قبل أن تستقر سفينتنا على شاطئ الخمول والجمود، وتطيل عنده المكوث والانتظار حتى كاد ركابها ينسون أنهم قد عانقوا أمواج البحر المتلاطمة زمانًا طويلاً، وكانت لهم بين جنباته صولات وجولات زاخرات بالبحث والتنقيب عن كل ما هو نفيس؛ مما يُخفيه البحر بين طياته، ويحتاج لسبَّاح ماهر يستخرج منه الكنوز واللآلئ.. قبل هذه الحال التي انتهينا إليها، عشنا زمانًا غير قليل نُبحِر ونسبح، ونغوص في قلب الأمواج والأعماق.
كانت بحارُ المعارفِ شديدةُ العمق مجالَ حركتنا، وكانت الثقة بالنفس وحسن إدارة الذات مَرْكبَنا، وكان الإصرار على إحراز النجاحات رغم المخاطر والأهوال والمشاقِّ دافِعَنا، وكان استخراج الأصداف ثمينة القيمة هِوايتَنا.
ما أبعدنا عن ذلك الماضي التليد، حتى لكأنه كان شيئًا من خيال، أو طائفًا في منام، وليس حقيقة واقعة في دنيا الناس، وعليها من الشهود والإثباتات ما لا يمكن تكذيبه، وما اعترف به الخصوم قبل الأصدقاء.
وحتى تعاود سفينتنا إقلاعها الحضاري، وتستأنف إبحارها وسطَ عاتِي الأمواج بثقةٍ ومهارة ونجاح؛ فثمة شروط كثيرة علينا أن نشرع فورًا في التحقق بها، والعمل بمقتضاها.
من بين هذه الشروط الكثيرة نختار ثلاثة يتصل أولها بالمجال الفكري في الهوية والانتماء، وثانيها بالشأن الاجتماعي وتماسكه، وثالثها يشير إلى ما ينبغي أن يسود علاقتنا بالآخر والتفاعل الحضاري معه.
1- الهوية والانتماء
لكل حضارة من الحضارات أو أمة من الأمم، هويتها التي تصنع لها بصمتها الذاتية المميَّزة والمميِّزة في عالمنا المتعدد الثقافات والمشارب.. ولا يمكن لأي أمة أن تبدأ أو تستأنف مسيرتها وهي مشتتة الهوية والانتماء الثقافي، فالهوية هي ما تصنع الشخصية الفكرية التي بدورها ترسم ملامح النهوض المادي.
ولذا، فالأمم والحضارات لا تتمايز بما تمتلك من إمكانات مادية -وإنْ كان لهذه الإمكانات دور في ذلك- وإنما تتمايز بهويتها وثقافتها وعمرانها النفسي والعقلي.
وقد تعرضت أمتنا منذ ما يزيد على قرنين، لهجمة ثقافية؛ تزامنت مع الهجوم المادي على أرضها بالغزو والاحتلال، وأفقدتها كثيرًا من عوامل هويتها المتفردة، فصارت هذه الهوية، الجامعة، الواحدة، ذات الحضور العميق في وجدان وعقول الأمة على مستوى النخب والطبقات المختلفة.. صارت مزاحمَة بهويات أخرى مبتوتة الصلة بثقافة الأمة وتاريخها ومنهجها القائم على الوحي كتابًا وسنة.
ثم جرت في نهر الهوية مياه كثيرة، حتى صار شبابنا فريسة لكثير من الأفكار التي تأخذه بعيدًا عن هويته، وأصبحنا نجد من يدعو لتقليد الآخرين تقليدًا أعمى؛ تقليدًا لا ينصبّ على ما يمكن اقتباسه والاستفادة منه، مما هو مشترك إنساني عام، بل يتجه لما يثير الغرائز، ويبعث على الشكوك، ويزعزع المناعة الفكرية تحت دعاوى شتى تركز على واقع المسلمين المتردي، ولا تحاول أن تلتمس النجاة في النبع الصافي المتجدد في القرآن الكريم والسنة النبوية.. ذلك النبع الذي لا يبلى، ولا يفقد قدرته على التحدي مهما كان واقع أتباعه سوءًا وترديًا.
خلط البعض بين قدرة المنهج على تلبية حاجة الأمة من النهوض والتطور ومجاراة العصر، وبين واقع بئيس هو محصلة قرون عدة وعوامل كثيرة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يكون انعكاسًا أمينًا لمنهج الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده جميعًا حتى تقوم الساعة.
إزاء هذا الوضع المكبِّل لأي دعوة صادقة للنهوض والتقدم، فإن تعزيز هويتنا الإسلامية في مختلف مجالات الحياة، وإعادة الاصطفاف والإجماع عليها، يبدو أمرًا ضروريًّا في استئناف الإقلاع الحضاري.
2- التماسك الاجتماعي
لعلنا نلاحظ من مسيرة الأمم ذات الحضور المميز في تجارب النهوض، بل من مسيرة أمتنا في تجربة ميلادها الأول، أن تماسك النسيج الاجتماعي شرط أساسي للنهوض. فالحضارة لا تقوم على الأفراد، إنما تقوم على المجتمع، وكلما كان المجتمع متماسكًا مترابطًا كانت فرصته أكبر في إثبات الوجود والفاعلية الحضاريين.
إذا كان الإسلام قد قرر أن من حكمة الله في خلق الناس مختلفين أن يتعارفوا، فإن أحد أوجه التعارف هو التعرف على ما لدى الآخرين من علم وحكمة، ووزنه بالميزان الحضاري الذاتي.
ولننظر إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة المنورة مهاجرًا؛ لقد قام صلى الله عليه وسلم بخطوات أساسية هي بناء المسجد، المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، إقامة سوق للمسلمين، إضافة إلى “وثيقة المدينة” التي حددت أسس التعايش بين المسلمين وغيرهم.
