لقد شابه فريد الأنصاري علماءنا الأقدمين في سعة الاطلاع وتنوع المعارف، فكان معجزة من معجزات هذا الزمان، وفلتَةً من فلتاته، فبالنظر إلى حياته القصيرة وعمله الكبير تفهم أن هذا الرجل كان مؤيداً من السّماء، وما ذاك -حسب نظري– إلا بسبب تعلقه بكتاب الله تعالى المعجز المبهر، فأخذ بذلك منه بطَرَفٍ في إعجازه وإبهاره، وهو القائل رحمه الله في بعض كلامه “من تمسّك بالقرآن المحفوظ فهو محفوظ”
إذا أتينا للتّفسير وجدنا فريداً فارسه المغوار القدير، تمثّل ذلك في تمكُّنه من كرسي التفسير بالمسجد الأعظم بمدينة مكناس، حيث كانت إقامته رحمه الله، وقد جُمع له لحدِّ الآن : تفسيرسورة البقرة وآل عمران، وإذا يمّمنا وجهنا شطر الأصول والمقاصد، ألفيناه وريثَ العالم الكبير أبو إسحاق الشاطبي، حيث وضع رسالته للدراسات العليا حول (مصطلحات أصولية عند الشاطبي) وكان شبيها بالجزء الأول، حيث اشتغل فيه على كتاب “الموافقات والاعتصام” للشاطبي على مستوى الإحصاء والمتابعة، والتدقيق في بعض المصطلحات التي كانت قيْدَ دراساته، ثم جاءت رسالته للدكتوراه في “المصطلح الأصولي عند الشاطبي” وهي مطبوعة يقصدها كل طلاب العلم من مختلف البلاد. وإن توجّهنا للشعر والأدب ألفينا فريداً رحمه الله، أديبًا ألمعيًا، وشاعرًا كبّارًا، يكتب العموديَّ فيتقنه، والتفعيليَّ فيتقنه، وعلى مستوى الرواية تعتبر روايته “كشف المحجوب” باكورة عمله الأدبي، ومن أهم ما كُتِبَ من الروايات في الأدب بالمغرب والعالم العربي، حيث أخذ فيها مسلكًا عجيبًا فريداً على شاكلة (السِّير غير الذاتية) كحال بعض الكتاب الذين يحكون عن أنفسهم، ومما يؤثر عنه أيضا أنه كان يقرأ الرواية بالفرنسية كما حكى بذلك زميله بالكلية الأستاذ: عبد الناصر لقّاح.
من القرآن إلى العمران
يشرف العلماء بالمشاريع التي يقومون بها، ويجعلونها همهم الكبير وشغلهم الوحيد، ولذلك اختار أستاذنا الجليل فريد مشروعًا لا كغيره من المشاريع، اختاره من نبع صاف وبدون وسائط، إنه مشروع القرآن الذي جسّده عنوانه المختار “من القرآن إلى العمران “
هذا هو مشروع فريد الأنصاري الذي أراد أن يعرف به، ويجاهد خصومه به، لكنه قبل أن يجاهد به الخصوم جاهد به نفسه أولاً، وحملها عليه حملاً ثقيلاً، فقد التصق فريد بالقرآن وبحقائقه التصاق الطالب بشيخه، والولد بأمه، تعليمًا وتعلمًا، تزكية وتخلقًا، وكان يرى أن أول شيء أحق بالمعرفة هو القرآن وطبيتعه، باعتباره الكتاب المعبِّر عن غاية الوجود الإنساني، والمفصح عن طبيع الخالق عز وجل، فيقول:”إن أول ما يجب أن يعرفه الإنسان من القرآن هو طبيعة هذا القرآن، من حيث هو رسالة رب الكون، مرسلة إلى واحد من أهم سكان الكون: الإنسان أنت، يا صاح، وأنا، وكل إنسان..فكان ذلك هو البلاغ الأول للقرآن”.
هكذا اختار الأنصاري رحمه الله أن يقضي حياته، وهكذا أفضى إلى ربه مستمسكًا بالقرآن، ومستبصرًا به وداعيًا إليه، وكان رحمه الله يروم من هذا كله، استخراج عمران الإنسان بدءًا، وعمران السُّلطان انتهاءً :
فالإنسان العمراني عنده: هو الفرد والجماعة، المؤسسة والدولة، هو الوجداني الفردي والجماعي الذي يعمل كله وفق القرآن، وأما عمران السلطان ؛ فهو ذلك البناء العمراني الشاهق، والأثر الحضاري المتناسق الذي يبزغ في الأرض كأثر لسراجِ القرآن المضيء الذي لا ينطفئ أبداً، إنه العمران الذي أشارت إليه الآية الكريمة (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور)(الحج:41) ونتيجة هذا التزاوج بين عمران الإنسان وعمران السلطان هو تحقيق الاستخلاف المنشود في الأرض، والصدع بكلمة الله في كل الاتجاهات على كل المستويات، ليكون العمران البشري كله ناطقا ببسم الله، وفيه أثر من نسمة الإيمان والعمل الصالح، أما مهمة الإنسان في هذا المضمار فهو ما عبّر عنه فريد بقوله :“فما عليك الآ ن يا صاح إلا أن تتناول التصميم القرآني لهمدسة العمران، فتشره بين يديك نشراً، تتبين معالمه، وتتبصر موازنيه، وتشرع في التنفيذ، بناء وتعميرا، وكل كلام دون ذلك مضيعة للاعمار في غير طائل، ويكفي الامة ما أهدرت – ولا تزال- م الطاقة في الجدل والكلام”
كان خطاب فريد لا يفتر عن التذكير بمحاسن الاخلاق والدعوة إليها، والتنبيه على مذامِّ الأخلاق التي جاءت في القرآن خاصة ما حكى القرآن عنه. إن الكلام عن الشيخ فريد الأنصاري كلام لا ينتهي، فهو صاحب مشروع كبير، حمل همّهُ مذ كان صغيرا في الطلب إلى أن صار عالماً كبيرا يُطلب، وما حاولت ذكره هنا قليل من كثير، وثمرة واحدة من شجرة طيبة باسقة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.