كثيرةٌ هي المواقف والأحداث التي أذهلت البشرية بروعتها وجمالها، ومع تعدد الأمكنة وتباين الأزمنة واختلاف المواقف، يحكي التاريخُ أمورًا سجلَها عبرةً للخالفين يأخذون منها ما يقوي عودهم ويعضد عزيمتهم، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل وطئ الثرى، فقد أرسل ببعثته رسالةً من نوعٍ خاص تهدي الحيارى، وتروىي الظمأى وتنير الطريق، وتبعث الأمل الذي فتر في القلوب..، لقد سجلت كتب السير ما يذهل العقول، وينير البصائر ويشرح الأفئدة بأخلاق سيد الخلق النبي المجتبى والرسول المصطفى، ولله در القائل:
وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني | وَأجْمَلُ مِنكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ |
خــلقتَ مــبرأً منْ كلّ عيبٍ | كأنـــكَ قــدْ خــلقتَ كـما تشاءُ |
وفي ظلال هذه الجنان الوارفة لخير الرسل، نعبرُ عبورَ من أرهقه التعب، وتاهت به السبل، وتخطفته يد الردى، حتى أمسى ظمآن تائقًا، وهنا ومع استنشاق أولى نسمات عبير النبوة الطاهرة، وبالولوج في رحابها العطرة تتبدد الآلام، وينقشع الظلام وتسكن النفس في طمأنينة ووداع..، فدعونا نتجول برفقٍ في حدائق النبوة، نقطف من كل بستانٍ زهرةً نتضوعُ ريحَها الطيب ليضيء لنا الطريق في دنيا الناس.
جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم:
إن علاقة الرسول الكريم بالمال علاقة من نوع خاص؛ فهو على ما عهِد الناس من حب للمال واكتنازه، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبدًا..، ولعل موقفَه مع أبي سفيان خير شاهد على ذلك، لقد جاء أبو سفيان (1) إلى الرسول، وهو في وادي الجعرانة، وقد رأى من الغنائم الهائلة التي لا يحلم بها عربي، وحينها لم يتمالك نفسه إلا أن قال -وهو ينظر إلى الغنائم-: “يا رسول الله، أصبحتَ أكثر قريش مالاً”، فتبسّم ولم يتكلم، فلما رأى أبو سفيان أن التلميح غير مُجْدٍ، قال:” أعطني يا رسول الله من هذا المال”، فقال الرسول في يسرٍ وسهولة: “يَا بِلاَلُ، زِنْ لأَبِي سُفْيَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنَ الْفِضَّةِ، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ”.
فتعجب أبو سفيان من هذا ونظر إلى العطايا وهو لا يصدق نفسه لكثرة الأغنام والإبل والفضة، ثم قال: “ابني يزيد، يا رسول الله”، فقال النبي: “زِنْ لَهُ يَا بِلاَلُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ”.
فقال أبو سفيان: “يا رسول الله، ابني معاوية”، فقال رسول الله: “زِنْ لَهُ يَا بِلاَلُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ”.
ذهل أبو سفيان، وقال في صدق: إنك الكريم، فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك، فنِعْمَ المحارب كنتَ، ثم سالمتُك فنعم المسالم أنتَ، جزاك الله خيرًا.. نعم إن هذه الشهادة جاءت ممن حارب الإسلام ونبيه كثيرًا ولهي خير دليل على أن رسول الله إنما ينظر إلى المآلات، فما قيمة المال أمام تأليف القلوب واستقرار الدولة الإسلامية وهداية الناس إلى الخيرلا شيء(2).
ومواقفه صلى الله عليه وسلم كثيرة في السخاء كموقفه مع صفوان بن أمية، وعيينة بن حصن زعيم قبيلة فزازة، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام وغيرهم إلا أن موقفه مع الأخير فيه درسٌ لنا جميعًا، فقد حكى حكيم بن حزام، وهو من مسلمي الفتح، ما دار بينه وبين الرسول، يقول حكيم بن حزام: سألت رسول الله، فأعطاني مائة من الإبل. ثم سألتُه فأعطاني مائة ثانية، ثم سألتُه فأعطاني مائة ثالثة. ولما تاقت نفس حكيم للزيادة ولم تقنع أراد الرسول الكريم أن يعلمنا هذا الدرس في شخص حكيم، فقال الرسول: “يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ -يعني: بغير شرط ولا إلحاح- بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، وَتَشَوُّفٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يِأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى”.
وقد وعى حكيم بن حزام الدرس، وفهم مراد الرسول، فبردِّ المائة الثانية والثالثة، وأخذ المائة الأولى فقط، ثم قال في صدق: “يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحدًا من بعدك يا رسول الله حتى أموت(3).
