هذا الكون كتاب عظيم كُتبتْ في كل صحيفة من صحائفه مئاتُ الكتب، وأُدرجت في كل سطر منه مئاتُ الصفحات، وخُطَّتْ في كل كلمة منه مئاتُ الأسطر، وتُقرأ تحت كل حرف فيه مئاتُ الكلمات، وحُفِظَ في كل نقطة من نقاطه فهرسٌ مختصر صغير يلخِّص محتوَيَاتِ الكتاب كله..
بينما يدل الحرفُ الواحد على وجوده ويعبّر عن نفسه بمقدار حرف فإنه يعبّر عن أوصاف كاتبه بمقدار سطر.
فهذا الكتاب بصفحاته وأسطره، بل بنقاطه يدل دلالة واضحة ساطعة -بمئات الأوجه- على مصوِّرِه وكاتبه، حتى إن مشاهدة الكتاب الكوني العظيم هذا وحدَها كافيةٌ للدلالة على وجود كاتبه، بل تسوقنا إلى معرفة وجوده ووحدانيته بما يفوق دلالة الكتاب على نفسه أضعافاً مضاعفة. إذ بينما يدل الحرفُ الواحد على وجوده ويعبّر عن نفسه بمقدار حرف فإنه يعبّر عن أوصاف كاتبه بمقدار سطر..
نعم، إنَّ سطح الأرض “صحيفة” من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والإتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، في آن واحد.
والبستان “سطر” من هذه الصحيفة، نشاهد فيه قصائدَ منظومةً وهي تُكتب أمام أعيننا بعدد الأزهار والأشجار والنباتات، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، من دون خطأ.
والشجرة النامية الزاهية أوراقُها، المفتحة أزهارُها، وقد أوشكت أن تخرج أثمارُها من أكمامها، هذه الشجرة “كلمةٌ” من ذلك السطر، فهذه الكلمة تمثل فقرةً كاملة ذات مغزى تعبّر تعبيراً بليغاً عن ثنائها وحمدها ودلالتها على “الحكم” ذي الجمال، بعدد أوراقها المنتظمة وأزهارها المزينة وأثمارها الموزونة، حتى لكأن تلك الشجرة المفتحة الأزهار قصيدةٌ عصماء تتغنى بالمدح والثناء على آلاء بارئها المصور الجليل.
إنَّ سطح الأرض “صحيفة” من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والإتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، في آن واحد.
وكأن “الحكيم” ذا الجلال يريد أن ينظر عبادُه إلى ما عَرَضه من بدائع آثاره وعجائبِ مخلوقاته في معرض الأرض البديع بألوف من العيون. وكأن تلك الهدايا الثمينة والأوسمة الغالية والشارات اللطيفة التي منحها الله تعالى لتلك الشجرة قد أعطتها من الشكل الجميل المزيَّن، والهيأة الموزونة المنتظمة، والإبانة الحكيمة البليغة ما يهيئها للعرض أمام أنظار الملِك العظيم في يوم عيده البهيج وعرضه العام للمخلوقات.. في الربيع الزاهي.. فتنطلق بالشهادة على وجود البارئ المصور، والدلالة على أسمائه الحسنى ألسنةٌ عديدة ووجوهٌ كثيرة متداخلة؛ من كل زهرة من أزهار الشجرة، ومن كل ثمرة من ثمارها.
المصدر: اللمعات، بديع الزمان سعيد النورسي، دار النيل للطباعة والنشر
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف محرر الموقع.