انتهى بنا التحليل في الحلقتين السابقتين إلى أن التعددية الثقافية تعبر عن الكيفية التي يتعين بمقتضاها إرساء بنيان التضامن السياسي والاجتماعي في مجتمع متنوع ثقافيا، بما يكفل احترام مكونات هذا التنوع والتكيف معها. وسعيا لبلورة هوية سياسية جامعة، لابد من جذب مختلف الجماعات الفرعية باتجاه الاندماج المؤسساتي، وهو الاندماج الذي يعمل تدريجيا على توليد الشعور بالانسجام أو التطابق النفسي بين مختلف هذه المكونات الثقافية الفرعية والثقافية الجامعة، مع ما يستتبعه ذلك من تحديات تعكسها الخبرة الأوروبية المعاصرة.
ذلك أن المؤسسات العامة تجمع المنتمين إلى شتى الجماعات الفرعية، فتكون هذه المؤسسات ذات امتدادات متشعبة شاملة المجالين الشخصي والسياسي لأعضائها؛ فعلى الصعيد الشخصي، تعنى هذه المؤسسات بتلاقي الناس من مختلف الانتماءات، فيوطدون، بذلك، علاقاتهم المتبادلة التي ترتبط على نحو وثيق الصلة بحياة هذه الجماعات في بيئاتها وأماكن تواجدها. أما على الصعيد السياسي، فتعنى تلك المؤسسات بتعليم الناس كيفية التعامل والتعايش والتفاوض مع بعضهم البعض، رغم اختلافاتهم..
وهكذا، سينتهي المطاف بالاندماج المؤسساتي، بفعل عامل الزمن، إلى بلورة مِزاج عام يوحد الجماعات الثقافية التي تعيش على رقعة جغرافية معينة، بحيث يتحول إلى ثقافة مشتركة تتعايش بموجبها الجماعات الثقافية. فيتكون لدى أعضائها حِسُّ الانتماء إلى وطن مشترك ومؤسسات سياسية مشتركة. ومع ازدياد نطاق هذه الهوية المشتركة ورسوخها، ستختفي بمرور الزمن وضعية الأكثرية – الأقلية، لنكون أمام واقع قائم على أساس الهوية المشتركة التي تعبر عن جميع مكوناتها دون فقدان الأخيرة لخصوصياتها الثقافية.
إن التعددية الثقافية تعبر عن الكيفية التي يتعين بمقتضاها إرساء بنيان التضامن السياسي والاجتماعي في مجتمع متنوع ثقافيا، بما يكفل احترام مكونات هذا التنوع والتكيف معها.
لقد تميزت الكتابات المبكرة بتناولها لموضوع التعددية الثقافية بصورة مباشرة، بحيث ركزت على أهمية الانتماء الثقافي للجماعة وخصوصيتها الثقافية، سواء باعتبارها من “الموروث النفسي-الجسدي” الذي لا يقبل التغيير والتحويل لدى “كولين”، أو من منطلق أن استمرارية هذا الموروث وتناميه سيفاقم من مشكلة كيفية “التعايش بين الجماعات الفرعية المتباينة”، وهي المشكلة التي شدد هوبهاوس على ضرورة معالجتها قبل انفلاتها وتهديدها لوجود الدولة-الأمة نفسها.
والحاصل، أن هذا النقاش الفكري يقع، بالأصالة، ضمن الإطار المرجعي للفكر الليبرالي، من منطلق أن الاتجاه المدافع عن الجماعات الثقافية الفرعية يعد في الجوهر اتجاها ليبراليا ناقدا لليبرالية الفردية التي تمثل الاتجاه المهيمن في الفكر الليبرالي المعاصر، وفي نفس السياق، تندرج نظرية ما بعد الحداثة والنسبية الثقافية، وهي اتجاهات جديدة تتميز بتركيزها على أهمية الجماعات والولاءات الجماعية، فضلا على نقدها الحاد لليبرالية الفردية وأسسها الفكرية.
ففي المرحلة الأولى تم التركيز على نقد الأساس الفكري لليبرالية المتمثل في الفردية ومفهوم الذات، وذلك من خلال الرفع من مكانة الجماعة باعتبارها صاحبة المقام الأسنى مقارنة بالفرد. سعيا لإصلاح الاختلال الحاصل في المجتمعات الغربية على مستوى العلاقة بين الجماعة والفرد؛ بما يحقق صالح الفرد والجماعة معا.
ثم تطور التداول في المرحلة الثانية سعيا للتوفيق وتحقيق الانسجام اللازم بين الحقوق الجماعية والفردية، وإقامة نوع من الشراكة المتكافئة بين الأكثرية المهيمنة والأقليات. أما منذ تسعينيات القرن العشرين، فقد انصب التداول الفكري حول إعادة تقييم مشروع بناء الدولة-الأمة والكيفية التي يجب أن تتعامل بموجبها هذه الدولة مع الأقليات. وأساس ذلك هو أن المساواة والحرية على المستوى الفردي لم تعودا كافيتين لتلبية مطالب الجماعات الفرعية، لأن الوعي بالتباين الثقافي لدى هذه الأخيرة أصبح من القوة بمكان نتيجة السياسات المتبعة في مشروع بناء الدولة-الأمة بصورة عامة.
وهكذا يبدو أن هذا التوجه المتزايد في أوساط النخب الغربية بمثابة تراجع فكري نحو تبني الطروحات الليبرالية التي سادت في فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث تم فيها التركيز على حقوق الأقليات ومبدأ تقرير المصير، ولكن مع تسجيل فارق أساسي مفاده أن الغرض من ذلك إبان تلك الفترة كان متمثلا في استخدام حقوق الأقليات كأداة رئيسية لتفكيك الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية-المجرية، ثم الحؤول دون قيام مثل هذه الدول مجددا، وذلك من خلال التدخل في شؤونها الداخلية، وتسييس أقلياتها، بهدف تصفية كيانها السياسي لاحقا. أما في يومنا الراهن، فإن النخب الغربية تعمل على تبني التعددية الثقافية بهدف المحافظة على كيان الدولة-الأمة ومنعها من الانهيار.
المصدر: موقع مسارات للرصد والدراسات الاستشرافية