وفاؤه صلى الله عليه وسلم:
لقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة بل وأعجبها في الوفاء لكني آليتُ على نفسي أن أذكر مواقف كثيرًا ما يغفلها قراء السيرة، فوفاؤه صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب لا يخفى، لكن السؤال هل كان لزوج عمه نصيب من هذه الوفاء وهي التي ربته صغيرًا وآوته فقيرًا في بيت عمه وأحسنت إليه، تعالوا بنا ننظر ماذا روى أهل السير عن وفائه صلى الله عليه وسلم بزوج عمه أبي طالب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “لما ماتت فاطمة بنت أسد -أم عليّ رضي الله عنها – دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال:”رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيننى، وتعرين وتكسيننى، وتمنعين نفسك طيبًا وتطعميننى، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة”، ثم أمر أن تغسل ثلاثًا ثلاثًا، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلامًا أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطجع فيه، وقال:”اللهُ الذي يُحيى ويُميتُ وهو حيٌ لا يَمُوتُ اغفر لأمي فاطمة بنتِ أسدٍ ولقنها حجتَها ووسعْ عليها مُدخَلَها بحقِ نبيك والأنبياءِ الذين من قبلي. فإنك أرحم الراحمين”، وكبر عليها أربعًا وأدخلها اللحد هو والعباس وأبوبكر رضي الله عنهما، وعن ابن عباس قال: “لما ماتت فاطمة أم عليّ خلع رسول الله قميصه وألبسها إياه واضطجع في قبرها، فلما سوى عليها التراب قال بعضهم: يا رسول الله! رأيناك صنعت شيئًا لم تصنعه بأحد؟ قال: إني ألبستُها قميصي لتلبسَ من ثيابِ الجنةِ، واضطجعتُ معها في قبرها لأخففَ عنها من ضغطةِ القبر، إنها كانت أحسن خلق الله صنيعا إلى بعد أبي طالب(4).
ولم يكن وفاؤه صلى الله عليه وسلم بعهوده الشخصية الذي عقدها هو بنفسه فحسب، بل إنه كان يغرس هذا الخلق النبيل في قلوب الصحابة ويؤكده حتى مع الأعداء في وقت الحرب، فعن حذيفة بن اليمان قال: “ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال فأخذنا كفار قريش قالوا إنكم تريدون محمدًا فقلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال:” انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم”(5).
نعم حتى مع الأعداء يفي بالوعد، فالغدر ليس من شيمته والوفاء سجيته، فقد وفىّ للصحابة بالعهد برغم أن ما أخذاه على نفسيهما لم يرق لدرجة العقد وأنهما اضطرا إليه، وقد وقع بشكل فردي منهما.. برغم كل هذا لم يمنع رسول الله الصحابيين الجليلين، مع شدة احتياجه لهما في الميدان، من أن يفيا بعهديهما. في ملمح من الوفاء قل أن يجود الزمان بمثله؛ فحاجته صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة الأخلاق أولى عنده من كل شيء.
العفو عند المقدرة:
موقفه صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة وعفوه عن قريش أعظم من أن ينسى، فقريش نفسها استشرفت هذا بقولهم:”أخ كريم وابن اخ كريم”. وإن كنّا بصدد عفوه صلى الله عليه وسلم فيطيب أن أذكر ما ذكره بعض أصحاب السير من موقفه صلى الله عليه وسلم مع مالك بن عوف(6).
ذكر ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل؟
فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف.
فقال: “أخبروه أنه إن أتاني مسلمًا رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل”، فلما بلغ ذلك مالكًا انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة – أو بمكة – فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله، ولما أعطاه مائة، وليت الأمر توقف عند هذا الحد برغم شدة عداء مالك للإسلام ونبيه، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فاجأ الجميع بأن استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفًا لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم(7).
فسبحان من زينه ربه بالخلق الجميل، وهذا غيض من فيض من نفحات سيرته العطرة وصفاته النبيلة.. هدانا الله وإياكم لاتباع سنته والتخلق بأخلاقه إنه نعم المولى ونعم النصير.
الهوامش:
(1) وهو زعيم مكة الأول والذي ظل يحكم مكة ست سنوات متصلة من غزوة بدر إلى فتح مكة، وهو من أصحاب رءوس الأموال الضخمة في مكة.
(2) من موقع قصة الإسلام بتصرف.
(3) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب تأويل قول الله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين.
(4) المرجع: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807 بتحرير الحافظين الجليلين: العراقي وابن حجر، المجلد التاسع، باب مناقب فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنها، أبو نعيم في المعرفة والديلمي، وسنده حسن.
(5) صحيح مسلم،كتاب الجهاد والسير، باب الوفاء بالعهد.
(6) هو مالك بن عوف بن سعد بن يربوع ابن دهمان ، يرتفع نسبه إلى نصر بن معاوية بكر بن هوازن، ويلقب بأبي علي النصري نسبة إلى أحد أجداده نصر بن معاوية، ذاع صيته فارساً بعد الإسلام؛ إذ تأخر إسلامه إلى ما بعد غزوة حنين، كان مالك زعيمًا خطيرًا من زعماء العرب، وقد استطاع أن يجمع جيشًا رهيبًا من قبائل هوازن وأعوانها من قبائل ثقيف وغيرها، بلغ قوامه خمسة =وعشرين ألف مقاتل، وهو أكبر الجيوش العربية مطلقًا، وحفَّزهم تحفيزًا كبيرًا لقتال رسول الله ، لدرجة أنهم قبلوا أن يأخذوا معهم إلى أرض القتال نساءهم وأولادهم وأنعامهم وأموالهم كحافزٍ لهم على عدم الفرار.
(7) البداية والنهاية لابن كثير، الجزء الرابع، قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول.