في حصة من الحصص الدراسية لمادة التربية الإسلامية، بينما نحن في بناء الدرس وفجأة طرح على أحد التلاميذ سؤالًا غريًبا عن موضوع الدرس، ولكن لأهميته وخطورته اعتنيت به وأجبت عنه بقليل من التفصيل ولو على حساب وقت الدرس، لأن الجواب عنه بدا لي أولى من الدرس.
ومفاد السؤال: كيف يمكننا -نحن التلاميذ- أن نرد على من يقول من بني جلدتنا: إن الدين هو سبب تخلف أمتنا؟
قرّبت التلاميذ من الجواب قائلاً: إن هذه الفكرة تنطبق على الدين الكنسي الذي وقف في وجه الفكر والعلم لسنوات طويلة في القديم، وعندما تحرر الغربيون من قبضة الكنيسة صاروا يقولون: “إن سبب التخلف هو الدين، و لهذا لا يجوز عقلاً تعميم هذه الصفة على جميع الأديان مع وجود الفارق بينها”.
وعليه فإن هذه الصفة تصح في حق الدين الكنسي، ولكنها لا تنطبق على الإسلام إطلاقًا، لأنه دعوة إلى التعقل والتعلم والتفكر كما تؤكد ذلك نصوص القرآن والسنة، وكما تؤيد ذلك شهادة التاريخ؛ فنحن نعلم أن الأمة الإسلامية بنت حضارة عملاقة بفضل تمسكها بالدين الإسلامي. ولم تنزل الأمة إلى الحضيض الحضاري إلا عندما نبذت دينها وراء ظهرها.
فلو كان الدين هو سبب التخلف كما يزعم ضحايا الأفكار الوافدة من الغرب!، لمَا نجح المسلمون الأوائل في بناء حضارة العلم والفكر والثقافة.
ولكن الأمر الذي اندهشت أمامه واستوقفني لحظة تأمل هو سؤال آخر فرض نفسه بإلحاح: ما الذي جعل تلاميذنا يعانون من هذا الفراغ المعرفي والفكري؟ بحيث يعجزون عن المواجهة والتغلب على مثل هذه التساؤلات المزعجة.
وعندما تأملت جيدًا في القضية وجدت أن سبب هذا العجز هو أن ما نقدمه لتلاميذنا في المادة الإسلامية بالصيغة الأكاديمية ربما لا يكفي لصقل الجانب الفكري لديهم، فمدارسنا دأبت أن تقدم لأبنائها مادة التربية الإسلامية في شكل تَعَلُّمات تركز على التعريف بأصول الإسلام وأركانه وكذا التربية على القيم والمعارف الربانية المرتبطة بالجانب التعبدي والمستقاة من معين القرآن والسنة النبوية، وهذه العملية التربوية تكون ملازمة للتلميذ في جميع أسلاكه المدرسية منذ الطور الإبتدائي مرورًا بالإعدادي وصولاً إلى الثانوي التأهيلي.
نحن لا ننكر أهمية هذه التَعَلُّمات التي تقدمها المادة الإسلامية لبناء شخصية التلميذ بل نعتبرها أساسية وضرورية، حتى نُكون أبناء يحافظون على الهُوية الإسلامية ويتحصنون ضد الذوبان في ثقافة الغير.
بيد أن هذا الخطاب التربوي الذي يركز على المعارف والقيم التي تشكل التلميذ وتغذيه بالثقافة والسلوك الإسلاميين، ويغفل في ذات الوقت مباحث وقضايا الفكر الإسلامي التي تُمكن التلميذ من الاطلاع على القراءات والرؤى الفكرية التي قدمها المفكرون الإسلاميون للقضايا الجديدة، وللشبهات التي ألصقها بالإسلام بعض محترفي صناعة الأفكار التجارية.
مثل هذه الرؤية التربوية التي تبدو ناقصة بحيث لا تضم إليها بقوة دروسًا في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر لن تبني لنا إلا مثل ذلك التلميذ الذي توقف حيرانا لا يجد زادًا فكريًّا ومعرفيًّا يدافع به عن قناعاته ويناقش به الأفكار النابعة من الاتجاهات الفكرية المعاصرة، فلو أن هذا التلميذ قد درس فعلا موضوع: “العلمانية والتدين” كدرس من دروس الفكر الإسلامي المعاصر. لَهَان عليه مناقشة ذلك السؤال الذي أربك قناعاته.
لعل إدماج مادة الفكر الإسلامي إلى جوار مادة التربية الإسلامية والربط بينهما في نسق تربوي متكامل؛ هو الحل التربوي الأنسب لسد هذه الثغرة التي يعاني منها تلاميذنا؛ بحيث تتضمن هذه المادة الجديدة دروسًا في الفكر الإسلامي؛ تمنح للتلميذ القدرة على استيعاب النظريات والرؤى الفكرية التي قدمها المفكرون الإسلاميون حيال القضايا والأطاريح الجديدة في مواضيع تهم الأديان والمذاهب والتيارات المعاصرة، لاسيما في عصر تطورت فيه الأوضاع الفكرية والثقافية؛ خصوصًا لدى الغير.
