تحول العالم إلى لعبة كونية خطيرة تحكمها القوانين السائلة ونهايات اللايقين، استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب والفوضى والعدمية واللامعنى واللانظام. حداثة تعمل في فضاءات اللامعنى تتميز بقوة التحرر من قيود التمركز، والانفكاك عن التقليد وما هو متعارف عليه، وممارسة الاختلاف والتفكيك والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة البنية والانغلاق والتكامل، وتعرية الأيديولوجيات، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق واللون والجنس والأنوثة وخطاب المابعديات المفتوحة.
يتفق الفلاسفة الألمان على أن مشروع الحداثة لم ينته بعدُ، ويواصل سعيه لتحقيق أهدافه، والدور الفعال في ذلك لوسائل الإعلام؛ فكل شيء هو النص والصورة، وإقناع المشاهد بعالم الخيال العلمي أو العالم الافتراضي الذي هو بمنزلة استعارة أو مجاز عن حالة الواقع.
ترتبط ما بعد الحداثة، بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون إلى يومنا هذا.. فهي موقف متشكك لجميع المعارف البشرية، وقد أثرت هذه المواقف على عديد من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني.
كما اعتمدت ما بعد الحداثة على التناص واللانظام واللاانسجام والنسبية، وإعادة النظر في كثير من المسلمات التي تعارف عليها الفكر الإنساني، ومن ثم تُزعزع ما بعد الحداثة، جميع المفاهيم التقليدية المتعلقة باللغة والهوية. وهذا يعني أن نصوص ما بعد الحداثة، لا تتقيد بالمعايير المنهجية، وليست ثمة قراءة واحدة للنص، بل قراءات مفتوحة.
ثم إن فكر ما بعد الحداثة جاء كردّ فعل على المقولات التي تحيل على الهيمنة والسيطرة والاستلاب.. كما استهدفت ما بعد الحداثة، تعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في العالم وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية.. وعملت ما بعد الحداثة، على انتقاد اللوغوس (تعني باليونانية الكلمة) والمنطق عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك.

إن ما يهم الإنسان في واقعه العملي، هو التأسيس والتأصيل وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف بدلاً عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.

لقد ظهرت ما بعد الحداثة، في ظروف سياسية معقدة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول، وظهور الفلسفات اللاعقلانية.. وكانت ما بعد الحداثة مفهومًا مناقضًا ومدلولاً مضادًّا للحداثة. ولذلك احتفلت ما بعد الحداثة، بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بقوانين العقل والسببية والأنموذج الكوني.. حاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى إيجاد أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية والتغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة.. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن، واتخذت التأويل والتأويل المضاعف قاعدة ومنهجًا.
تستند ما بعد الحداثة، في الفلسفة الغربية إلى مجموعة من المكونات والمرتكزات، ويمكن حصرها في المبادئ التالية:1-التقويض: تهدف نظرية ما بعد الحداثة، إلى تقويض الفكر الغربي، وتحطيم أقانيمه المركزية، وذلك عن طريق التشتيت والتأجيل والتفكيك.
2-التشكيك: أهم ما تتميز به ما بعد الحداثة، هو التشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة.
3-العدمية: من يتأمل جوهر فلسفات ما بعد الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات ما بعد الحداثة هي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.
4-التفكك واللاانسجام: إذا كانت فلسفة الحداثة أو تيارات البنيوية والسيميائية تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، وتجميعها في بنيات كونية، وتجريدها في قواعد صورية عامة من أجل الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية، فإن فلسفات ما بعد الحداثة، هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية، وفي المقابل تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ما هو منظم ومتعارف عليه.
5-هيمنة الصورة: رافقت ما بعد الحداثة، تطور وسائل الإعلام، فلم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي ومعرفة الحقيقة.
6-الغرابة والغموض: تتميز ما بعد الحداثة، بالغرابة، والشذوذ، وغموض الآراء والأفكار والمواقف، فتفكيكية “جاك ديريدا” -مثلاً- ما زالت مبهمة وغامضة من الصعب فهمها واستيعابها، حتى إن مصطلح التفكيك نفسه أثار الكثير من النقاش والتأويلات المختلفة في حقول ثقافية متنوعة.
7-التناص: يعني التناص استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية أو غير واعية؛ بمعنى أن أي نص، يتفاعل ويتداخل نصيًّا مع النصوص الأخرى امتصاصًا وتقليدًا وحوارًا. ويدل التناص في معانيه القريبة والبعيدة، على التعددية، والتنوع، والمعرفة الخلفية، وترسبات الذاكرة.. وقد ارتبط التناص نظريًّا مع النقد الحواري.
8-تفكيك المقولات المركزية الكبرى: استهدفت ما بعد الحداثة، تقويض المقولات المركزية الغربية الكبرى كالدال والمدلول، واللسان والكلام، والحضور والغياب، إلى جانب مفاهيم أخرى كالجوهر والحقيقة والعقل والوجود والهوية.

أهم سلبيات ما بعد الحداثة، اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي.

