الميزان اسم آلة يوزن بها الشيء، واحتاج البشر للموازين كوسائل ضبط معاملاتهم اليومية، وكانت تحدد بأشياء ثابتة ومتداولة كالحبوب، ثم استخدمت الأحجار والمعادن كوحدات لوزن الأشياء. وكرست أغلب الحضارات القديمة نظمًا للوزن، وتوالى ظهور الموازين التقليدية، والميكانيكية، والإلكترونية، وكان منها الميزان ذو الكفتين، وذو كفة واحدة، وزنبركي، وبندولي، وطبلية، وقباني، ورقمي، ومياه، خيط، وبسكول… إلخ.
والوزن هو قوة جذب الأرض للجسم، بينما تقاس الكتلة (مقدار ما يحتويه الجسم من مادة وهو مقدار ثابت سواء على سطح الأرض أو القمر) باستخدام الميزان ذو الكفتين أو ذو كفة واحدة. أما المواد الدقيقة كالذهب فتوزن كتلتها بالميزان الحساس. كما ابتكر الناس “الوزن النوعي” للمواد، و”الميزان الطبيعي” للكشف عن نقاء المعادن الثمينة، واكتشاف غشها، فضلاً عن وزن الأجسام في الماء والهواء على السواء، وتعاملوا بـ “الدينار”، و”الدرهم”، و”الرطل”، و”المد”، و”الصاع”، و”المكوك”، و”الفَرَق، و”القفيز”، و”الجريب”، و”المكتل”، و”الإردب”، و”الوسق”، و”الكُرّ”، “حبة الشعير”، و”النواة”، و”النش”، و”الدانق”، و”الطوج”، و”الفلس”، و”الأوقية”، و”المثقال”، و”القنطار”، و”الرطل”، و”الجرام”، و”الكيلوجرام”، و”الطن”… إلخ.
الميزان هو الشرع الذي يقاس به أعمال الخلائق توحيدًا وإخلاصًا، عبودية وعبادة، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية، الذي أخذ منهما الشرع
الميزان الحق
والوزن: الإستقامة علي الطريقة، وملازمة الفضيلة. والميزان هو الشرع الذي يقاس به أعمال الخلائق توحيدًا وإخلاصًا، عبودية وعبادة، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية، الذي أخذ منهما الشرع، ولا بد من قياس الأعمال بهذا الشرع الحنيف، وهو العدل، وأداته، وعينه لإقامة نظام الخلق، وتدبير أمر الخافقين. ولمَّا تم تبيانه عرفت القلوب ذلك؛ فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الأمور. ووضعه في الفطرة، في المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن؛ ويستقر الوزن بالقسط بلا طغيان ولا خسران. وهو العدل بين العباد في الأقوال والأفعال، والمساحات التي يضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل فيها بين المخلوقات.
ويجب أن يكون ميزان الله – عز وجل – هو المصدر الذي ينطلق منه المسلم في وزنه وتقويمه ومواقفه كلها؛ لأنه الميزان العادل الشامل.
وما أعظم رفع هذه السماء الهائلة الواسعة، ووضع الميزان، ميزان الحق؛ وضعه ثابتًا راسخًا مستقرًا، تنويهاً بشأن العدل، ونسبه إلى العالم العلوي، عالم الحق والفضائل، تقديرًا لقيم الأعمال، والأشخاص، والأحداث، والأشياء؛ فلا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها عن جهل، أوغرض، أو هوي. لذا كان الأمر بإقامة العدل من أهمِّ ما أوصى الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم. وقد أوصى الله تعالي الناس الوفاء بالمكيال والميزان بالقسط وألا يطففوا الكيل، وألا يغشوا في الوزن، وهددهم باشد وعيد وتهديد: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(سورة المطففين: 1-6).
والميزان هو العقل، والفكر الذي زودنا الله به لنتعرف إلى كتابه تعالى.. المسطور والمنظور ، يقول الأستاذ “فتح الله كولن”: “الإنسان سائح، والكون معرض للمشاهد الملونة، ومكتبة زاخرة مطروحة لنظَره وتأمّله وسياحته. وهذا السائح أُرسِلَ إلى هذا العالم لكي يقرأ هذه الكتب، ويزيد في معرفته. هذه السياحة الممتعة لا تتيسّر للإنسان إلاّ مرة واحدة. وهذه السياحة الوحيدة تكفي بالنسبة لصاحب العقل الرشيد، والقلب اليقظان لإنشاء جَنَّاتٍ كجنَّات عدن، وكجنَّات “إرَم ذات العماد”. أما بالنسبة للذين يعيشون مغمضي العيون، فلا تكون سوى لحظة عابرة تأتي ثم تمضي بسرعة” (الموازين، ص:35).
