رفعت سماعة الهاتف، فأتاني صوته دافئًا حنونًا كما عهدته دومًا يقول: أنا في الطريق يا زوجتي الحبيبة، استعدي عندما أصل سآخذك معي.
قلت: إلى أين؟
أجابني: إلى خطوات فيها خير. لقد توفيت السيدة التي كانت تنظف المكتب دائمًا، وواجب أن نذهب للعزاء.
حسنًا، ستجدني أنتظرك.
أقفلت سماعة الهاتف ورددت بيني وبين نفسي “الحمد لله”، فقد وهبني الله زوجًا لم أر لحنانه مثيلاً، يحب الخير ويسعى إليه، وتشجعت أن أرافقه رغم أني لم أعرف عن هذه السيدة غير قليل حكاه عنها أنها، أرملة فقيرة جدًّا وتنظف مكتبه وتعول ابنها الصغير مما تكسبه من جهدها.
ذهبنا للعزاء، وكم كانت دهشتي لما علمت أن هذه السيدة المسكينة كانت تكتري غرفة واحدة ضيقة جدًّا تعيش فيها هي وابنها، لكن الذي لن أنساه أبدًا هو عندما رأيت هذا الابن لأول مرة، شعرت بصدمة كبيرة حين علمت أنه أعمى.. بكيت كثيرًا ولم أستطع مقاومة شعور الحنان المتدفق في صدري فقمت وضممته إلي. كان طفلاً في الخامسة من عمره، ضعيف البنية لا يرى شيئًا. سألت النساء حولي أين يذهب هذا الطفل بعد وفاة أمه؟ قالوا لي إنهما من سنين طويلة لم يزرهما أحد وربما أمه مقطوعة من شجرة. هببت واقفة وناديت زوجي في الهاتف، قلت له:
أريدك حالاً، أرجوك الأمر لا يحتمل.
نعم لكني في مجلس العزاء.
اخرج نلتقي في السيارة ثم عد. أجابني:
حسنًا.
ولما جلسنا في السيارة حكيت له ما كان من أمر الطفل الضرير، كنت أعرف أن لزوجي قلبًا عطوفًا لذلك تشجعت وقلت له:
لنتكفل به يا زوجي الحبيب. لبث برهة ثم قال:
لكن ربما له أقارب أو جيران وقد تكفلوا به. قلت:
لقد درست الأمر جيدًا، وعلمت ألا أقارب له وأن جيرانه هم أنفسهم فقراء وقد رأيت في وجوههم أنهم يتهربون منه، ونحن يا زوجي قد أنعم الله علينا فلنعمل هذا الخير في هذا الولد في سبيل الله.
تطلع إلى وجهي وقال في حنان:
لشد ما أنا سعيد بك يا زوجتي الحبيبة، حسنًا، سأبدأ بإذن الله إجراءات التكفل به، يجب أن يكون كل شيء قانونيًا. هتفت في سعادة:
حفظك الله لي يا أغلى ما لدي.
أخذنا الولد إلى بيتنا، وكنت كلما مررت كفي على رأسه اغرورقت عيناي، وتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم “امسح رأس اليتيم” فكيف به وهو يتيم وأعمى.
شعرت بحب جارف يشدني لهذا الطفل، وأحببت بعمق أن أكتشف فيه مواهبه وأجعل منه رجلاً عظيمًا رغم إعاقته. وكان أول ما اكتشفت فيه قدرته الهائلة على الحفظ والتذكر، وكأنه بذلك يغطي فقده لبصره، وسجلته في دورة لتحفيظ القرآن الكريم وأوصى زوجي به كثيرًا.
كان تفوقه يظهر يومًا بعد يوم، وكلما حفظ سورة أتى ليكررها عليَّ حتى أتم المصحف بكامله حفظًا وترتيلاً. ذات مساء أتاني فرحًا وقال:
لقد قال لي المعلم إنه رشحني لجائزة عالمية في حفظ القرآن الكريم يتبارى فيها أطفال من كل أنحاء العالم. قلت له:
هل أنت مستعد يا ولدي لها؟ أجابني بثقة وإشراق لم أر لهما مثيلاً:
نعم، كل الاستعداد. ضممته إليَّ، أعطيته من الحنان كما لو كان ابني حقًّا وقلت له:
منذ اليوم سأراجع معك سور القرآن الكريم سورة سورة، وسنكرر ذلك إلى حين موعد المسابقة.
وذلك ما كنا نفعله حقًّا. كنت أتصور أحيانًا أن هذا الطفل يرى بنور الله، كيف لا وهو يحمل كتاب الله في صدره ولم يتجاوز السابعة بعد من عمره.
حان موعد المسابقة، تمنيت بعمق أن يفوز أو حتى أن يكون ضمن لائحة الفائزين، لأني رأيته قد وضع كل آماله فيها. وفي يوم المسابقة، ألبسته أحسن الثياب وعطرته ثم أخذناه، وجاء دوره ليتلو القرآن، فوجدتني أردد والدموع تملأ عيني: “اللهم لا تكسر قلب ابني هذا”.
كانت المنافسة شديدة وأطفال بارعون من دول شتى يرتلون بأصواتهم الشجية تتابعهم كامرات القنوات الفضائية وشخصيات مرموقة حضرت هذا الحفل. وبعد ساعات من التباري، حانت لحظة الحسم والنطق باسم الفائزين، تشبثت بيد زوجي وقلبي يلهج بالدعاء.. وأتانا قرار لجنة التحكيم بأن الفائز الأول هو ابني.. سالت دموعي أنهارًا وأنا أهتف: الحمد لله الحمد لله. نظرت إلى زوجي في فرح، وجدته هو الآخر يغرق في بحر من الدموع.