وهذه الخطوات تشترك في الدلالة على أهمية التماسك الاجتماعي، ودوره الحيوي في صناعة الحضارة وإحراز النهوض.
فالمسجد مكان للعبادة والأخوة، والمؤاخاة أسمى صور التلاحم المجتمعي التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً. والسوق يصنع للمجتمع الناشئ استقلاله المادي، ويحقق أمنه الاقتصادي الذي بدوره ينعكس على أمنه الاجتماعي. أما “وثيقة المدينة” فهي إبداع إسلامي يمثل شاهد صدق على قدرة النموذج الإسلامي الحضاري على استيعاب مكونات عدة داخل إطاره وضمن حدوده بلا إقصاء أو تهميش أو ازدراء.. على أن المجتمع مهما تعددت روافده الدينية والعرقية والاجتماعية، ينبغي أن يكون له إطار جامع ووحدة متماسكة.
فكانت المؤاخاة أساسًا لإخاء إسلامي عالمي فريد من نوعه، ومقدمة لنهضة أمة ذات دعوة ورسالة، تنطلق لصياغة عالم جديد قائم على عقائد صحيحة وأهداف منقذة للعالم من الشقاء والتناحر.. وكان هذا الإخاء المحدود بين المهاجرين والأنصار، طليعةً وشريطة لاستئناف حياة جديدة للعالم والإنسانية، لذلك خاطب الله هذه الحفنة البشرية في مدينة صغيرة بقوله: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)(الأنفال:73).
ولا شك أن تدعيم التماسك الاجتماعي يستدعي مراجعةَ خطط العدالة الاجتماعية، وضمانَ الحقوق الأساسية لجميع أبناء المجتمع دون تمييز، بجانب العمل على نزع فتيل التباغض والتشاحن، والانتباه جيدًا لأي خروقات اجتماعية قبل أن تستفحل.
كما يستدعي ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بما يعيد للقيم الإسلامية الأساسية -الشورى والعدل والحرية- فاعليتها في المجال السياسي الذي ينعكس بالضرورة على المجال الاجتماعي واستقراره وتماسكه.
وهنا نلاحظ أن “الشورى” ليست قيمة مطلوبة في المجال السياسي فحسب، بل هي قيمة اجتماعية بالأساس يتم غرسها في المرء منذ الصغر، وهي منهج يجب أن يترسخ داخل الأسرة الصغيرة بين الزوج والزوجة والأولاد، وداخل الأسرة الكبيرة بين أفراد المجتمع بصفة عامة. وقد وصف أبو هريرة النبي قائلاً: ما رأيتُ أحدًا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم” (رواه أحمد).
3- التفاعل الحضاري الواعي
لسنا نعيش وحدنا في العالم، ولا أحد يبدأ تجربته الحضارية من الصفر.. هاتان حقيقتان مقررتان في الواقع، ويشهد لهما التاريخ القريب والبعيد، لنا ولغيرنا.فلا يمكن أن يدّعي مجتمع ما قدرته على الانعزال التام عن الآخرين، وإذا حدث شيء من هذا القبيل، فإن آثاره السلبية تتراكم حتى تُحدث تشوهات في طريقة التفكير، وفي القدرة على مواكبة المستجدات، وإحراز رقم مهم في معادلات السباق الحضاري.
وإذا كان الإسلام قد قرر أن من حكمة الله في خلق الناس مختلفين -شعوبًا وقبائل- أن يتعارفوا، فإن أحد أوجه التعارف هو التعرف على ما لدى الآخرين من علم وحكمة، ووزنه بالميزان الحضاري الذاتي؛ فلكل أمة خصائصها الذاتية دون نفي وجود مشترك إنساني عام، يمكن فيه تبادل الخبرات والمنافع.
وهنا نشير إلى أن المسلمين في بداية نهضتهم الأولى أفادوا من تراث الحضارات السابقة، كما أن الحضارة الغربية في نهضتها المعاصرة أفادت من الحضارة الإسلامية.. وهكذا تتابعت الحضارات في حلقات يفيد بعضها من بعض، وينبني اللاحق منها على السابق.
فقد انفتح المسلمون على الحضارة الهندية وأخذوا منها علم الحساب، كما انفتحوا على الحضارتين اليونانية والرومانية وأخذوا منهما العلوم الطبيعية التي صحَّحوا أخطاءها وأضافوا إليها المنهج التجريبي، كما نقلوا أيضًا عن الحضارة الفارسية طريقتها في الإدارة والدواوين.
في مقابل ذلك، أفادت الحضارة الغربية -إبان نهضتها- مما أحرزه المسلمون من تقدم، ومما أرسوه من مناهج لا سيما فيما يتصل بالعلوم التطبيقية، حتى تعرَّف الغرب على تراثه الإغريقي وعلى فلسفة أرسطو من خلال جهود العلماء والمفكرين المسلمين؛ الذين استوعبوا ذلك جيدًا وأضافوا إليه، ولم يكونوا مجرد نقلة فحسب كما يزعم البعض ممن يحاولون التنكر لفضل الحضارة الإسلامية.
هذه بعض أهم الشروط التي أتصور أن مراعاتها ضرورية ونحن نبحث عن كيفية استئناف إقلاعنا الحضاري من جديد، حتى نكون أكثر فاعلية في واقعنا، وأكثر تعبيرًا عن رسالتنا التي هي رسالة ممتدة لا تقف عند زمان أو مكان، ورسالة للناس أجمعين لا تنحاز لجنس دون آخر، ولا لأمةٍ بعينها من دون الأمم.
(*) كاتب وباحث، وسكرتير تحرير مجلة التبيان / مصر.