إن المجتمعات في هذا العالم شأنها شأن الأفراد، فهي في مشاعرها وأفكارها وحماسها، وبذلِها الجهد في الحفاظ على وجودها، تُشْبه البذرة التي تُبذر في التراب وتَعتمِد على القوة الإنباتية للتربة، وتستمدُّ عناصر قوتها من الهواء والشمس والماء، فتأخذ طريقها نحو التبرعم ثم تصبح شتلة فسنبلةً، وحينما يحين موعدها تبدأ بالاهتزاز، بسرعة أحيانًا، وبهدوء أحيانًا، ثم تنحني، ثم تعود مرة أخرى إلى التراب الذي شهِدت فيه الوجود، لترمي بنفسها في أحضانه.. ولا تختلف عن هذا أقدارُ بعض الأنظمة المعروفة، وكذلك أفكارهم وممثلو فلسفاتهم، فأصواتهم مدوية في ربيع حياتهم، وفي مراحل شبابهم يُطلقون البسماتِ ويقدِّمون الورود لمن حواليهم، وفي مراحل نُضجِهم يبدؤُون بالذُّبول ويصفَرُّون في خريفهم، فمنهم من يطول عمره ومنهم مَن يَقْصُرُ على حسب استخدامهم لمقوماتهم الداخلية، ويسيرون هكذا نحو مصيرهم المحتوم.
وعندما يأتي يومٌ يَحِلّ فيه الإدبار محلَّ الإقبال؛ إذا بالأنشطة الحياتية تتوقّف، ويتذبذب النبضُ، فتشحب الألوانُ مثل أوراق الخريف، وتسكن المشاعر الجياشة، وتسري ألحانُ الموت في كل الأطراف. وفي مثل هذه الحالات قد نعزو السببَ في هذه الحالة إلى ضعف قوة الطرد المركزي، وأحيانًا نعزوها إلى عدم ارتباط الممثلِين لها بفكرٍ سامٍ، وأحيانًا إلى عدم تمسّكهم بالهدف على وجهٍ تامّ، أو إلى غلبة المطامع الدنيوية على الأرواح. ولكن من يدري، فقد يكون السبب الحقيقي واحدًا من هذه الأمور أو جميعها معًا، وقد يكون السبب هو مشيئة “القدرة القاهرة” التي تفوق كل الأسباب.. وأيًّا مَا كان السبب، فما لم يتوجه الإنسان بقلبه إلى الباب الذي ينبغي له التوجه إليه، وما لم يَبذُل الجهودَ اللازمة على الوجه اللائق، وما لم يَجِدَّ كلَّ الجِدِّ ويَسْعَ جاهدًا إلى التعمق الفكري الدائم من أجل الوصول إلى بلوغ الكمال، بل وما لم يكن عازمًا في كل حين على سبر أعماقٍ جديدة، فسيأتي عليه يومٌ يَبْهَتُ فيه لونُه ويَشحب، ثم يَصفرُّ ويَذبُل، بل سيفسد ويضمحل ويتلاشى تحت أنقاض نفسه.
إن الإيمان للمؤمن مصدرُ قوّةٍ إلهيّة تفوق كل القوى، والإسلام آخر محطة للتسامي الإنساني، وأما رضا الحق سبحانه فهو هدية غالية جدًّا في مقابل هذه البهجة التي لا تنطفئ.
أجل، ينبغي أن ترنو العيونُ نحو الذرى، وأن ترفرف الأجنحة دائمًا للتحليق في مجالٍ أعلى، وأن تتبع الهممُ طريقًا يُشْبه طريق “أُولِي العزم”؛ حتى تبلغ القِممَ الشواهق وتتجول في أعاليها، وإلا فالتوقّف والتفكُّك والتلاشي سيكون قَدَرها المحتوم.
إن القرآن الكريم يخاطب تلك الجماعة النورانية الفائقة في الفضيلة، والتي يمكن اعتبارها من آثاره المعجزة، قائلاً: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ(الحديد:16)، ويدعوهم بهذا إلى ما حاولنا الإحاطةَ به من “الانبعاث الجديد”، وينبغي للمؤمن أن يلبي هذه الدعوة، ويتدفق دائمًا بالشوق والحماس نحو التسامي والتعمق حتى يحافظ على حيويته، عليه أن يطمحَ نحو الأعالي باسم فكره السامي، وعليه أن يكونَ حريصًا على الكمال حتى يَلقى الحفظ والرعاية فلا يتهدم، ويحافظَ على نضارته ما دام على قيد الحياة.