9-الانفتاح: إذا كانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، والسياق الخارجي والمرجعي، فإن ما بعد الحداثة قد اتخذت لنفسها الانفتاح وسيلة للتفاعل والتفاهم والتعايش والتسامح.. ويعد التناص آلية لهذا الانفتاح، كما أن الاهتمام بالسياق الخارجي، هو دليل آخر على هذا الانفتاح الإيجابي التعددي.
10-قوة التحرر: تعمل فلسفات ما بعد الحداثة، على تحرير الإنسان من قهر المؤسسات المالكة للخطاب والمعرفة والسلطة، وتحريره أيضًا من أوهام الأيديولوجيا والميثولوجيا، وتحريره -كذلك- من فلسفة المركز، وتنويره بفلسفات الهامش والعرَضي.
11-الدلالات العائمة: تتميز نصوص وخطابات ما بعد الحداثة، بخاصية الغموض والإبهام والالتباس؛ بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات، غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة، تأجيلاً وتقويضًا وتفكيكًا، وبتعبير آخر، يغيب المعنى ويتشتت عبثًا في فلسفات ما بعد الحداثة.
12-التخلص من المعايير والقواعد: ما يعرف عن نظريات ما بعد الحداثة في مجال الفلسفة والنقد والأدب، تخلصها من النظريات والقواعد المنهجية، فـ”ميشيل فوكو” يسخر من الذي ينطلق من منهجيات محددة يكررها دائمًا ويحفظها عن ظهر قلب، فيرى أن النص أو الخطاب متعدد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة ومتنوعة.. كما أن “ديريدا” يرفض أن تكون له منهجية محددة؛ حيث لا يوجد المعنى أصلاً ما دام مقوضًّا ومفككًا ومشتتًا، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها كما يقول “جاك ديريدا”.
13-ما فوق الحقيقة: تنكر فلسفات ما بعد الحداثة، وجود حقيقة يقينية ثابتة، فـ”نيتشه” -مثلاً- ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها، و”جان بودريار” الفيلسوف الفرنسي ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما يربط الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.
وأيضًا من رواد فلسفة ما بعد الحداثة، المفكر الفرنسي “جان ليوتار”، الذي أنكر الحقيقة مثل نيتشه؛ فالمعرفة برأيه، لا يمكنها أن تقدم الحقيقة، لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة التي هي دائمًا ذات صلة بسياقات محددة. وأهم ما يطرحه “جان فرانسوا ليوتار” في إطار ما بعد الحداثة، هو التحرر من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة.

تُزعزع ما بعد الحداثة، جميع المفاهيم التقليدية المتعلقة باللغة والهوية. وهذا يعني أن نصوص ما بعد الحداثة، لا تتقيد بالمعايير المنهجية، وليست ثمة قراءة واحدة للنص، بل قراءات مفتوحة.

ويعدّ “جاك ديريدا” كذلك، من أهم فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث اهتم بتفكيك الثقافة الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة. ومن ثم فقد ثار “دريدا” على مجموعة من المقولات البنيوية كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة، وأن المعنى لا يبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة. كما أن “دريدا” ينكر القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة.
لذا، فالتفكيكية، منهجية وليست منهجية، لها خطوات وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب، وذلك عبْر آلية التشتيت والتقويض والهدم لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف.
هذا، وقد انتقد “جاك ديريدا” الميتافيزيقا الغربية التي تمثل الحضور واللغة والدال الصوتي. ومن ثم، قوض مجموعة من المفاهيم السائدة، مثل الهوية، والجوهر، واللوغوس، والعلامة، والمدلول، والظاهرة، والنظام، والكلية، والعضوية، والجوهر، والواقعية، والحقيقة، واليقين.
هذا، ويعد “ميشيل فوكو” كذلك، من رواد ما بعد الحداثة، وقد اهتم كثيرًا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية؛ بمعنى أن المعارف في عصر ما، تشكل خطابًا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية. هذا، ولقد اهتم “فوكو” كثيرًا بتحليل الخطاب، ورفض التقيد بالمناهج الجاهزة واستعمال آليات مكررة، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنص منفتح ومتعدد، لا يمكن قراءته قراءة أحادية فقط؛ بل إن “فوكو” يؤمن بتعدد القراءات واختلافها من قارئ إلى آخر.
ومن جهة أخرى، اهتم “جيل دولوز”، بالتعددية والانفتاح على الآخر إدراكًا وتفاعلاً، حيث اعتبر الفلسفة بأنها فلسفة التعددية، ومن ثم فقد انتقد الهوية وفلسفة الواحد والتطابق.

يلاحظ أن نظرية ما بعد الحداثة، تقوض نفسها بنفسها نظرًا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي.

بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة، اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات ما بعد الحداثة واقعيًّا لغرابتها وشذوذها. وبذلك، استهلكت ما بعد الحداثة، قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة، دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات، والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها، هي التي تجعل ما بعد الحداثة، متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي.
لا غرو والحالة هذه أن تدخل ما بعد الحداثة، مجال العلوم الإنسانية حديثًا جدًّا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقى والاستعراضات المسرحية، وغيرها من مشارب الحياة اليومية، التي لا يترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة. ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة، هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لا يمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره.
ولذلك، فإن دفاع ما بعد الحداثة عن الهامش، جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئًا. وككل هامشي، أصبحت ما بعد الحداثة، تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية.. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات حداثية كانت، أو ما بعد حداثية.
ويلاحظ أن نظرية ما بعد الحداثة، تقوض نفسها بنفسها نظرًا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي. وفي هذا السياق، يقول “دافيد كارتر”: وقد اجتذبت ما بعد الحداثة، نقدًا إيجابيًّا وسلبيًّا على حد سواء، فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع. ولكن تعدّ حقبة ما بعد الحداثة أيضًا، أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة، وبالنسبة للكثيرين تعدّ غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية.
إلى هذا الحد، نجد أن ما يهم الإنسان في واقعه العملي، هو التأسيس والتأصيل وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف بدلاً عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.

(*) كلية الآداب، جامعة الموصل / العراق.