تمتاز الرسالة الإسلامية عن الرسائل السابقة بأنها رسالة للعالم أجمع، وليس لقوم بعينهم، وقد أعلن الله سبحانه هذه العالمية بنفسه في غير آية من كتابه الكريم، وطلب من رسوله أن يعلن ذلك، وأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكدها القرآن بخطابه العام إلى البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)(البقرة: 21)، وأكدها مرة أخرى بنقده للأديان السابقة، وبيان ما في بعضها من فساد ذاتي، وما أصاب بعضها من تحريف أطفأ نور الحقيقة فيها، ويفهم من هذا النقد للأديان السابقة أن القرآن يدعو العالمين إلى الإيمان بالرسالة الجديدة، وهذا من خصوصياته – عليه السلام –عالمية الرسالة وعالمية الدعوة، إذا كانت الرسالة عالمية فلا يصح أن تكون الدعوة إليها قطرية أو مؤقتة بزمن معين، ولا يصح في العقول حينئذ إلا أن تكون الدعوة عالمية زمانًا ومكانًا. وقد هيأ الله تعالى المناخ الفكري لهذه العالمية من ناحيتين:
الأولى: أن ختم النبوة بمحمد –صلى الله عليه وسلم– وهذا يعني أن خطاب السماء للأرض سيستمر من خلال الرسالة المحمدية التي كتب لها الدوام، وكتب على أتباعها تبليغها.
الثانية: أن جعل معجزته –صلى الله عليه وسلم– معجزة فوق المادة، تتحدى الفكر البشري إلى قيام الساعة، ومن عجيب صنع الله أن سخر فكر الكثيرين ممن ينتمون لأديان مختلفة للتدليل على صدق المعجزة القرآنية، ما يحقق عالمية الدعوة.
كيف نقنع العالم بعدالة قضيتنا وسماحة دعوتنا إذا قدمنا لهم إسلامًا حادًا متشنجًا يهدد أمن الناس وحياتهم.
ويخطئ من يحصر وسائل تحقيق عالمية الدعوة في آليات معينة، إذ إنها تتجدد بتجدد الزمان، وكانت قديمًا تتمثل في السفر إلى مختلف أنحاء المعمورة في وجود قوة تحمي الدعاة وتؤمن وصول الكلمة، ولم يكن ثمة وسيلة أخرى.
وكان – صلوات الله عليه – أول من عولم الدعوة وخرج بها عن حدود الجزيرة العربية “فبعد صلح الحديبية وبدءا من السنة السابعة للهجرة بدأ الرسول –صلى الله عليه وسلم– في المجال التطبيقي يحقق عالمية الدعوة ويخرجها من نطاق الجزيرة العربية؛ حتى يحقق البعد الإنساني العالمي غير المحدود بالمكان أو القوم أو الزمان، فأرسل – عليه السلام – رسله يحملون كتبه إلى الملوك والرؤساء والأمراء في عصره، لا يفرق في دعوته بين قيصر ملك الروم وكسرى إمبراطور الفرس وأمراء الحدود كالغساسنة والمناذرة، ثم جاء أصحابه من بعده –رضي الله عنهم – وأكملوا المسيرة، وهكذا كان الإسلام فكرًا وتطبيقًا عالميًا منذ نشأته.
ربما يظن البعض أن وسائل تحقيق عالمية الدعوة تقتصر على التأليف والترجمة والنشر في الكتاب أو المقال الورقي أو عبر الوسائط الإلكترونية بل لها أكثر من وسيلة وعامل منها:
1- حب الدعوة والرغبة في ممارستها، سواء كنا من العاملين في ساحة العلوم الدينية، أو من العاملين في أي مجال؛ إذا راعينا جانبًا دعويًّا في أعمالنا.
2- نظريًّا يجب أن نستفيد من آليتين أرسى أجدادنا أصولهما تدعمان صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، إنهما القياس والاجتهاد.
3- الاهتمام بالعمل الجماعي الذي لا ينفك عن تقسيم العمل وإعداد الجداول الزمنية والدراسات اللازمة .
يخطئ من يحصر وسائل تحقيق عالمية الدعوة في آليات معينة، إذ إنها تتجدد بتجدد الزمان
4- احترام التخصص، كشفت هذه نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية أهمية احترام التخصص في الإسلام، وهو أمر رماه الكثيرون خلف ظهورهم، ونصبوا أنفسهم مفتين في مسائل تتوزع بين كوكبة من أهل الاختصاص، وذلك على الرغم من أننا نحيا في عصر تتسابق فيه الأمم إلى التسلح بالعلم، وإلى التخصص في دقائق العلوم .
وقد حذر علماؤنا منذ بداية عصر النهضة من الأخذ عن غير المختصين: “لا يؤخذ بكلام من هم خارج إطار علم أو صنعة في مسألة من مسائلهما دارت حولها المناقشة، حتى لو كانوا عظماء وعلماء وصناعا مهرة في اختصاصاتهم”.
5- ينبغي فهم الخطاب القرآني بنظرته الشمولية للكون والحياة والإنسان قبل إبلاغه على هذا النحو أيضا.
-6فهم العالم المحيط بنا إجمالاً، وفهم واقع موطن الدعوة على وجه الخصوص.
7- ينبغي أن يتزين الداعية بزينة المدنية، ثقافة وخلقًا والتزامًا بدينه، واختيارًا للكلمة الطيبة.
8- مراعاة الأولويات، أي ترتيب الواجبات والبدء بالأهم فالمهم. وهذه المسألة لفرط أهميتها يقترح أحد العلماء المعاصرين جعلها علمًا مستقلاً، ولعل أول من كتب عن الأولويات من معاصرينا هو الأستاذ سعيد النورسي، إذ عندما سئل عن مسألة بعثة الرسل من الجن أجاب: “أخي العزيز حقا إن لسؤالك هذا أهمية كبيرة، ولكن لما كانت أهم مهمة لرسائل النور إنقاذ الإنسان من شباك الضلالة وظلمات الكفر المطلق فإن تسلسل الأولوية يحول دون بلوغ مثل هذه المسائل”.
9- إزاء قتل مدنيين على أيدي جماعة تنتسب للإسلام يجب أن نكون أول من يدين هذه الجريمة، لا نفاقا لحكومة نعمل فوق أرضها، بل إظهار لمبدأ إسلامي هو حرمة قتل المدنيين، وحماية لدعوتنا من إلصاق تهم العنف والإرهاب بها. إذ كيف نقنع العالم بعدالة قضيتنا وسماحة دعوتنا إذا قدمنا لهم إسلاما حادا متشنجا يهدد أمن الناس وحياتهم؟! لابد أن يعي العالم أن هذا الدين رحمة للإنسانية، يدعو إلى حياة آمنة للجميع، فيها تعارف وتحاور وتواصل”.