في فيض المعرفة الضخم الذي نغرق فيه حتى الأذنين بعصرنا الحديث، صار تدبر بعض الأساسيات أمرًا بالغ الندرة ومنعدم الضرورة تقريبًا. أعني، بينما قد تهتم بمطالعة وفهم أحدث نظريات نشأة الكون والثقوب السوداء وإشكاليات ميكانيكا الكم؛ فقد تبدو لك أمورًا أخرى بديهية لا تستأهل منك إلا استخدامها كقالب قرميد تقف عليه كي ترى ما وراء سور ما.
هكذا يمكن لأحدهم أن يشرح لك كيف تكونت المجموعة الشمسية وكيف أن مجرتنا درب التبانة تتكون من النواة أو الحوصلة والأذرع والهالة والقرص وما هي العناصر التي تتولد داخل النجوم، لكنه قد لا يستطيع إجابتك عن أسئلة بسيطة كـ “لماذا تدور الكواكب حول نفسها؟” مثلًا. هذا قالب قرميد آخر لا أهمية له إلا أن تقف عليه كي تتأمل ما وراء السور. لكن هل هذا صحيح حقًا؟!
أعني، هذه معلومة بديهية: “الكواكب تدور حول نفسها.” ولا داعي لأن تصبح مسألة، بل بالأحرى يجب استخدامها كطرف معادلة للوصول إلى نتيجة أكبر! يشبه الأمر أن نسأل “لماذا 1 + 1 = 2”! هذه حقيقة رياضية أساسية للغاية؛ من قد يفكر في إثباتها؟ لكنك قد تندهش متى علمت أن عالم الرياضيات والمفكر الشهير برتراند راسل قد فعلها في الواقع وتطلب الأمر منه أكثر من 350 صفحة من القطع الكبير لإثبات هذه الحقيقية الرياضية “الأساسية” كما نعتقد!
لذا، ما رأيك لو أجبنا عن السؤال البسيط الذي لا تعرف إجابته على الأرجح: لماذا تدور الكواكب حول نفسها؟ لا تقلق، لن يتطلب الأمر كل هذا العدد من الصفحات كما فعل العظيم راسل؛ لكنك في نهاية المقال ستخرج محملًا بأكثر من إجابة هذا السؤال “البسيط”.
الزخم والزخم الزاوي ومصطلحات أخرى تبدو غامضة!
قبل أن نغوص بعالم الفلك والأجسام السماوية، فلنتعرف أولًا عن بعض المفاهيم المثيرة للاهتمام حقًا في عالم الفيزياء، ولنبدأ أولًا بالمصطلح الغامض “الزخم”.
الزخم Momentum في الواقع ما هو إلا “قوة الدفع”. تبدو الأمور أسهل بهذا المعنى بعيدًا عن كلمة “الزخم” الغريبة على مسامع الكثيرين مع أنها بالعربية. الزخم ببساطة هو “الكتلة بينما تتحرك” أو “مقدار” الحركة التي يمتلكها جسم؛ هكذا أي جسم يملك كتلة ويتحرك فإن له زخمًا، وهذا يعني أن الأمر سيتطلب قدرًا معينًا من الجهد لإيقافه عن الحركة. على الأرجح قد سمعت كلمة “زخم” كذلك في الأحداث السياسية المتلاحقة لدولة ما أو حتى لوصف الانتصارات المتواصلة لفريق رياضي. زخم يعني استمرار بالحركة بقوة دفع تتطلب قوة أخرى أو جهدًا لإيقافه؛ وإذا أردنا توصيف الأمر رياضيًا فسنجد أنه إذا كان جسم (بكتلة ك) ويتحرك بسرعة معينة (س)، فإنه يملك زخمًا أو قوة دفع تساوي حاصل ضرب الكتلة × السرعة (ك × س). ووفقًا لقانون حفظ القوة، فعندما يتصادم جسم بزخم مع جسم آخر، فإنه يتوقف لأنه ينقل زخمه أو جزء منه إلى الجسم الآخر الذي يكتسب الزخم بدوره وينطلق بشكل خطي أو يمتصه إذا كان أكبر وأثقل. وهذا ما تعنيه القوة في الفيزياء بالأصل … انتقال الزخم من جسم لآخر. بالطريقة تفسها تؤثر اللكمة القوية من قبضتك بفك خصمك، بعدما ينتقل الزخم الذي تحركت به قبضتك في الهواء إلى جسم ترتطم وتطيح به.
والآن فلننتقل إلى نوع آخر من الزخم … الزخم الزاوّي! وكما هو الحال مع الزخم الخطي، فالزخم الزاوي Angular Momentum هو “مقدار الحركة” التي يجمعها جسم ما بينما يدور حول نفسه أو حول محور قد يمر أو لا يمر بالجسم نفسه. هذا التعريف أو الفهم للزخم الزاوي تغير بشكل كبير وصار أكثر تعقيدًا في الفيزياء الكمية عنه في الفيزياء الكلاسيكية؛ لكن التعريف السابق يبقى صالحًا كأساس للزخم الزاوي.