فلو تأملنا في معالم البيئة الثقافية للمسلمين في العصور الأولى؛ لوجدنا أن خطاب الدعوة الإسلامية قد اهتم في البداية بتربية الأمة على الأخلاق، والمعارف العقائدية والتعبدية والقانونية والتنظيمية للحياة .
ولكن ما إن توسعت الرقعة الإسلامية، فاختلطت الثقافات الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتوافدت إلى الساحة الإسلامية أفكار دخيلة ذات صبغة فلسفية تارة؛ كالتي تُمطر بها سماء اليونان، وذات صبغة دينية تارة أخرى؛ كما هو الحال بالنسبة للقراءات التي ينتجها الفكر اليهودي، حتى وجد العلماء المتخصصون أنفسهم أمام ضرورة تطوير وتجديد الخطاب الإسلامي وهكذا ظهرت مناهج جديدة في الفكر الإسلامي؛ كقضية المناظرات العلمية التي توظَّف في إظهار الحق وإفحام المغرضين، حتى أنه يذكر عن أبي حنيفة النعمان رحمه الله، أنه كان سيفًا حادًا على رقاب الملاحدة فقد حاججهم بالأدلة العقلية وأبطل ادعاءاتهم ومزاعمهم.
وفي نفس السياق نسجل أنه عندما كَثُر وضع الأحاديث المكذوبة خصوصًا في البيئة العراقية، اضطرت مدرسة أهل الرأي بقيادة الأحناف إلى الدفع بالخطاب العلمي نحو التمحيص والتدقيق و تحرير المفاهيم من الأدران الثقافية الدخيلة.
وهذا إن دل على شئ إنما يدل على أهمية حضور خطاب الفكر الإسلامي في الفعل التربوي والتعليمي بغرض تكوين وعي إسلامي لدى أبناء الأمة.
وللإشارة فنحن إذ نبين مكانة الفكر الإسلامي في تكوين مناعة فكرية قوية لدى المسلم؛ لا ندعوا إطلاقًا إلى إحياء علم الكلام بالصيغة التي تشكل بها في أوج نضجه، بل نطالب بالفكر الإسلامي الرشيد المؤيد بالأدلة النصية والذي يُعنى بالأوضاع الفكرية والثقافية للمجتمع الإسلامي.
ولتوضيح الإطار المعرفي لمادة الفكر الإسلامي التي نرمي إلى رسم ملامحها وإدراجها إلى جوار مادة التربية الإسلامية في منظومة التربية والتكوين، نقدم المداخل المنهجية الآتية:
- مفهوم مادة الفكر الإسلامي.
الفكر الإسلامي بمعناه الواسع يضم جميع المباحث الفكرية التي أبدع فيها العقل المسلم انطلاقًا من المرجعية الإسلامية، ويدخل في هذا المعنى المعالجة الفكرية للأطاريح التي يمكن أن تحمل في ثناياها تحويرًا للحقائق التي جاء بها الإسلام وأكدها العقل والعادة.
وهذه المادة تندرج ضمن الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، والحكمة تخاطب العقل في الإنسان وهذا هو ديدان الفكر الإسلامي.
-الخاصية المعرفية للفكر الإسلامي.
هو خطاب يهدف إلى التجديد وتحرير المفاهيم وتكوين القناعات المؤيدة بالدليل لدى دارسي الفكر الإسلامي.
وفي إطار المنظومة التربوية يمكن اختيار دروس من قبيل:
- العَلمانية والتدين.
- كيف نقدم ثقافتنا للآخر في زمن المتغيرات؟
- عالمية الإسلام، والعولمة الغربية – سؤال الخصوصية والفعل الحضاري؟
- مناهج التفكير في الإسلام.
- أزمة العقل المسلم.
- العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم المادية.
- العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية.
- حقوق الإنسان في الإسلام.
- سؤال الأخلاق.
- الاتجاهات الفكرية المعاصرة.
- المذاهب الفقهية الأربعة في العالم الإسلامي الأسباب والمقاصد.
- الاستشراق والمستشرقون في الماضي والحاضر… إلخ
- الفئة العمرية المستهدفة بدراسة مادة الفكر الإسلامي.
دراسة الفكر الإسلامي تستلزم من الدارس “التلميذ” أن يتمتع بالإدراك العقلي الذي يسمح له بالفهم السليم للخطاب الفكري، وهذه الخاصية تكون حاضرة في الغالب عند ولوج التلميذ مرحلة التعليم الثانوي التأهيلي.
وعلى هذا الاعتبار فإن الفئة التي ستستهدف بمادة الفكر الإسلامي ستكون فئة السلك الثانوي التأهيلي.
- المقاربة العملية لتدريس مادة الفكر الإسلامي.
لتفعيل هذا المطلب التربوي عمليًّا فلا بد من الدراسة الجماعية من لدن أهل الاختصاص، بغرض الوصول إلى إنتاج صيغة عملية تدفع بتنزيل هذا المشروع التربوي، لضخ دماء جديدة في الجسم التربوي لاسيما في الجانب الفكري لدى التلميذ.