لن يفتُر عزمه على الانبعاث أبدًا، ولن يخرّ أمام ضربات الدهر القاتلةِ مَن يستطيع الحفاظ على نضارته وطراوته، ومِثل هذا الإنسان مهما كان عصره الذي يعيش فيه، سيحيا الإسلامَ بنداوته التي كان عليها أولَ يوم نزل فيه من السماء، وستَطرُف عيناه دائمًا بمشاعر الإحسان، ومهما تجوَّل في الشواهق والذرى فلن تكون لتساميه نهاية أو لمنزله آخر، بل لو وصل إلى مقامات سامية مذهلة وبلغ مستوى الملائكة المقربين من الله، فرأسه سيكون مُطأطئًا بينما عيناه سترنو نحو ما وراء الآفاق، وسيفتح جناحيه دائمًا عازمًا وجاهدًا على التحليق في الأعالي، وإذ يفعل ذلك يقدِّم لأهل الأرض نماذج متنوعة من أعراف أهل السماء.
إن رجال العزم والإرادة هؤلاء، يعرفون طرائق الحفاظ على الحيوية والنشاط طوال أعمارهم، في حين يتهرء المغلوبون أمام طبائعهم ومطالبِهم البدنية ويتلاشون رغم حرصهم الشديد على الحياة والتمتع بملذاتها. رجال العزم والإرادة تصدُر منهم تصرّفاتٌ متنوعة من نماذج الخلود؛ يقرؤون الأشياء والأحداث ويفسرونها مثل ما كان الأنبياء يرونها ويقوِّمونها، ويتنقلون من شاهق إلى آخَرَ دون أن تَعُوقهم جاذبية الأرض أو تُعرْقِلهم موانع الاحتكاك، إنهم يسيرون إلى الله مثل ما كان يسير إليه السلف الأوائل دون أن تكون لهم مطامع أو مساومات، لا يَشبَعون من نشوة الإيمان ولا من طعم “معرفة الله” ولا من لذةِ محبة الله، حاضِرُهم مشعٌّ بالأنوار، وطالعهم براق مشرق، وعاقبتهم سعيدة. إذا شاهدوا أحدًا من الواصلين إليه تعالى أو سمعوه زادهم ذلك حماسًا وشوقًا، وإذا رأوا المتوقفين المتعثرين في الطريق زادهم ذلك توجهًا بقلوبهم إلى الله، وكلما شاهدوا فيما حواليهم تعساء، فاقدي الإحساس والحماسِ، صمَّ الآذان تجاه الأوامر الإلهية التشريعية لا يستطيعون قراءة الأوامر التكوينة؛ ازدادوا توجّهًا والتفاتًا إلى الباري .ينبغي أن ترنو العيونُ نحو الذرى، وأن ترفرف الأجنحة دائمًا للتحليق في مجالٍ أعلى، وأن تتبع الهممُ طريقًا يُشْبه طريق “أُولِي العزم”.
إن الذين لا يَعتبرون كل يوم بدايةً جديدة لانبعاث جديد، ولا يقرؤون الكون ولا يقَيِّمونه من خلال وضعه تحت مجهر العصر الذي يعيشونه، ولا يُعيدون التعمق في قراءة ذواتهم كل يوم وكأنهم يكتشفون عالَمًا جديدًا، ولا يستطيعون أن ينظروا إلى كل حقبة زمنية نظرةً أعمق وأوسع تتناسب مع ثلاثية “الله-الكون-الإنسان”؛ أولئك يُحتِّم عليهم قدرُهم أن يعيشوا شيخوخة في مشاعرهم وأحاسيسهم، ويَفقِدوا نشاطهم ويذبلوا، ويَخمَدَ عشقُهم وتذوب أشواقُهم ويَفسُدَ قوامُهم.. وربما ينخدع هؤلاء فيظنون أن نفوسهم لا تزال غضة طرية في أوج نشاطها، لكن الواقع أنهم على مشارف مرحلةِ الانقراض، شَعَروا بذلك أم لم يَشعُروا.. وعليه فإنَّ فقدهم عزمَ الارتقاء والتسامي في دواخلهم سترتب عليه مواجهة مصير الانتهاء والاندثار، والأمَرّ من ذلك أن هؤلاء لا يُحسّون بأنهم قد فَقَدُوا مسار الارتفاع، وأنهم في طريقهم إلى الهبوط الاضطراري، وأنهم سيسقطون في إحدى المهاوي، حفظنا الله من ذلك، آمين.