وكما يحدث مع الزخم الخطي، فالزخم الزاوي يمكن حفظه، أو نقله لجسم آخر. فكروا بما يحدث عندما تقومون بنقف عملة معدنية بإصبعكم لجعلها تدور حول نفسها. وهنا، لا تكتسب العملة زخمًا زاويًا من مجرد “الدوران” حول نفسها، بل من نقفة إصبعك على طرف العملة! إصبعك نفسه هو ما كان يملك زخمًا زاويًا بينما ينطلق في المسافة بينه وبين العملة، وعند الاصطدام ينتقل بعض من زخم الإصبع الزاوي إلى القطعة المعدنية الصغيرة فتبدأ في الدوران حول نفسها! وبالطبع، ينتقل جزء من زخم إصبعك الخطي كذلك إلى العملة، لهذا تنطلق إلى الأعلى بخط رأسي مستقيم.
لكن وفقًا لقانون حفظ الطاقة الذي ينص على أن “كمية الطاقة الكلية في نظام مغلق لا تتغير”، فإنه يتوجب أن تدور هذه العملة إلى الأبد حول نفسها وأن تنطلق إلى الأعلى ولا تتوقف. لماذا لا تفعل هذا؟ لأنها ليست بنظام “مغلق”! النظام المغلق هو نظام لا يتبادل طاقة أو بيانات أو مادة أو تأثير مع الوسط المحيط؛ وهذا لا يتوفر في الواقع إلا في الفضاء الخارجي. على الأرض هنا وحيث تنقف عملة بإصبعك، ستحتك العملة بالهواء الذي سيستنزف الزخم بالعملة مع الوقت بانتقاله إليه، مما يبطيء من دوران العملة واندفاعها تدريجيًا بالإضافة إلى قوة سحب الجاذبية على العملة نفسها. لهذا، إذا ما استطعت نقف عملة في الفضاء، فستدور هذه العملة إلى الأبد نظريًا، وستنطلق إلى ما لا نهاية بالفضاء إلى أن تصطدم بقوة أخرى ككويكب صغير بلا جاذبية أو فتات مبعثر ما.
هل لا زلت معي حتى هذه اللحظة؟ عظيم! فلنطبق كل هذا على حركة الكواكب!
لماذا تدور الكواكب حول نفسها؟
يتعلق الأمر بكل ما سبق مع الطريقة والوقت الذي ولدت به النجوم والكواكب. بشكل أساسي تتكون النجوم والكواكب مع انهيار سحب مهولة من الغاز والغبار الكوني تسمى السحب بين النجمية Interstellar Clouds. تتميز العناصر التي تتكون منها هذه السحب بأنها في حركة مستمرة لا تهدأ بينما تتحرك السحب نفسها وهو تدور حول مركز المجرات بتأثير من جاذبيتها.
كنتيجة لهذه الحركة، تكتسب هذه السحب دورانا بسيطًا حول نفسها، وهذا الدوران يمكن وصفه بأنه “زخم زاوي”، أي مقدار معين من الحركة المحفوظة التي لا يمكن أن تتغير. حالما تبدأ هذه السحب العملاقة في الانهيار، فإنها تنقسم إلى أجزاء أصغر تبدأ هي الأخرى في الانهيار على نفسها بشكل مستقل عن بعضها، وحينها يحمل كل منها جزء من الزخم الزاوي الأصلي الذي كان للسحابة بين النجمية. لقد تحولت السحابة إلى ما يعرف بالنجم الأوّلى Protostellar Disk ومنه ستتولد النجوم وكواكبها لاحقًا من عناصر ما يعرف بالفرص المزود Accretion Disc الذي يحيط بالنجم الأولي. هنا، وبشكل غامض غير مفهوم تمامًا بعد للعلماء، ينتقل الزخم الزاوي إلى الكواكب والنجوم … لقد تم حفظ حركة الزخم بامتياز. لهذا تدور الكواكب وتدور النجوم حول نفسها بينما تنطلق مع كل شيء آخر في الفضاء لتدور حول مركز المجرة ومع المجرة نفسها حول مركز الكون الغامض!
في مجموعتنا الشمسية الصغيرة، تدور الكواكب الغازية (المشترى، وزحل، وأورانوس، ونبتون) بشكل أسرع حول محورها قياسًا بالكواكب الداخلية الأخرى كونها تحتفظ بقدر أكبر من الزخم الزاوي للنظام. الشمس نفسها تدور حول نفسها ببطء مرة كل شهر، بينما تدور الكواكب جميعها حول الشمس. المثير للدهشة هنا هو أن جميع كواكب مجموعتنا الشمسية تدور حول نفسها بالاتجاه ذاته (عكس عقارب الساعة أو من الغرب إلى الشرق عند الرصد من الأرض) ما عدا كوكبي الزهرة وأورانوس، بالإضافة إلى بلوتو إذا اعتبرناه كوكبًا ضمن مجموعتنا الشمسية. ويعزي العلماء هذا الاختلاف في اتجاه الدوران إلى حوادث التصادم التي حدثت متأخرًا بعد تكوين الكواكب.
في النهاية، يجب أن تفخروا بأنفسكم حقًا أن تابعتم القراءة حتى هذه السطور! الآن تعلمون جيدًا لماذا تدور الكواكب حول نفسها، وتعلمون كذلك أن ما كان يبدو كقالب قرميد مُصمت تقفون فوقه للتطلع إلى ما وراء السور هو جدير بالتأمل حقًا، بعدما اتضح أنه يضم لمحات مهمة من نشأة الكون نفسها!
المصدر: موقع الإبداع