الموازين الذوقية
يحتاج علم الموازين الذوقية لفهم مضامين رسائله، ومكابدة أحواله، والعمل بمقاماته. لأنه عالم الأشواق القدسية المليء بالإشارات والرموز والمعاني الجليلة الموحية: “تحرّكي أيّتها الطَّاقة الإيمانية في الأعماق، فما زال أمامنا شوط بعيد… موازين دقيقة في مختلف هذه الشؤون، تفتح بصره وبصيرته أمام حقائق عديدة قد يغفل عنها وهو في خضمّ هذه الحياة… وهي حقائق تمثل روح الأمة وفكرها وذاتها وماهيتها، وتحول دون ذوبان الفرد المسلم في تيارات الأفكار الواردة إلينا من الغرب أو من الشرق، وتحقق شخصيتنا واستقلال أفكارنا. ثم يزن كل ذلك بموازين الحق العادلة والدقيقة التي لا إفراط فيها ولا تفريط. إنه يرسم للفكر منهاجًا، وللسلوك طريقًا، ويحرص على ألاَّ يجعلنا نسقط في هاوية الضياع، وعلى أن نكون ذوي شخصيات إسلامية مستقلة بنظرتها إلى جوهر الوجود وحقيقة الحياة (الموازين: فتح الله كولن ص:35).
فالموازين تكون للأشياء الجسمانية وغير الجسمانية، فكما أنَّ القبَّاني، وذا الكفتين وغيرهما ميزان للأثقال، فكذلك علم المنطق ميزان للفكر في العلوم النظرية، وعلم النحو ميزان للإعراب والبناء، والعروض ميزان للشعر، والحسّ ميزان لبعض المدركات، والعقل الكامل ميزان لجميع الأشياء. فميزان كل شيء من جنسه، والموازين مختلفة، والميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على أشرفها، وهو ميزان يوم الحساب، وهو ميزان العلوم، وميزان الأعمال القلبية، الناشئة من الأعمال البدنية المعبَّر عنها بالحسنات والسيئات بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق والصفات، والميزان: هو الحساب، وثقل الميزان وخفَّته، كناية عن قلّة الحساب وكثرته.
يحتاج علم الموازين الذوقية لفهم مضامين رسائله، ومكابدة أحواله، والعمل بمقاماته. لأنه عالم الأشواق القدسية المليء بالإشارات والرموز والمعاني الجليلة
ميزان أم موازين؟
أعظم الموازين جميعاً ميزان يوم القيامة وفيه توزن الأعمال والسماوات والأرض. ولقد تكرر لفظ “الميزان” في القرآن الكريم بصيغة المفرد: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)(سورة الرحمن: 7)، وبصيغة الجمع: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةٌ)(سورة القارعة: 6-11). ولعله في ذلك اليوم لا يوجد مـيـزان واحـد للأعمال، بل عدة موازين، وقد يكون لكل إنسان، أو لكلِّ أمَّةٍ، أو عملٍ، ميزان، فالصلاة مثلاً توزن بميزان، وكذلك الصيام والحجُّ والجهاد، أي لكلِّ واحدٍ منها ميزان خاص. فلكلِّ نوع من أنواع الطاعات ميزان، من غير فرق بين أن يكون جسماً أو قولاً أو فعلاً أو عقيدة، فلكلِّ شيءٍ ميزانٌ يميّز به الحقّ من الباطل، والصدق من الكذب، والعدل من الظلم، والرذيلة من الفضيلة.
وقـيـل: إنَّ الـمـيزان هو واحد لا أكثر، وما صيغة الجمع (موازين) إلا لبيان عظمة الميزان. وثمة اختلاف في فهم الموزون: هل هو الأعمال، أو صحائف الأعمال؟. ويبقي أن الأعمال الثقيلة في الميزان: الشهادة بوحدانية اللّه تعالى، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى، والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، وحسن الخلق، والأعمال والطاعات الخالصة لوجه تعالي وإن قَلت. فستوزن دقائق الأعمال ولو كانت كمثاقيل الذر: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(سورة الزلزلة: 7-8).