إن مثل هذا الوضع المخزي مثلما ينطبق على الأفراد، ينطبق بالكامل على المجتمعات أيضًا. فالمجتمعات شأنها شأن الأفراد؛ تُولَدُ على هيئة رُشَيم فتنمو ثم تنضج، بل تصل إلى مستوى يخيَّل للناظر إليها وكأنها ستبقى إلى الأبد، وتصبح محطَّ أنظار الجميع، فإذا لم يتأتَّ الحفاظ على المقومات الحيوية التي كانت في بدايتها وبدأت مرحلة الابتعاد عن اللب والجوهر، ولم يمكن تفعيل عملية التجدد مع الحفاظ على الذاتية؛ فإن كل شيء سينقلب رأسًا على عقب وسيلقى دمارًا في دمار، ولن يبقى هنالك لونٌ ولا نقشٌ، وستنطفئ جذوة المشاعر والأحاسيس، وتدوِّي هبَّات الخريف لتُذبِل الأوراقَ النضرة، ومع هبوب أول عاصفة قوية ينهار كلُّ شيء. وعلى العكس من ذلك، إذا كان مثل هذا المجتمع واعيًا بموقعه، صامدًا في موقفه، محافظًا على علاقته مع مقوماته الحيوية، متجددًا باستمرار، وبتعبير آخر؛ إذا كان يستطيع أن يَحُول -في الوقت المناسب- دون الانحلالات المقدرة من خلالِ صيانةِ ما اهترأ وترميمِ ما تصدّعَ وإصلاحِ ما انكسرَ؛ فقد يستطيع أن يُطيل عمره بمنحة ربانية، ويقضيَ المدة التي يعيش فيها في نشاط ونشوة شبابية.
والواقع أن الإسلام قد قدَّم لمعتنقيه روحًا أندى من كل نَدِيٍّ، وبهجةَ حياةٍ ذات نشوة عميقة، يصعب معها أن يتعرض الواعون بهذه الروح والمعتمِدون على هذه النشوة للسقوط والانهيار. إن الإيمان للمؤمن مصدرُ قوّةٍ إلهيّة تفوق كل القوى، والإسلام آخر محطة للتسامي الإنساني، وأما رضا الحق سبحانه فهو هدية غالية جدًّا في مقابل هذه البهجة التي لا تنطفئ، وهذه الحيويةِ التي لا يَبهت رونقُها. وإذا كان المؤمن مجهَّزًا بهذه العُدّة والدعائمِ، فبعناية الله يستحيلُ أن يكون ضحيةً لمفاجآت غير محسوبة.
لقد كان أجدادنا بهذه النشوة ومشاعر السعادة في منتهى الحيوية والنشاط، وكانوا في حراك دؤوب في سبيل الوصول إلى الكمال.. كانوا راسخي الأقدام في مواقفهم، بعيدين عن ترف التغيُّر والتبدل، وكانوا من حيث حياتهم القلبية والروحية يعيشون على الدوام انبعاثات جديدة، يَشعرون كلَّ يوم بإيمانهم من أعماق قلوبهم، بفضل ما كانوا يتمتعون به من إحساس جديد وحدس جديد واكتشاف جديد، فيَصلون بها إلى تركيبات وتحليلات جديدة.. وكانوا يعتمدون على توفيق الله وعنايته في سبيل إنشاء إيمانهم واعتقادِهم من جديد، وكان ذلك يتجلى في نشاطهم على حسب معرفتهم بالله.. وكانوا يذكرون الله فتَوْجَلُ قلوبهم، ويتعمقون في معنى ومحتوى وجوهرِ الأوامر التكوينية والتشريعية، وبذلك كانوا يحلِّقون دائمًا في الأعالي.
هكذا كانوا، ونحن الآن على ما نحن عليه، وإن لم تكن إفاقتنا من رقدتنا منوطةً بصوت الصُّورِ، فقد يأتي يوم ننبعث فيه من جديد.
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية تحت عنوان:
Eskimeme veya Yenilenme Cehdi، العدد:314 (مارس 2005). الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.