ فالصوفي بفطرته روحيًّا من ناحيه كينونته، فالإنسان بفطرته يحب الاعتكاف في الحالات الاعتياديه هربًا من صعوبات الحياة وظلمها، وفي خضم هذا الضياع يكتشف الصوفي لكل شيء معنى، ويغدو اللفظ معنى في داخله معان كثيرة هي وليدة معنى المعنى؛ تلك الطاقة الإيحائية الغير محدودة، وهكذا نجد الصوفيون خلصوا مفهوم المعنى من جموده، ونبهوا من موقع الفكر الديني والفلسفي إلى ضرورة اكتشاف المناطق المجهولة من المعنى والتحرر من قيد اللفظ.
لهذا نجد أن النص الصوفي، هو نص يقول ولا يقول، لا يمكن أبدًا أخذه على محمل الظاهر، ولا قراءته مثلما تقرأ النصوص العادية والمألوفة، ذلك أن مرماه وهدفه أن يبلغ إلى الروح ويخاطب العقل ويتلبس بالحواس ويقرب التجربة الصوفية، التي هي تجربة في العرفان.
وهكذا نجد الصوفي يترحل عبر العالم، ويقرأ في كتاب الوجود الكبير، فرجل المقام لا يقيم في مكان محدد الأعيان، بل إن الترحل الواقعي وتجريب الآفاق الجديدة، والخروج من مكان، والدخول إلى مكان جديد، حتى يصطاد الحقيقة في طريق أو في غابة أو على ظهر سفينة أو في صحراء أو بين مفاصل واد، أو تحت جناحي طائر.
أما الرمز في النثر الصوفي فهو قضية تعبيرية وأسلوب للتعبير الأمثل عند المتصوفة، لأنه مخرج آمن لأفكارهم الجديدة الجريئة، ومن أبرز سماته أنه قد يكون رمزًا لنقيضه، فالموت مثلاً رمز للحياة لأنه حياة أخرى…