الأعماقيون من رواد الروح وعشاق الأغوار منهم، قد يحظون -وهم في استبحار روحي، ومن خلال الموج الهادئ، واللجِّ الساجي- بأسرار مذهلة لم تكن لتخطر لهم على بال، فيها الكثير من رهبة الغموض والخفاء، وسحر الجمال، وكبرياء الجلال، مما لا يَقوون معه من شدة الذهول على الهمس به حتى لأنفسهم فضلاً عن غيرهم، لأنهم لا يجدون الكلام الذي يستطيع أن يستوعب المعاني العظيمة التي منحتهم الروح إياها، لعجزهم عن حصر ما لا يحصر، وتقييد ما لا يقيد، بعبارات مهما بلغت من الدقة فإنها لا تبلغ شأو هذه المعاني الكبيرة والعظيمة.
والروح وإن كانت محجَّبة عنا بألف حجاب، غير أنها تظل تتراءى لنا بصور مختلفة وأشكال متنوعة فتنبئ بذلك عن نفسها، وتومئ إلى حضورها، وذلك بوسائل كثيرة وأساليب مختلفة؛ كالرؤى والأحلام، وقوة الخيال وسعته، وصدق الظنون، ورهافة الأحاسيس والمشاعر، والإلهام الذي لا يخطئ، والتكهن بما سيكون، وتوقع وقوع الأحداث قبل وقوعها… وفي الروح يرقد ماضي الإنسان، وفيها تحتدم صراعات حاضره، وإلى القابل من أيامه تومض الروح وتومئ. وعلى أصحاب الأرواح العظيمة من بني البشر تتنزل العطاءات الإلهية، وتهبط الإيحاءات المقدسة، لتربية الأمم والشعوب والأقوام… وفي الروح تتصفى الأفكار، وتشحذ العقول بالطاقات، وتتزود الأذهان بالإرادات… ومن جمال الروح يولد كل جمال إنساني من شعر وأدب وفن وحكمة ومنطق وفلسفة، ولطبيعتها الجمالية، فهي منزهة عن كل أنواع الحقد والكراهية، فلا شيء يقرب بين أصناف البشر ويؤاخي فيما بينهم مثل الروح التي يشتركون جميعًا باستمداد الحياة منها.
والروح لا تبلى إذا بلي جسد الإنسان بعد الموت، لأنها ليست جسمانية قابلة للتحلل والبِلى، بل هي لطيفة ربانية هبطت إلى الجسد من مكان عَلٍ، وهي ذاهبة إلى هذا المكان عندما تنتهي مهمتها في هذا الجسد، تاركة إياه للتراب الذي جاء منه. وكنه هذه الروح من المغيبات التي يقْصُر علمنا عن القطع فيه برأي، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(الإسراء:85). وكوننا لا نعلم كُنْهَ الروح، لا يمنع ذلك من أن نتعشق جماليتها في الإنسان والكون والحياة، وأن نتابع بشغف صور تشكيلاتها الجمالية وهي تتعرض لنا بمزيد من الاستهواء والإغراء والإبهار، فنتحول بذلك إلى جملة من الأحاسيس المرهفة، والمشاعر الراقية، والسلوك الرفيع، والخلُق العلي.وحتى لو كان التفسخ المريع قد دب في أوصال المرء، وأحاطت به سفالات التدني والسقوط، فهذا ليس مبررًا لليأس من كونه قادرًا على التطهر من أرجاسه، وذلك بالقليل من التوجه إلى “الروح” التي بين جنبيه، والاستعانة بقواها التطهيرية لتطهر نفسه، وتنتشله من الهوة التي كان قد تردى فيها، فلا يعود -كما كان- نفسًا ضالة تائهة في القفر العاري من القيم، والذي من شأنه تحطيم النفس وسحقها دون رحمة.
ولقدسية الروح -ولأنها من أمر الله- سمى الله تعالى قرآنه “روحًا”: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى:52)، وسمى كبير ملائكته جبريل عليه السلام “روحًا”. فتجليات هذه الروح يمكن تلمسها في حقائق الوجود والكون والطبيعة والحياة، والتي يفني الإنسان عمره في الكشف عما هو غائب منها عنه. ففي الروح تكمن أعلى الحقائق وأصدقها وأعظمها، فالألمعية والذكاء والعبقرية إنما هي إشعاعات روحية تخترق رؤوس أصحاب العقول المفكرة. والروح تتكلم إذا أرادت الإفصاح عن بعض كنوزها بالرمز والإيماء والإشارة، وتترك للعقول حرية إدراك ما وراء هذه الرمزيات والإيحائيات والإشارات، وعلى قدر الجهد المبذول في التفكر، تأتي الحقائق تباعًا.
وللروح أنفاس يفوح منها عبق حياة الأكوان، وروائح الجنان، وهي لا تتوقف أبدًا عن نث رذاذ مطهر من المروج اللاهوتية المغيبة. وليس للروح حدود تقف عندها، ولا سدود تصدها عن اختراق المحجبات. والروح إذا ماجت وعصفت، أتت الأرواح المصروعة فأقامتها من صرعتها، والهامات المنكوسة فأقامتها من منكوسها، والأفئدة العطشى فروتها وسقتها، والأفكار النائمة فأيقظتها… وهي وحدها يمكنها أن تأخذنا عن أنفسنا لنراها من الخارج، فنتقصى عيوبها، ونهتدي إلى نقائصها… وإذا ما فاضت الروح وألقت بعلومها تحت أعيننا، فإننا نستطيع عند ذاك أن نفهم من أين تأتينا القوى الحيوية التي نصارع بها الزمن ونتغلب على ويله الوبيل.